https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

المؤلف: توماس بيكتي هو كتابٌ في 1100 صفحة، ، وهو عبارة عن وقراءة تاريخيّة للعالم بعيون رأسماليّة من عصور ما قبل بدايات الإقطاع إلى احتجاجات السترات الصفر الأخيرة في فرنسا، مروراً بمراحل اقتصاد العبوديّة والكولونياليّة، مع تغطية جغرافيّة أبعد من أوروبا – نحو الصّين وروسيا والهند والبرازيل – لكنّ هذا الطّموح يبدو مفتقداً بشدّة إلى نظريّة تربط ما بين الحقب التّاريخيّة والتّجارب المُتفاوتة لتستخلص نوعاً من قانون يمكن الاعتماد عليه في تفسير المُعاصر وتوقّع المستقبل، فكلّ الذي نصل إليه بعد 1700 صفحة – بين الكتابين – سجل تاريخيّ لتفاوت في الدّخول والثروات تتسبب به سياسات مرحليّة مؤدلجة مستنداً إلى معادلة بسيطة تقول بأن انعدام العدالة الاقتصاديّة يزداد ما دام العائد على رأس المال أكبر من زيادة الأجور. ومع ذلك، فلا أحد ينكر عليه موهبته الأدبيّة الفائقة لناحية توظيف المعطيات الإحصائيّة لرسم صور غاية الإمتاع عن المراحل التاريخيّة المتلاحقة كحلقات منفصلة متتالية. يخصص بيكتي في تغطيته لمرحلة الرأسماليّة المتأخرة خلال الأربعين سنة الأخيرة هامشاً أقل لتغوّل رأس المال مقابل توسّع في سرد أحداث سقوط الآيديولوجيات الاشتراكيّة التقدميّة، ملقيّاً باللّوم على فشل الشيوعيّة في ما يراه انتشاراً لمناخ من عدم التفاؤل بقدرة العمل السياسيّ على تحقيق عدالة أفضل للجميع. ويجادل بأنّ العولمة – وما ارتبط بها من تراجع لسيادات الدّول الوطنيّة – أدّت إلى تضاعف غير مسبوق من انعدام العدالة الاقتصادية لمصلحة أقليّة معولمة ثريّة ثراء فلكيّاً مرتبطة بنخب محليّة متورّمة، على حساب الأكثريّة التي إن لم تتراجع مداخيلها فعلياً فهي فقدت قدرتها الشرائيّة، كما سقط مئات الملايين من البشر في الفقر المدقع. نهايةً فإن مقاربة بيكتي أخلاقيّة محضة: انعدام العدالة الاقتصاديّة مسألة مجافيّة للشرعيّة، وإنّ أغلبيّة ساحقة عبر الحقب التاريخيّة والجغرافيّات تتفق على إيجابيّة توزيع الثّروة بين أكبر عدد ممكن من المواطنين، فيما وُظّفت الآيديولوجيّات دائماً أداة للتّحايل على هذا المنطق وحرفه لفائدة أقليّات مهيمنة، ولذا فإن التقدّم الاقتصادي للبشريّة مرهون بهزيمة تلك الآيديولوجيّات الرجعيّة لمصلحة سياسات عقلانيّة راشدة تفرض نظاماً ضرائبيّاً يضمن عودة الثّروة (رأس المال) إلى المجتمع. والبديل من ذلك سيكون، وفق بيكتي دائماً، تعديلاً قاسياً تفرضه تحولات مفصليّة حدثت في القرن العشرين مرّتين فقط: الحربان العالميّان (1914 – 1918) و(1939 – 1945) اللتان فرضتا على الحكومات – بعد ما تسببتا به من دمار واسع – تبني سياسات ضريبّية تقدّميّة الطابع ساعدت خلال سنوات على استعادة توازن مفقود بين من يملكون ومن لا يملكون وأنتجت ازدهارا اقتصادياً ملحوظاً عزز الاستقرار السياسي لمجتمعات ما بعد الحرب. بيكتي اللّيبرالي المزاج وكأنّه في «رأس المال والآيديولوجيا» يعود أدراجه إلى الفكر الاقتصادي الكينزي (الذي يدعم تدخّل الدّولة بإدارة قطاعات معينة من الاقتصاد لتحسين مستويات العدالة الاقتصادية) وهو يفترض وجود كتلة عاقلة في المجتمع تمتلك نحواً من فضاء عام ديمقراطيّ يسمح بالوصول إلى سياسات عادلة اقتصاديّة بشأن الثروة والأجور من خلال تبادل المعلومات والحقائق المدّعمة بالأدّلة، في إطار مجتمع واسع التعليم، تتوفر لديه بشفافيّة بيانات إحصائيّة كافية لاتخاذ قرارات منطقيّة. ولذلك، فقد اعتبره كثيرون طوباوياً متفائلاً غارقاً في التّنظير الاقتصاديّ، يريد جنّة اشتراكيّة بلا المرور في وعثاء الصراع الطبقيّ، ودون التجرؤ على الاقتراب من تقديم حلّ للمعضلة الفلسفيّة الخالدة بشأن إمكان تحقق الحكم الرشيد في ظلّ تعارضه مع مصالح النخب الحاكمة، عندما يكون انتظار الحروب كمخرج من الأزمة وصفة دمار مكلفة ماديّاً وبشريّاً لا سيّما بعد امتلاك بعض الدّول ترسانات أسلحة نووية وهيدروجينيّة كافيّة لتدمير الكوكب عدّة مرّات. لكنّ الأهم من ذلك كلّه أنه يرسل من خلال «رأس المال والآيديولوجيا» نذيراً لا خلاف عليه: استمرار فجوة انعدام العدالة الاقتصاديّة بالاتساع أمر لا يمكن الاستمرار في تجاهله، ولسوف يمنح الشرعيّة للسياسيين الشعبويين للقفز على السلطة وإقصاء النخب الليبراليّة الكلاسيكيّة من مقاعد النفوذ والتأثير، وهو ما حدث على الأرض بالفعل في غير ما بلد غربيّ لتنقسم نخبها الحاكمة بين فئة المتمولين المؤيدين لسياسة الأسواق المفتوحة، في مواجهة فئة أصحاب الثقافة التي تنتقد عجز النّظام (المتموّل) عن تحقيق العدالة وتسعى إلى بناء قلاع محروسة من الاقتصادات الوطنيّة التي تمنح مواطنيها – الأصليين – مساواة في فرص كسب الثروة وتحصيل التعليم. لا يمتلك بيكتي نظريّة متماسكة في مواجهة التاريخ كما كان ماركس مثلاً في «رأس المال»، فيما لم تعد تجربة الاتحاد الأوروبيّ – الأقرب عاطفيّاً إلى مؤلفنا – مقنعة لأحد فيما يبدو بشأن كفاءة النظم المعاصرة على توظيف مناهج أكثر عقلانيّة عند تصميم السياسات واتخاذ القرارات، بدلاً من أجواء التناحر والتنافس السياسيّ المستدام في إدارة شؤون القارة – لا سيّما بعد التّجارب الحزينة لشعوب اليونان وإسبانيا كما «بريكست» البريطاني مع الاتحاد – والتي أصبحت مثار تندّر وسخريّة بعد الفشل الظاهر له في دعم الدّول الأعضاء الذين مسّهم ضرّ وباء «كورونا». وللحقيقة فإن «رأس المال والآيديولوجيا» مع كل الانتقادات الموجهة إليه يظلّ مع ذلك عملاً لا يمكن إهماله كإنجاز تقنيّ أكاديميّ غير مسبوق، ودفاعا بليغا عن قدرة المعلومات والحقائق والمعطيّات الاجتماعية المتراكمة على منح البشريّة – ولو نظريّاً – مخارج ممكنة من سلسلة الأزمات الرأسماليّة التي لا تتوقف، ورهان – مجازف مسرف في التفاؤل – على قدرة العقل الجمعي الخضوع لمنطق الأدلّة في إدارة النّظم الاقتصادية والسعي نحو إقصاء انعدام العدالة من المجتمعات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة + تسعة =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube