المؤلف : هنري كيسينجر
سعى هنري كيسنجر في كتابه إلى تقييم النظام العالمي الحالي وتقييم كل المناطق الجغرافية التي تمتلك منظومة قيم مناهضة للنظام العالمي الوستفالي، الذي يُنسب إلى معاهدة ويستفاليا التي أنهت حرب الثلاثين عاما في الإمبراطورية الرومانية، التي طحنت أوروبا ودفعت كل الأطراف في نهاية المطاف إلى مخرج من “حرب الكل ضد الكل” (بلغة الفيلسوف توماس هوبز)، ومن خلال تقييم تلك المنظومات سعى للإجابة عن سؤال عما إذا كانت هذه المنظومات تهدد النظام العالمي فعلا، وطرح الخيارات الواجب اتخاذها من الدول الغربية، تحديدا الولايات المتحدة الأميركية، لوأد هذه المنظومات. وقد لخص كيسنجر بنية هذا النظام منذ وستفاليا 1648 وصولا لأيامنا عبر سرد تاريخي للأحداث والوقائع المفصلية التي شكّلت عالم اليوم، مُقدِّما قراءة ثقافية لكل تلك المناطق والبلدان، كالصين وثقافتها واليابان والهند وروسيا والعالم الإسلامي والدول الأوروبية.
والنظام الوستفالي كما يشرحه وزير الخارجية الأسبق يقوم على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الداخلية وعدم جواز انتهاك الحدود، وسيادة الدول، وتشجيع القانون الدولي ودعمه، ويرى أن شروط النظام العالمي المعاصر هي التالي: “وحدات سياسية متعددة ليس فيها واحدة ذات قوة كافية لدحر الأخرى، وكثرة منها متبنّية لفلسفات وممارسات داخلية متناقضة، بحثا عن قواعد محايدة لضبط سلوكها والتخفيف من الصراع”، والطريف في الأمر أن كيسنجر يرى “الأهمية الكونية الشاملة للنظام الوستفالي كامنة في طبيعته الإجرائية وهي حياديته إزاء القيم، فهو قائم على مبدأ توازن القوى”، ولا أدري كيف لعبارة كهذه أن تخرج من فم “العبقري” كيسنجر، فأي أهمية وديمومة لنظام لا يملك منظومة قيم؟
كما أن عددا من منظري المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية التي ينتمي إليها كيسنجر، كروبرت ستروز هربيه (Robert Strausz-Hupé)، يرون “ضرورة بناء وتطوير منظومة القيم الغربية حتى يكون هناك توازن فكري في النظام العالمي بين الدفاع عن القيم والدفاع عن الحياة في عصر أصبح فيه البقاء العضوي مصدر قلق لكثير من الأفراد”. إضافة إلى مسألة القيم، هناك نقد طويل على منظري الواقعية في ندرة تحديدهم لمفهوم “توازن القوى” في كتاباتهم، فأنيس كلود (Inis Claude) وإيرنست هاس (Ernst Bernard Haas) يرون أن هذا المفهوم يحمل ما لا يقل عن ستة معانٍ عند الواقعيين، وأن فائدة هذا المفهوم تصبح محدودة ما لم يحدد الكاتب مسبقا مفهومه لتوازن القوى، وكيسنجر في الكتاب الذي بين يدينا لا يحدد ما يقصده بهذا المفهوم على وجه التحديد، وبالتالي تصبح العبارة أقل أهمية في ظل غموضها. وفي نقد النظرية الواقعية يمكن العودة لكتاب “النظريات المتضاربة في العلاقات الدولية” لجيمس دورتي وروبرت بالستغراف.
يوضح كيسنجر في كتابه أن هناك أربعة مشاريع أساسية كبرى في العالم: الأول هو المشروع الأوروبي الذي نتج عن التصارع والقبول القسري بالتعددية الناتجة عن توازن القوى، والثاني هو الإسلام الذي يقوم على علاقة مباشرة مع السماء عبر القرآن الكريم، والثالث هو الصين من خلال إرثها الثقافي الإمبراطوري، والرابع هو المشروع الأميركي الذي لم يقبل فقط باحتضان نظام القوى الأوروبي، بل استند إلى بلوغ السلام عبر نشر المبادئ الديمقراطية والحرية، نتحدّث عن تصنيف دقيق ولافت؛ ثلاثة مشاريع أرضية مقابل مشروع سماوي.
في القسم الثالث من الكتاب يستعرض كيسنجر السياق التاريخي لظهور الإسلام وتمكن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) من توحيد الجزيرة العربية المشتتة والمتصارعة، في ظل إمبراطوريتي الفرس والروم، ويُبدي اندهاشه من روح الإسلام وتوسعه اللاحق بوتيرة سريعة في نظره، وكذلك ديمومته وتمسُّك معتنقيه بقيم دينهم ونشره، ومتطرّقا باستفاضة لامتلاك الإسلام رؤية كونية وتفصيلية للعالم حتى قال: “إن التاريخ لم يأتِ على ذكر أي مشروع سياسي آخر انتشر بمثل هذه النتائج العنيدة غير الإسلام”. وهذه الروح وهذا الفهم الذي أبداه كيسنجر حول الإسلام لافت، واللافت أكثر هو أنه تأثر بعمل مارشال هودجسون في ثلاثيته “مغامرة الإسلام”، هودجسون ذاته الذي قال في المجلد الثالث من موسوعته: “لو جاء زائر من المريخ إلى الأرض في القرن السادس عشر، فإنّه كان سيظنّ بأنّ الإسلام على وشك أن يسود عالم البشر بأكمله”.
لكن كيسنجر وقع في إشكالية مقارنة بين الإسلام والمسيحية أظهرت تناقضا مع فهمه للإسلام، الذي أبداه في أول الفصل، وكشفت وجه الامتعاض من الإسلام وروحه، فقد عقد كيسنجر مقارنة هزيلة بين روح انتشار الإسلام وإصرار المسلمين على رؤيتهم الكونية في هداية البشرية جمعاء وبين “روح الدعوة” (أي التبشير) والحماسة في نشر المسيحية في حقبة الحروب الصليبية، ومن “ثم اندثار هذه الروح وفرائضها الدينية بشكلها الدموي وتحوّلها للصيغة الكامنة والضّامرة في الحضارة الغربية اليوم على شكل مفاهيم علمانية وفلسفية وتاريخية لا موقع لها في صياغة الإستراتيجية العملياتية أو النظام الدولي”، مشكلة هذا التصور أنه يقوم على افتراض أن حماسة المسلمين لدعوتهم ستتخذ المسار الذي اتخذته المسيحية من قبلها، وهذا نقيض ما شخّصه سابقا عن المسلمين ونقيض أشكال الوصاية في كلتا الديانتين، فقد تجاهل كيسنجر دور الكنيسة في عملية علمنة المسيحية، كما تجاهل النقطة الأهم أن المسلمين لم تخفت روح دعوتهم لدينهم طوال 1450 سنة، ونسي الأساس وهو ألا وصاية لأحد في الإسلام ليقوم بعلمنته، فالنص قائم وعلاقة المسلمين بربهم معزولة عن الأوصياء، وهي قائمة بين المسلم والقرآن الكريم، فمثلا هودجسون الذي يستند إليه كيسنجر، يرى في مجلده الأول أن “التقليد الديني الإسلامي قد حافظ، مع كل تنوعاته وتشعباته، على درجة من الوحدة والتكاملية، بوضوح أكبر مما نراه مثلا في المسيحية والبوذية”، ويستكمل أن “الوحدة الدينية عند المسلمين قد نظمت في سلكها الكثير من مجالات الثقافة، فعلى أقل تقدير، يجب على جميع المسلمين أن يبقوا على صلةٍ وتفاهم ما مع القرآن”.
ركز كيسنجر طوال فصله عن الإسلام في القرن العشرين على نقطة لا تحيد عن باله، وهي السعي المحموم من الاستعمار (البريطاني والفرنسي) لتغييب المجتمعات العربية المسلمة عن مفهوم دار الإسلام والمشروع الإسلامي العالمي، وإجبار المنطقة العربية على الدخول إلى النظام الوستفالي عبر اتفاقيات سايكس-بيكو ووعد بلفور ومعاهدة سيفر، فقد أعادت تلك المعاهدات، كما يقول، “رؤية الشرق الأوسط كفسيفساء دول، هذا المفهوم الذي لم يسبق له أن كان جزءا من مفرداته السياسية […] وكانت كل هذه الكيانات مشتملة على عدد من الجماعات الطائفية والإثنية، لبعضها تاريخ صراع فيما بينها. أدى هذا إلى تمكين الانتداب (البريطاني والفرنسي) من الحكم عن طريق التلاعب بالتوترات، مُرسيا في الوقت نفسه الأساس المُفضي إلى حروب وصراعات أهلية لاحقة”.
ومن ثم يرى كيسنجر أن الدولة الوطنية التي تشكَّلت في خضم الاستعمار، وفي حالات أخرى فور خروجه، تسلمت مهمة القوى الاستعمارية في إخضاع سكان المنطقة العربية للنموذج الوستفالي عبر تغليف مهمتهم الأساسية بمفاهيم عدة: القومية والتحديث والتنمية والخطر الشيوعي السوفيتي، فقد “راحت النخب التجارية والسياسية القائمة تعمل في إطار نظام وستفاليا واقتصاد العالم؛ مطالبةً بحق شعوبها في الالتحاق بالركب على قدم المساواة. كان مضمون هتاف التعبئة هو الاستقلال الناجز لوحدات سياسية قائمة، بل حتى لتلك المشكّلة حديثا، لا الإطاحة بنظام وستفاليا”.
لكنه يرى أن هذه الروح الإسلامية لم تخفت تحت وطأة الاستعمار والدولة الوطنية، بل ازدادت إصرارا عبر كتابات حسن البنا وسيد قطب التي يراها نصوصا للتحرر من النظام الوستفالي، قائلا: “إلا أن الموروث الإسلامي سرعان ما عاد إلى تأكيد ذاته. ظهرت أحزاب إسلامية جامعة بين نوع من النقد لتجاوزات الحكام العلمانيين وإخفاقاتهم من ناحية، وبين جملة من الحجج الواردة في النصوص المقدسة حول الحاجة إلى أنظمة حكم تستمد شرعيتها من الدين تدعو إلى إقامة حكم إسلامي شامل بدلا من الدول الموجودة […] فالباحث سيد قطب ربما قام بمفصلة الطبعة الأعمق والأكثر نفوذا لنظرة حسن البنا. ألّف قطب “معالم في الطريق”، وهو بيان حرب على النظام العالمي القائم، ما لبث أن غدا نصا تأسيسيا للحركة الإسلامية الحديثة […] جاء رد فعل الحكام العسكريين قاسيا، قامعين الحركات السياسية الإسلامية واتهموها بتقويض عملية التحديث والوحدة الوطنية”.
لكن كيسنجر يرى أن هذه الروح الإسلامية الكونية والمناهضة للغرب تتمثل اليوم في الدولة الإيرانية وفي الجماعات المسلحة في لبنان والعراق وسوريا (جبهة النصرة وتنظيم الدولة) وليبيا واليمن وأفغانستان (طالبان) وفي القاعدة وحماس وبوكو حرام وحزب التحرير (في غرب أفريقيا)، والعجيب أن كيسنجر يجمع كل تلك الجماعات في خندق واحد وفي جملة واحدة غير مُفرِّقٍ بين أيٍّ منها في تصورها عن الإسلام، بل يوحي كلامه أن كلهم “إرهابيون لا يختلفون في شيء، ويبنون على آراء سيد قطب ودعواته للعنف”، لا أدري كيف يمكن أن تخرج هذه التعميمات من رجل يُوصف بالعبقري رغم وضوح الفرق والبون الشاسع بين قيم ومبادئ كل جماعة من تلك الجماعات وأختها.
توحي أفكار كيسنجر إلى أن العالم لن يتغير إلا إذا تمكن أحد من كسر النظام الوستفالي الأوروبي، وغالبا ما يحظى الإسلام بأهمية قصوى في كتابه، حيث يقول إنه “النظام الوحيد القادر على تقديم منظومة جديدة بديلة، وإن الإسلام يُمثل نظاما عالميا آخر متفوقا بامتياز على النظام الوستفالي وعلى قيم الأممية الليبرالية، وغير قابل للتناغم معها”.
لعل هذا يُفسّر رهاب كيسنجر من الجماعات الإسلامية واعتقاده أن الإسلام بديل متفوق يجب الحد من تمدّده لأنه سيهيمن على العالم، ففي نهاية الفصل الرابع لا يتوارى كيسنجر عن التعبير عن حقده على النظام الإسلامي وخوفه من توسعه، داعيا الولايات المتحدة للإجهاز على كل تلك الجماعات حين قال: “ثمة عقائد تخويف وإرهاب بالعنف تتحدى الآمال المعقودة على إمكانية قيام نظام عالمي، غير أنه حين يتم الإجهاز على تلك التحديدات -ولا شيء غير الإجهاز عليها سيفيد- قد تحل لحظة شبيهة بتلك التي أفضت إلى الاختراقات الوارد ذكرها هنا، حين انتصرت الرؤية على الواقع”، وهذه النقطة تستوقف المرء إذا تكلمنا عن الذكاء، هل هذا ذكاء أم أنه “إجرام” وكراهية للآخر؟
القيم الأميركية الديمقراطية
في الفصل الثامن من الكتاب (وفي مواضع أخرى كثيرة) حاول كيسنجر جرد الحسابات السياسية للولايات المتحدة في الحرب الكورية والفيتنامية والأفغانية والعراقية، و”إظهار” السعي الأميركي لنشر المبادئ الديمقراطية في العالم رغم الثمن الكبير الذي دفعته، ليقول ببجاحة يُحسد عليها: “أميركا هي أمة التمست النصر لا في السيطرة، بل في تقاسم ثمار الحرية”، وإن الولايات المتحدة تجهد في تحديد العلاقة بين قوتها الهائلة وبين مبادئها، ويتوصل إلى أن هذه العلاقة لا تزال متوترة بين تأمين المصالح الإستراتيجية والأمنية الأميركية وبين نشرها للديمقراطية، وهذا التوتر هو لب المشروع الأميركي في نظره، وعليها أن تُبقي هذه التوترات متوازنة، ورغم أن الولايات المتحدة لا تترك مكانا في العالم إلا وحولته خرابا، فإنه يصر على مبادئ أميركا وأنها لا تزال تسعى لنشر الحرية، ولم يقدم أي مثال على هذه الحرية، ولكن كيسنجر ينسى بأن مبادئ “المرء” تقررها أفعاله لا أقواله.
يُغالي كيسنجر بحديثه عن “شجاعة” بوش الابن باتخاذ قرار إزاحة صدام وتأسيس ديمقراطية، وهنا يبدي اندهاشه كنوح فيلدمان (الذي صاغ الدستور العراقي بعد الغزو) من أن إسقاط الدكتاتور أسهل بكثير من بناء دولة ونظام ديمقراطي. هذا ويرمي كيسنجر اللوم على العراقيين والأطراف الخارجية التي أفشلت التوجه الأميركي. ويزعم كذلك في حديثه أن الولايات المتحدة كان هدفها في أفغانستان شبيها بما قامت به في ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية، أي بناء صرح ديمقراطي.
ويرى كيسنجر حتى تاريخ صدور الكتاب (2014) أن حروب العراق وأفغانستان لم تظهر نتائجها بعد، معلّلا ذلك بأن المستقبل يُخفي الكثير، ويكفي أن الولايات المتحدة اضطلعت بمهامها الإنسانية، ولا يجد مشكلة في أن يشدّد على خشيته من الدول التي لا تؤمن بالنظام الوستفالي، وأن يمتدح بالتزامن النموذج الأميركي الذي يناقض قواعد هذا النظام بالتدخل في شؤون الآخرين والقدوم من خلف البحار لتفكيك دول أخرى. بهذا التناقض الصارخ يعلن كيسنجر ضمنيا أن ما هو حلال لأميركا محرم على غيرها.
وفي حديثه عن الربيع العربي، يزعم كيسنجر أن الولايات المتحدة كانت متحمسة جدا للديمقراطية في العالم العربي مع عام 2011، ولكن تصوراتها الأمنية كانت متصادمة بحكم عدم ثقتها بالأطراف التي سوف تتسلم الحكم في تلك البلدان. وهو هنا لا يجد أي حرج لا في التصريح عن منظوره الوصائي والاستعماري للمنطقة، ولا في المكاشفة بأن أمن إسرائيل والحفاظ على مصالحها الحيوية هو أولوية إستراتيجية على ما يزعمه على مدار الكتاب من أن الديمقراطية ونشرها هي فلسفة المشروع الأميركي في العالم، ولكن لا عجب، فهو الذي كان يُنسب إليه القول: “الديمقراطية في الداخل لا الخارج”.
ويَعتبر كيسنجر أن أفضل ما فعلته الولايات المتحدة مع الربيع العربي هو أنها أزاحت الحكومات السلطوية رغم أنها كانت حليفة لها، متغاضيا عن أن تلك كانت خطوة أعقَبَتها خطوات أخرى لـ”تربية الشعوب العربية” كي لا تنتفض مرة أخرى عبر استقدام ودعم أنظمة أشد شراسة من سابقاتها.
وحول القضية الفلسطينية، يختزل كيسنجر رؤيته الوحيدة لكيفية إقامة السلام العربي مع إسرائيل بضرورة وقف الحملات الإعلامية والتعليمية العربية التي تصف إسرائيل بأنها دولة الاحتلال الإجرامية. يتجاهل هذا النص الأيديولوجي الانحيازي لإسرائيل كل ما تبثه دولة الاستعمار الاستيطاني من كراهية في مناهجها عن العرب، ومع ذلك فعلت الكثير من الأنظمة ذلك وشُطِبَ اسم فلسطين من مناهجها، ولكن هل حقق ذلك السلام؟ وهل المشكلة في العرب حقا أم في دولة لم تقدّم تنازلا واحدا عبر مسارات السلام؟ ولكن هذه العقلية الصهيونية، التي كان أعظم نماذجها كيسنجر، لا تزال تقدم نفسها بوصفها طرفا محايدا له اقتراحات تسوية للسلام مع إسرائيل بوصفه مفاوضا لا بوصفه سياسيا وأكاديميا ذا رأي كما أحب أن يظهر على طول الكتاب.
مع الإشارة إلى أن الكتاب لا شك أنه مقدم للإدارة الأميركية قبل أن يكون مقدما للجمهور، فهو يقدم توصياته للولايات المتحدة لحل معضلات العالم العربي وكل منطقة في العالم لتحافظ على موقعها بوصفها قائدة للنظام الدولي والشرطي فيه. هذه المدرسة القديمة التي لا يستحي فيها الأكاديميون الأميركيون عن دعم إمبريالية بلدهم مثلما فعل عالم السياسة الأميركي ومنظر “صراع الحضارات” صامويل هنتنغتون في عدد من أبحاثه وكتبه.
ونهاية، عند الحديث عن كسينجر، يجب عدم إغفال أن الرجل “عراب حروب ودماء”، فهو الذي قال للسادات يوما (قبل حرب أكتوبر بسنوات) إذا كنت تريد السلام مع إسرائيل والجلوس على طاولة المفاوضات، فعليك “أن تريق الدماء في الشرق الأوسط بفتح جبهة حرب، حينها فقط يمكنني أن أساعدك”، كما نقل ذلك جاك أوكونيل في مذكراته “مستشار الملك”. كما أنه انتهازي واضح (بانحيازه الصارخ للصهيونية وازدرائه للعرب والإسلام)، وتصرف بناء على ذلك وعلى قناعاته الأيديولوجية التي لم تخلُ من عنصرية. لكن لحُسن حظ الرجل، فقد توفرت له القوة والسلطة لترجمة أفعاله وأفكاره، فهل يُعَدُّ هذا ذكاء ودهاء حقا؟ أم أن هناك أوصافا أكثر دقة يستحقها العجوز الراحل المثير للجدل؟
انتخابات تايوان قد تغير العالم
قال الكاتب جون فينغ، في تقرير نشرته مجلة “نيوزويك” الأميركية، إن نتائج انتخابات تايوان قد تؤثر على العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة والصين وتملي الاتجاهات الجيوسياسية في عام 2024، وقد وصفتها بكين بأنها خيار بين الحرب والسلام.
وأعلن السبت عن فوز لاي تشينغ تي -الذي تصفه الصين بأنه “خطر جسيم” بسبب مواقفه المؤيدة لاستقلال تايوان- في الانتخابات الرئاسية التي جرت في الجزيرة، حسب النتائج الرسمية شبه النهائية للاقتراع.
وذكر الكاتب أن واشنطن لا تتخذ أي موقف بشأن السيادة على تايوان، ولا تدعم استقلالها، رغم تدخلها في مضيق تايوان 3 مرات على الأقل منذ الحرب الباردة، وهي تحتفظ بعلاقات غير رسمية مع حليفتها السابقة منذ اعترافها بشرعية بكين في أواخر السبعينيات، عندما انتهجت سياسة “الصين الواحدة”.
وفي العقود التي تلت ذلك، قامت الأطراف الثلاثة بتغيير ما يسمى بالوضع الراهن، الذي لم يرضِ الجميع حقًّا، مع أنه يحظى بدعم واسع النطاق بين التايوانيين.
صعوبة التسوية
واليوم، مع عودة التنافس بين القوى العظمى، أصبح من الصعب التوصل إلى تسوية بين تايبيه وواشنطن وبكين، والإجماع الوحيد المتبقي ولو نظريا هو ضرورة حل الخلافات عبر المضيق بالوسائل السلمية.
وبحسب جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس جو بايدن، فإن “التوترات الداخلية” في سياسة الصين الواحدة لم يكن يُراد إصلاحها مطلقا، مشيرا إلى أنه رغم افتقارها للوضوح، فإن الصيغة القديمة “نجحت فعليا في تحقيق الهدف العملي المتمثل في عقود من السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان”.
وأوضح الكاتب جون فينغ أن صناع القرار في بكين أذعنوا للشراكة الاقتصادية والأمنية القوية الهادئة بين الولايات المتحدة وتايوان بموجب قانون العلاقات مع تايوان الصادر عام 1979، ولكنهم لم يقبلوه علنا أبدا إذ وصفه المسؤولون الصينيون بأنه “غير قانوني وغير صالح”.
وربما كانت سياسة العصا والجزرة التي تمارسها الصين قد كبحت رغبة تايوان في إقامة دولة رسمية في الوقت الحالي، لكنها لم تدفع نحو المزيد من التكامل السياسي، حسب فينغ.
ونقل الكاتب عن سويشينغ تشاو -أستاذ السياسة الصينية في كلية جوزيف كوربل بجامعة دنفر- أن الصين خاضت لعبة صبر إستراتيجي طويلة، لكن هذه اللعبة لا يمكن أن تستمر من جيل إلى آخر.
فأقوى زعيم للصين منذ أجيال، شي جين بينغ، يريد أن يحقق حلمه في تجديد شباب الأمة أثناء فترة ولايته، وحسب تشاو فإن الصين تمتلك الآن المزيد من الأدوات وقوة الضغط على تايوان لتحقيق شروط التوحيد سواء بالوسائل السلمية أو بالقوة.
الغموض الإستراتيجي
وأوضح الكاتب جون فينغ أن جهود القادة في واشنطن لدعم تايوان وإبعادها عن أيدي المنافس الجيوسياسي الأول للولايات المتحدة تجاوزت ما كان يُعتقد سابقا أنه ممكن في ظل سياسة الصين الواحدة وموقف الولايات المتحدة المتمثل في “الغموض الإستراتيجي”.
ووفقا لتشاو فإن التفاصيل الدقيقة لقمة بايدن-شي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي كانت شبه مخفية، ولم تحل التوترات الأساسية في العلاقات الثنائية، مما يظهر أن القوتين عالقتان في “أزمة طويلة الأمد”.
ونبّه الكاتب إلى أن الصراع المسلح بين الولايات المتحدة والصين سيكلف الاقتصاد العالمي ما لا يقل عن 10 تريليونات دولار، أو 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وذلك وفقا لتقدير حديث صادر عن بلومبيرغ إيكونوميكس.
لا منتصر
وأوضح جون فينغ أن استطلاعات الرأي تُظهر أن الشعب التايواني لا يهتم بإعلان الاستقلال الرسمي أو الوحدة مع الصين، إلا أن تفضيلاتهم الحزبية والسياسية لا يمكن فصلها عن وجهات نظرهم بشأن جارة تايوان العملاقة.
ووفقًا لكوان تشن لي، الزميل الباحث في معهد أبحاث الدفاع الوطني والأمن في تايبيه، فإن الرأي العام السائد يتوقع بقاء الوضع الراهن ويعارض السياسات المضطربة جدا عبر المضيق.
وأضاف أنه رغم قيام شي جين بينغ والحزب الشيوعي الصيني بتشديد سياستهما تجاه تايوان وتصعيد الجهود لإجبارها على إعادة التوحيد، فإن ما يسمى “الوضع الراهن” يخضع باستمرار لإعادة تعريف، ويتضاءل مجال تفسيره.
ومع تبدد غموض “الوضع الراهن”، فإن سياسات الحكومة التايوانية عبر المضيق يمكن تفسيرها بسهولة من قبل الناخبين في معسكرات مختلفة على أنها إما شديدة الموالاة للصين أو استفزازية للغاية.