المؤلف :اندريو روز
. يتكون الكتاب من خمسة فصول تتناول أبعادا مختلفة لقضية العمل والعمال الفلسطينيين داخل “إسرائيل”، وفي المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. يعكس هذا الكتاب، والذي صدر باللغة الإنجليزية، رأيًا صهيونيا يبدو يساريًا، إلا أنه يتناغم في صورة رسالته مع منطلقات اليمين الإسرائيلي، الذي يهيمن على حلبة السياسة في “إسرائيل”.
تعتبر قضية العمال الفلسطينيين الذين يعملون داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وفي المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، من أكثر القضايا حساسية، والتي طالما غضت الفصائل والمكونات السياسية والاجتماعية الفلسطينية النظر عنها، كمسألة سياسية مبدئية، أو أخلاقية، أو وطنية. فهي مسألة تقع بين تناقضين، الدعوة للكفاح من أجل التحرر من الاحتلال وإيقاف مظاهره من جهة، وحاجة مئات آلاف الفلسطينيين، الذين يعملون في قطاع البناء داخل الأراضي المحتلة وفي المستوطنات، للقمة العيش من جهة أخرى. إن التطرق إلى هذه القضية، يضفي إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعدًا تفسيريًا آخر أكثر اتصالا بالواقع، ويكشف عمق الأزمة التي تعيشها القضية الفلسطينية، نتيجة تشتت ملفاتها ومشاريعها السياسية من ناحية، والأمر الواقع المفروض على الأرض من قبل الاحتلال الإسرائيلي من ناحية أخرى.
يبعث عنوان الكتاب، والذي يعكس مبالغة كبيرة، حزنًا لدى أي فلسطيني مؤمن بعدالة قضيته، ويسعى للخلاص من الاحتلال، إذ أنه يخرج بصورة يبدو فيها وكأنه يساهم في بناء ما يكافح من أجل الخلاص منه، الأمر الذي يتطلب من النخبة السياسية الفلسطينية، الجرأة الكافية للإجابة عن أسئلة كبرى، بحسم وواقعية لا ترضخ للأمر الواقع، وبما ينسجم مع ما يجري على الأرض بعيدًا عن الشعارات اللامعة، التي تأخذ مساحة الفعل الكفاحي الجاد، الذي يحقق الحد الأدنى من التقدم على كافة الأصعدة، حتى وإن تطلّب ذلك إعادة الاعتبار، والنظر بطريقة ثورية في المواقف والتوجهات السائدة.
يتبلور الفصل الأول والذي يحمل عنوان “الغزو والقوة العاملة”، والفصل الذي يليه حول تاريخ توظيف القوة الفلسطينية العاملة منذ البدايات المبكرة للقرن العشرين، وطبيعتها، مُركزا على ذلك من خلال عدسة وظائف أعمال البناء، في خضم تصاعد التناقضات القومية بعد موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين من جهة، وتوسع الفروق والفجوة الاجتماعية بين الصهيوني المحتل، كرب عمل لا يستطيع الاستغناء عن الفلسطيني كعامل بناء مُستَغَل ومنافِس لنقيضه الصهيوني من جهة أخرى.
“حقائق قديمة وجديدة” هو عنوان الفصل الثالث، والذي يتناول التغير التاريخي لأنماط حرفة البناء الفلسطينية والزخرفة على الحجارة بين الحقب التاريخية، ما قبل وما بعد حرب عام ١٩٤٨، ثم يتعرض لنموذج مدينة روابي في هذا السياق، وعلاقة ذلك بنشوء رأسمالية فلسطينية بعد اتفاقية أوسلو عام ١٩٩٣. أما في الفصل الرابع، والذي يحمل عنوان “استخراج، تصدير، وابتزاز”، فيتطرق الكاتب إلى جودة ووفرة حجر الجير الفلسطيني، والذي يعتبره الأفضل عالميا على الإطلاق، واختلاف ألوانه الطبيعية، وطريقة تشكيله حسب كل منطقة فلسطينية، كما يتطرق للسياقات المختلفة التي تحيط بعمليات استخراجه وتصديره، خاصة في ظل التعقيدات النابعة والمتلازمة مع الوجود الاحتلالي العسكري للإسرائيليين.
في الفصل الأخير من الكتاب “الذهب البشري”، يتناول الكاتب شدة العناء المعنوي الذي يواجه العامل الفلسطيني، والذي قد يستمر لعقود مع بعض العمال الذين يمضون عشرات الأعوام في أعمال البناء عند أرباب العمل الإسرائيليين، الذي يصبغ سلوكهم بعنصرية واحتقار للفلسطيني العربي، في ظل منظومة سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية، تقوم على مبادئ الاستغلال والابتزاز والتعسف والإذلال.
ينسجم عنوان الكتاب، وإن لم يكن مقصودًا، مع الادعاءات الإسرائيلية بشكل مطلق، إذ أن الادعاء بأن الفلسطيني هو من بنى “إسرائيل”، كما يعنون الكتاب، لا يختلف عن الادعاء بأن الفلسطيني باع أرضه، وأن قيام “إسرائيل” جاء كنتيجة لصفقة تجارية.
لم يقم الفلسطيني ببناء “إسرائيل”، وإن اشتغل فيها كعامل بناء عبر عقود من الزمن نتيجة لأمر واقع، ونتيجة لمعادلة قوة مجحفة، هو الطرف الأضعف والأكثر عجزا فيها. فالكيان الصهيوني هو الكيان القائم على الأراضي الفلسطينية، ليس مجرد البيوت الموجودة فيه، وإن كانت أحد أشكال التتويج المادي لتراكم مقومات بنائه ككيان، بأبعاده المعنوية والتنظيمية والمادية. “الفلسطينيون الذين بنوْا إسرائيل” عنوان يجافي الحقائق التاريخية، ويجافي منطق بناء الدول، فَمَنْ وقف وراء بناء “إسرائيل” هو توجه عالمي رأسمالي، بعيد عن النزاهة، ومنحرف عن الأخلاق، بكل ما يمتلكه من أدوات القوة والجبروت، والتنمر والعربدة.
يحاول الكاتب “أندريو روز”، أن يتقمص طريقة “أكاديمية” أو “موضوعية” في جمعه للمعلومات، إذ يعتمد في كتابته على مقابلات مع عمال فلسطينيين من الداخل والضفة الغربية، مستثنيًا فلسطينيي قطاع غزة، لكن تقمص دور “الأكاديمي” أو “الموضوعي”، لا يعني بالضرورة إنتاج مخرج أكاديمي بارد، فخلاصة الرسالة النهائية التي يمكن فهمها من الكتاب، يتطابق مفادها مع رؤية حل الدولة الواحدة دون توضيح لمكانة الفلسطيني فيها، إلا أن صورته تتمثل، كما تبرزه السطور، كمواطن من الدرجة الثالثة أو الرابعة؛ فالعامل الفلسطيني من حقه أن يكون مواطنا لأنه بنى بيوتا إسرائيلية لمدة ٤٠ عاما” ، هذا هو مضمون آخر أسطر يختتم فيها المؤلف كتابه، وهي أمنية على لسان عامل فلسطيني، كما يقول.
هذه الرؤية لمكانة الفلسطيني، أصبحت تمثل التوجه السياسي الإسرائيلي السائد، وذلك بعد ترسخ حكم اليمين الإسرائيلي، والذي ساهم حتى في تكييف اليسار الإسرائيلي مع توجهاته. ينبذ هذا الموقف اليميني فكرة الحق الفلسطيني بأي كيان سياسي سيادي على أي من الأراضي الفلسطينية، وإنْ طالبَ الكاتب الذي يظهر بعباءة يسارية، بالمساواة في الحقوق للعمال الفلسطينيين، إلا أن هذه الحقوق تأتي كمنحة من الاحتلال، ومنظماته الحقوقية والشبابية، كما يزعم، وليس وفقا لمواطَنة كاملة يتساوي فيها العامل الفلسطيني مع الإسرائيلي.
يقوم الكاتب بتصوير حقيقي لاستغلال الفلسطينيين كعمالة رخيصة، دون أي تعاقد أو أي حقوق، إضافة إلى تصويره لآلامهم ومعاناتهم المادية والمعنوية، التي يواجهونها كل يوم، عند مرورهم على نقاط التفتيش العسكرية الكثيفة في الضفة الغربية، وكذلك مسألة التعاطي مع إصابات العمل، وغيرها من حالات الإذلال المعنوي، إذ يُجبَر العامل على الاختيار بين لقمة العيش، أو بناء بيوت استيطانية على أراضي عائلته المسروقة.
من ناحية أخرى، لا يتجاهل “روز” العنصرية الإسرائيلية، بل يؤكد، وبطريقة موثقة، على عنصرية “إسرائيل” وممارساتها في التعامل مع الفلسطينيين، وهذا أمر إيجابي، لكن معاناة الفلسطينيين وعنصرية الإسرائيليين، ليستا الأمرين الجوهريين في الرسالة التي يريد “روز” إيصالها للقارئ، أو الغاية من وراء الكتاب، فهي قضايا موثقة ومعروفة لدى أي مهتم، ولم يقم الكاتب بالكشف عنها وكأنها سر من الأسرار، بل يدعي الكاتب أنها تأتي في سياق تقبل العامل الفلسطيني لهذه المعادلة، وتعايشه معها لعقود طويلة، كشكل من أشكال التطبيع، وإن لم يكن قد تم الاعتراف به.
يظهر الفلسطيني في الكتاب كمُطبّع بالأمر الواقع، ويحاول الكاتب تأكيد ذلك من خلال تطرقه لحقائق ذات سياقات استثنائية، أي أنها لا تعبر عن السياق الفلسطيني العام، من أهمها ملف العمال الفلسطينيين، وملف النخبة الرأسمالية الفلسطينية، التي تعقد صفقات كبيرة مع الشركات الإسرائيلية بترخيص من وزارة الاقتصاد الفلسطينية، كمنْح الوزارة لعائلة المصري رخصة بيع 360,000 طن من الإسمنت عالي الجودة لمستورد إسرائيلي، وكذلك ملف مدينة روابي، التي تحاكي عمليات الاستيطان في الضفة الغربية، والتي تعتمد على التعاقد الخاص مع قطاع الأعمال الإسرائيلي. لا تسعى هذه الورقة لاتهام الكاتب”أندريو روز”، والذي عمل متطوعا في مجمعات “الكيبوتز” الصهيونية، بالقدر الذي تحاول تناول الكتاب من خلال تحليل الصورة التي يظهر فيها الفلسطيني بعد قراءة الأسطر التي تبدو لغير المتعمق بملفات الصراع، وكأنها ترمي لأهداف موضوعية، ولكنها في الحقيقة تساهم في تأكيد الرواية الصهيونية، خاصة وأن هواه صهيوني، إذ يصف “يجال ألون”، أحد جنرالات الجيش الإسرائيلي، ورئيس الحكومة الإسرائيلية بالنيابة عام 1969، بـ “البطل القومي”. ورغم أن “ألون” كان يساريًا، ومن القادة السياسيين غير المفضلين لدى “بن غوريون”، وأحد قادة حزب العمل الإسرائيلي، وصاحب “خطة ألون” الداعية للانسحاب من الضفة الغربية، إلا أنه كان صهيونيًا بامتياز، وكان معاونًا بارزا للقمع الإنجليزي الوحشي للثورة العربية عام 1936