لقائي الفكري الأوّل مع الفيلسوف الأشهر في القرن العشرين: برتراند راسل كان عندما قرأت قبل عقود كتاب «صُوَرٌ من الذاكرة ومقالات أخرى»، الذي نشره الفيلسوف الراحل في بواكير خمسينيات القرن الماضي، ليكون واحداً من سلسلة كتب تتناول سيرته الذاتية، وبلغت هذه السلسلة خاتمتها بنشر السيرة الذاتية للفيلسوف في كتب ثلاثة (نُشِرت لاحقاً في كتاب واحد) تتناول حياته موزّعة على أطوار زمنية ثلاثة، وربما من المفيد أن أذكّر بأنّ القسم الأوّل من هذه السيرة الذاتية قد تُرجِم إلى العربية، وظلّ القسمان الآخران غير مترجمين حتى يومنا هذا للأسف، رغم أنّ معظم مؤلفات راسل الأخرى قد تُرجِمت إلى العربية. كتابُ «صورٌ من الذاكرة» واحدٌ من أكثر الكتب التي قرأتها إمتاعاً، وهو ليس كتاباً فلسفياً بالمعنى الدقيق، بقدر ما هو مقاربة لهوامش حياتية تمثل التقاطات ذكية لعقل فلسفي متمرّس في توصيف علاقته مع الأفكار والناس والبيئة التي يتفاعل معها، وما شدّني أكثر من سواه لهذا الكتاب، ذلك الفصل الذي يحكي فيه الفيلسوف عن بواكير علاقته مع الفيلسوف ألفرد نورث وايتهد، الذي صار أستاذاً لراسل في جامعة كامبريدج ومن ثمّ صار زميله وشاركه كتابة العمل الأشهر «أصول الرياضيات»، الذي صدر في ثلاثة أجزاء خلال السنوات 1910 ـ 1913. يروي راسل في هذا الفصل أنه كان في طفولته مهجوساً بإثبات كروية الأرض، ولمّا كان يسعى للحصول على شاهدة تجريبية تؤكّد هذه الحقيقة، فقد راح يحفر الأرض على أمل الخروج من الطرف الثاني المقابل لها، ولمّا أخبر والدا راسل طفلهما الصغير أنّ عمله هذا غير ذي جدوى، لم يقتنع وظلّ يواظب على مسعاه، فلم يكن بوسع والديه سوى الاستعانة بقسّيس البلدة، لكي يهدّئ من روعه، ولم يكن هذا القسّيس سوى والد ألفرد نورث وايتهد. يعلّمنا راسل من هذه الأمثولة الخطأ الفادح الذي يقترفه الأهل عندما يعملون على كبح جذوة التفكّر المفارق للأنماط الفكرية السائدة، فضلاً عن تعويق الدهشة الفلسفية التي تدفع الأطفال لمقاربة ذلك النمط من الأسئلة الوجودية الموصوفة بـ»الأسئلة الكبرى»، التي تتناول موضوعات الكون والوعي ومعنى الحياة وغائيتها. الأمثولة الكبرى التي تعلّمها راسل (ويعلّمنا إياها في كتابه هذا) هي ضرورة أن لا نكبح أوْلاعَنا العقلية المتأججة عبر قبولنا بمواضعات يمليها علينا أناس ذوو خلفيات أصولية، تتقاطع مع حسّ النقد والمساءلة والتفكّر التي تمثّل الخواص الأصيلة لكلّ فيلسوف حقيقي. تتابعت قراءاتي لراسل بطريقة حثيثة، حتى صار لديّ مثال للفيلسوف أنيق الفكر الذي أجد لذّة كبرى في قراءة أفكاره، خاصة أنه عقل موسوعي النزعة، يميل لتناول جُملة من الموضوعات المشتبكة، ولا يكتفي بالدرس الفلسفي التقليدي، الذي لطالما خبرناه في حياتنا، وجعل الفلسفة نشاطاً عقلياً منفّراً يكتفي بالمكوث في الأعالي من غير تأثير في حياة البشر. لم يكن راسل فيلسوفاً وحسب، بل كان أكثر من ذلك: كان رياضياتياً، وداعية سلام، ومعلّماً، وعارضاً للأفكار العلمية الحديثة لعامة الناس، وناقداً ثقافياً وأدبياً، وقد منحه هذا الطيف الواسع من الاشتغالات القدرة على تناول كل الموضوعات التي كانت مثار اهتمامه، خاصة إذا ما علمنا أنه كان يميل كثيراً إلى تأكيد علاقة الفلسفة مع كل أنماط التساؤلات والاشتغالات المعرفية الأخرى، وقد أبان راسل في غير ما موضع أنه كان مولعاً بالحقيقة، ومكرّساً كل حياته في السعي الدؤوب نحوها حتى في تلك الظروف التي تسبّب فيها سعيه هذا في إرباك حياته المهنية المريحة، أو اضطره لمراجعة أفكاره التي كان يعتقد بها في فترات مبكرة من حياته، وليس خافياً أنّ الرجل دخل السجن مرتين – مرة في مطلع حياته لمعارضته دخول بريطانيا الحرب العالمية الأولى، ومرة ثانية لموقفه الصارم من الحرب الأمريكية في فيتنام. ظلّت الحكمة والأخلاقيّات الكامنة وراءها هي المثال الذي دفع بفكر برتراند راسل وألهمه أكثر ممّا فعلت أي قيمة أخلاقية أو فلسفية أخرى، وليس هذا بغريب أو باعث على الدهشة فبرتراند راسل كان فيلسوفاً، وأن حبّ الحكمة له معنى عملي وأخلاقياتي مباشر، لا يبدو أننا نشهده كثيراً في غالب الأعمال الفلسفية، فيمكن للمعرفة مثلاً أن تكون تخصّصية أو تجريدية أو عملية أو مطلوبة بذاتها ولذاتها، وكل ما يهم فيها في آخر الامر أن تكون صحيحة ومفيدة من وجهة النظر البراغماتية، بينما الأمر مختلف تماماً مع الحكمة الأصيلة فهي ليست محض قيمة تُحسَبُ بالقياس إلى صحتها بل بالقياس إلى قدرتها على الارتقاء بنوعية الحياة البشرية، وبالاستناد إلى هذه المقايسة، نستطيع القول إننا متى ما تصادفنا مع حكمة تفتقر إلى القدرة على تحفيز الحياة البشرية والارتقاء بحساسيتها الأخلاقية، نكون عندئذ أمام حكمة جوفاء باطلة وزائفة. تكمن أهمية برتراند راسل راهنا في الحقيقة التالية: ثمّة جائحة حالية تتهكّم وتسخر من الفلسفة، اكتسحت العالم، وأبطالُها هم بعض العلماء ذوو القامات العلمية المميزة في كلّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة (ستيفن هوكنغ، لورنس كراوس على سبيل المثال)، وسواء جاء الأمر في كتب أو حوارات أو تغريدات إلكترونية فإنّ بعض أكثر العلماء تميزاً، ومن ذوي السجلات العلمية المرموقة، ذهبوا مذهباً متطرّفاً في التعبير عن آرائهم بشأن احتضار الفلسفة عبر إعلانهم عن موتها المرتقب – ذلك الموت الذي يتطلّعون إليه بكلّ جوارحهم، بل ربّما راحوا منذ الآن يتراقصون طرباً حول قبرها. تبدو هذه التمنّيات القاسية غير المسوّغة تجاه الفلسفة متخالفة مع التوجهات المفعمة بالكياسة والاحترام التي أبداها بعض عظماء العلماء السابقين، مثل ألبرت آينشتاين، وتستوجب هذه التمنيات المتشوقة لموت الفلسفة قدراً من التوضيح، خاصة إذا علمنا أنّ العلماء الساخرين من الفلسفة والمتطلّعين لموتها، هم موضع المساءلة من أكبر الناشطين الفاعلين المناصرين للعقلنة في الفكر المعاصر. إنّ حقيقة كوْن الفلسفة – إلى جانب العلم – مصدراً جوهرياً للعقلنة في عالمنا، يضفي قدراً من السخرية الواجبة تجاه العروض التهكمية التي تنوش الفلسفة وتسعى للتقليل من شأنها. هنا يتجسّد الدور الإستراتيجي لبرتراند راسل في أعظم تجلياته، فهو وإن كان أحد الفلاسفة الفاعلين في تشكيل المبحث الفلسفي الذي صار يُعرَفُ لاحقاً بالفلسفة التحليلية Analytic Philosophy (وهي تلك المقاربة الفلسفية التي تُعلي شأن الدقّة والانضباط والوضوح، وتقتصر على موضوعات التحليل اللغوي، وتبتعد عن التوغل غير المسوّغ في الموضوعات، التي يمكن أن يتناولها العلم بوسائله المعروفة على نحو أفضل، وتتشارك هذه المقاربة الفلسفية التحليلية مع العلم، في نفورها من الأنساق الفكرية الغامضة والمغلقة على الانشغالات الذاتية التي سادت الفلسفة لقرون عديدة) فإنّ برتراند راسل أراد بسعيه هذا أن يحافظ على حيوية الدهشة الفلسفية، وتحديد نطاقها المنتج، وجعلها توأماً مناصراً للعلم في فتوحاته الثورية، بدل أن تكون عنصراً معيقاً له. من المثير للعواطف البشرية أن نختبر اليوم كيف يمكن لرؤية فيلسوف مضى على رحيله نصف قرن من الزمان (خاصة على صعيد المُثُل الخاصة بالحكمة البشرية والارتقاء الإنساني، والمعرفة العلمية، ودور الفلسفة في تثبيت أسس التفكّر الحقيقي والنأي به عن الوقوع في أسر الرؤى الزائفة والمضللة والأيديولوجيات القاتلة)، قد قوبلت بجدية بالغة عندما كان راسل على قيد الحياة، لا على مستوى حلقة صغيرة من الأكاديميين والفلاسفة وحسب، بل على مستوى أوسع بكثير من حلقات الرأي العام، ولنا هنا أن نتساءل: هل كان راسل سيثير الجدية ذاتها والاهتمام في الجمهور، لو قُيّض له أن يكتب شيئاً مناسباً لعالمنا عام 2020؟ وهل كان سيحتفظ بالقدرة على تأكيد إيمانه الراسخ بالارتقاء الأخلاقي في أيامنا الحاضرة هذه؟ أستطيع القول بكثير من الثقة: إذا كانت كلمات راسل أثناء حياته فاعلة ومؤثرة لأبعد الحدود، في ما يخص قدرة الحكمة الأصيلة والراسخة على طرق أبواب قلوبنا المتحجرة والتأثير الفاعل فيها، فهذا يعني أن أمامنا عملاً شاقاً ينتظرنا قبل أن نتوقّع ارتقاءً في حكمتنا البشرية ومُثُلِنا الأخلاقية بمثل ما ارتقت إليه تقنياتنا المعقدة، خاصة بعد أن تنامت قدراتنا التقنية وباتت تلامس حدوداً غير مسبوقة في إطار الثورة التقنية الرابعة التي بدأنا نشهدُ بعض مفاعيلها وهي تتحقق على الأرض. أعلى راسل في كتاباته دوماً كلّ ما يتعلق بالمنظومة الأخلاقية الشخصية، خاصة موضوع «الضمير» وشدّد على ضرورة أن لا يتأسّس الضمير الشخصي على أي قناعة سوى القناعة الفلسفية والفكرية للمرء، فكتب في هذا الشأن قائلاً: «إن من الخطر الفادح أن نسمح للسياسة، أو أي شكل من أشكال الالتزام الاجتماعي، أن تهيمن كلية على تشكيل ما يرقى ليكون امتيازاً شخصياً لكل فرد». إن ما يقترحه راسل بهذا القول هو أن حيازة (ضمي ) شخصي والإصغاء إلى ما يمليه لابد أن تكون قادرة على دفع الفرد إلى التحرر من الضغوطات الاجتماعية القائمة على المحددات الأخلاقية التقليدية السائدة في المجتمع. أتساءل دوماً كلّما تفكّرتُ في العناصر الثلاثة (الحب، المعرفة، التعاطف مع الآخرين) التي جعلها راسل منارة تهدي حياته في كلّ أطوارها: ما الذي كان عليه حال الإنسانية لو فكّر كل فرد بجعل هذه الموجّهات الثلاثة أساساً لحياته؟ ستكون الحياة حينئذ شكلاً يوتوبياً جميلاً يستعصي تخيله على أعظم العقول، خاصة أن حيازة مثل هذه الأخلاقيات المتسامية، يستلزم جهداً شاقاً مقروناً بكثير من العمل والتصميم والرؤية المستبصرة المدفوعة بروح تنأى عن الأنانيات الضيقة، عندها سيكون من حقنا الحلم – والحلم فحسب – بعالم تمثل فيه هذه الفضائل الثلاث نوعاً من الأخلاقيات العالمية، التي تتمّ رعايتها وتنميتها لدى كل ساكني الأرض، لتصبح نمطاً سلوكياً مشاعاً، يبدو لي أنه الحلّ الأمثل في مواجهة مختلف المشاكل الكارثية، التي باتت تهدّد الحياة بكل أشكالها .عرض: لطيفة الدليمي – العراق