بعد مرور نحو ثلاثة شهور على الغزو الروسي لأوكرانيا، ما زالت القوات الروسية غير قادرة على تحقيق اختراق جوهري في الميدان. ورغم أن الاستراتيجية العسكرية الروسية تحولت، منذ منتصف نيسان/ أبريل 2022، من هدفها الرئيس المتمثل في السيطرة على العاصمة كييف وإسقاط نظام الرئيس، فولوديمير زيلنسكي، إلى التركيز على شرق أوكرانيا، وتحديدًا منطقة دونباس، فإن هجومها البري ما زال يواجه مقاومة شديدة تعوق تقدمه. ويمكن تفسير فشل روسيا، حتى الآن، في تحقيق أهدافها العسكرية في أوكرانيا، بنجاح الاستراتيجية الدفاعية، التي تسهم الولايات المتحدة الأميركية في وضعها، في تحميل موسكو تكاليف باهظة اقتصاديًا، وعسكريًا، واستراتيجيًا.
أولًا: الاستراتيجية الأميركية في أوكرانيا
يعود تعثر الاستراتيجية الروسية في أوكرانيا إلى الدعم الكبير الذي يقدمه الغرب، وتحديدًا واشنطن، لكييف من الأسلحة المتطورة، فضلًا عن مشاركة معلومات استخباراتية حساسة معها، كان لها أثر مهم في توجيه عدد من الضربات الموجعة إلى القوات الروسية[1]. ومن هنا يأتي الاتهام الروسي للولايات المتحدة بأنها منخرطة في الحرب مباشرة ضدها؛ وهو أمر يثير قلقًا من إمكانية الانزلاق نحو مواجهة عسكرية بين البلدين النوويين. وتحاول إدارة الرئيس جو بايدن أن تحافظ على توازن صعب بين استمرار تدفق الدعم لكييف بهدف ضمان هزيمة موسكو، وفي الوقت نفسه عدم استفزاز هذه الأخيرة إلى الحد الذي يضطرها إلى الرد في حال تهديد أمنها القومي أو استقرار نظام الحكم فيها.
ومنذ تعاظم الحشود العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا، في كانون الأول/ ديسمبر 2021، أعلنت إدارة بايدن أنها ستعمل على استراتيجية توازن بين أمرين: الأول هو عدم الانجرار إلى صراع عسكري مع روسيا، والثاني هو رفع التكلفة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على موسكو إلى “مستوى غير مسبوق”[2]، إذا هي مضت قدمًا في الخيار العسكري ضد أوكرانيا.
اقتصاديًا، فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون وغيرهم سلسلة من العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية والمصرفية والتكنولوجية والعسكرية والتقنية المتتالية، التي لحقت مؤسسات الدولة الروسية وبنوكها ومصارفها. ولم يسلم قطاع الطاقة الروسي، الذي يمثل شريان اقتصاد الدولة، من تلك العقوبات؛ ما فاجأ الكرملين الذي راهن على إحجام الاتحاد الأوروبي عن فرضها جراء اعتماد كثير من دوله على وارادات النفط والغاز من روسيا. غير أن العقوبات الغربية ذهبت أبعد من ذلك؛ إذ شملت، أيضًا، رموز الحكم في روسيا وطبقة الأوليغارشية المتحالفة معها في مسعى لخلخلة بنية نظام الرئيس فلاديمير بوتين من داخله. وفعلًا، نجحت تلك العقوبات في عزل روسيا عالميًا إلى حد بعيد، وأنهكت اقتصادها إنهاكًا واضحًا.
عسكريًا، التزمت إدارة بايدن بوعدها بأن تجعل أي عمل عسكري روسي، إن حصل، في أوكرانيا باهظ التكلفة، وذلك عبر حزم من المساعدات العسكرية الفتاكة للأوكرانيين[3]. ومع أنه كان هدد بوتين في القمة الافتراضية التي جمعتهما، في كانون الأول/ ديسمبر 2021، بأن واشنطن وحلفاءها سيقدمون دعمًا عسكريًا لأوكرانيا، بما في ذلك أسلحة هجومية متقدمة، في حال أقدمت روسيا على غزوها، فإن الروس استخفوا على ما يبدو بكلام بايدن، ولم يقدروا بدقة الدور الذي ستؤديه هذه الأسلحة في ساحة المعركة. فقد ساهم التسليح الأميركي والغربي الكبير للقوات الأوكرانية في تغيير موازين القوى على الأرض، وترافق ذلك مع سوء التخطيط العسكري الروسي، وضعف خطوط الإمدادات اللوجستية، وغياب التغطية الجوية للقوات البرية الغازية، وعدم تأمين أنظمة اتصال متطورة لضمان عدم التجسس عليها، فضلًا عن الاعتماد على قوات من المجندين الإجباريين، وليس القوات المحترفة[4]. وقد تسبب ذلك كله في إلحاق خسائر فادحة بالقوات الروسية؛ ما قاد، بحسب تقارير غربية، إلى انهيار معنويات الجنود الروس وتمرد عدد منهم على الأوامر[5].
ومنذ بدء الغزو، قدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها من الأوروبيين وفي حلف شمال الأطلسي “الناتو”، ومن خارجهما، ككوريا الجنوبية واليابان، مساعدات عسكرية تقدر بمليارات الدولارات، شملت قاذفات صواريخ خفيفة، وطائرات هجومية من دون طيار، وصواريخ ستينغر وجافلين، وأنظمة رادار وتعطيل اتصالات وتجسس. وفي الأسابيع الأخيرة، بدأ يتضح من تصريحات مسؤولين أميركيين أن هدف الولايات المتحدة في أوكرانيا لم يعد محصورًا في ضمان هزيمة روسيا، بل في إضعافها “إلى درجة لا تستطيع معها تكرار ما قامت به من غزو لأوكرانيا”[6].
علاوة على ذلك، جاءت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بنتائج عكسية سياسيًا وأمنيًا على مصالح روسيا. فقد كانت روسيا أعلنت أن أحد أسباب غزو أوكرانيا يتمثل في منع الأخيرة من الانضمام إلى الناتو، وهو ما ترى فيه موسكو تهديدًا لأمنها القومي على حدودها الجنوبية الغربية. بل ذهب بوتين أبعد من ذلك، إلى حد اشتراط سحب الناتو قواته وأسلحته من عدد من دول أوروبا الشرقية، وجمهوريات البلطيق الثلاث، ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفياتي. الآن، أعلنت فنلندا، رسميًا، وبتشجيع أميركي، سعيها للانضمام إلى الناتو في أقرب وقت ممكن. ومن شأن ذلك أن يوسع حدود روسيا المشتركة مع الحلف من نحو 700 كيلومتر حاليًا إلى أكثر من 1900 كيلومتر. وعلى الرغم من تحذير موسكو من “اتخاذ خطوات انتقامية، سواء ذات طبيعة عسكرية تقنية أم غيرها، لوقف التهديدات لأمنها القومي التي تنشأ في هذا الصدد”[7]، فإن المرجّح أن فنلندا ستنضم بالنتيجة إلى الحلف، وقد تلحق بها السويد.
ثانيًا: تطوّر الدعم الأميركي لأوكرانيا
لتحقيق أهداف الاستراتيجية الأميركية المتمثلة في هزيمة روسيا، وإضعافها، عملت إدارة بايدن على مضاعفة دعمها لأوكرانيا في مسارين اثنين: الأول عسكري، والثاني استخباراتي.
1. عسكريًا
منذ 18 نيسان/ أبريل 2022، ومع فشل روسيا في السيطرة على كييف أو إطاحة نظام زيلنسكي، تحول تركيزها إلى منطقة دونباس، ومحاولة الاستيلاء على ميناء ماريوبول الاستراتيجي لتأمين ممر ساحلي إلى شبه جزيرة القرم التي احتلتها في عام 2014[8]. وقد تحركت واشنطن وحلفاؤها مباشرة لتزويد أوكرانيا بكل ما يساعد في إفشال الأهداف الروسية[9]. وبحسب المعطيات المتوافرة، فإن أوكرانيا قد تلقت المزيد من صواريخ جافلين وستينغر، وأجهزة تشويش لإرباك الطائرات من دون طيار الروسية، فضلًا عن كميات كبيرة من الذخائر والقذائف الصاروخية وطائرات من دون طيار[10]. وبدأت واشنطن وحلفاء لها، في الآونة الأخيرة، بتزويد كييف بمدافع الهاوتزر “M777” التي تمتاز بدقتها وقوتها وفاعليتها ضد المدرعات والدبابات. وبحسب خبراء عسكريين أميركيين وأوكرانيين، فإن هذه المدافع قد ساهمت في “تغيير قواعد اللعبة”[11] في المعارك البرية في شرق أوكرانيا. ويبلغ أقصى مدى لهذه المدافع 25 كيلومترًا تقريبًا، وتطلق قذائف دقيقة التوجيه، مستخدمة نظام تحديد المواقع العالمي”GPS”. وقد تلقت أوكرانيا من الولايات المتحدة وحدها حتى الآن 85 مدفعًا من أصل 90 تعهدت بها، بينما ينتظر أن ترسل أستراليا ستة وكندا أربعة، كما جرى تدريب 310 جنود أوكرانيين على استخدامها[12]. ولا تقف حدود الدعم الأميركي عند هذا الحد؛ إذ صوت مجلس النواب الأميركي، في 10 أيار/ مايو 2022، بأغلبية كبيرة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، على مشروع لتقديم مساعدات ضخمة لأوكرانيا، عسكرية وإنسانية واقتصادية، بقيمة 40 مليار دولار. وينتظر أن يمرر مجلس الشيوخ المشروع نفسه في الأيام المقبلة، وهو ما رحبت به إدارة بايدن التي كانت طلبت من الكونغرس حزمة مساعدات بقيمة 33 مليار دولار[13].
2. استخباراتيًا
لا تقف تحركات واشنطن لاحتواء روسيا وإضعافها عند حد تقديم السلاح، بل تقوم بحسب وسائل إعلام أميركية، بتقديم معلومات استخباراتية تساعد أوكرانيا في تحديد أهداف عسكرية روسية ومهاجمتها. وتشير المعلومات المتوافرة إلى أن القوات الأوكرانية تمكنت بفضل هذه المعلومات الاستخباراتية، حتى الآن، من قتل 12 جنرالًا روسيًا[14]. وكان مصدر في إدارة بايدن كشف سابقًا أن واشنطن هي التي قدمت المعلومات التي مكنت القوات الأوكرانية من قصف وإغراق أحد أهم قطع الأسطول الروسي في البحر الأسود، الطراد موسكفا، في نيسان/ أبريل 2022[15]. ولا تكتفي واشنطن بتقديم المعلومات الاستخباراتية لاستهداف الجنرالات، والقوات الروسية عمومًا ومراكز تجمعها، بل تقدم للقوات الأوكرانية أيضًا أسلحة خاصة تمكنها من جمع مثل هذه المعلومات، مثل طائرات من دون طيار من طراز Switchblade، القادرة على القيام بمهمات مثل استهداف الجنود والضباط الروس وتدمير المركبات العسكرية[16].
وقد أثار كشف وسائل إعلام أميركية هذه المعلومات استياء إدارة بايدن، خشية أن تؤكد رواية الكرملين بأن الولايات المتحدة هي التي تقود وتوجه الحرب ضدها في أوكرانيا. وتخشى إدارته أيضًا من أن تتخذ موسكو هذه المعلومات ذريعة للقيام برد ما ضد مصالح واشنطن؛ ما قد يقود إلى تصعيد بين الطرفين لا تريده إدارة بايدن. وقد اضطر الرئيس الأميركي إلى توبيخ كبار مسؤولي الأمن القومي في إدارته على هذه التسريبات وطالبهم بوقفها، ولم تنكر إدارته صحتها[17]. ويقول المسؤولون الأميركيون إنهم لا ينكرون تقديم معلومات استخباراتية للأوكرانيين لتطوير ردهم العسكري على الغزو الروسي، إلا أنهم ليسوا المصدر الوحيد لها، كما أن كييف هي التي تقرر كيف ستستفيد منها، وهي لا تستشير الولايات المتحدة عند اتخاذها قرارًا تراه في مصلحتها عسكريًا[18]. لكن الوقائع تشير، بحسب بعض المراقبين، إلى أن “الولايات المتحدة متورطة في هذه الحرب بكل الطرق تقريبًا، باستثناء القتال المباشر ضد الروس”[19].
خاتمة
مع أن إدارة بايدن تنكر تورطها في هذه الحرب، فإن روسيا مقتنعة بأن الولايات المتحدة والناتو يخوضان حربًا بالوكالة ضدها في أوكرانيا[20]. ويتوجس بعض الخبراء الأميركيين من أن رفع واشنطن لسقف أهدافها في أوكرانيا، والمتمثلة الآن في إذلال روسيا وهزيمتها، قد يدفع الرئيس بوتين اليائس إلى التصعيد، وخصوصًا إذا ما أحس أن نظام حكمه مهدد[21]. ورغم تقدير الاستخبارات الأميركية بأنه لن يلجأ إلى الحرب النووية، إلا إذا شعر بتهديد لأمن روسيا القومي[22]، فإن سقف المسؤولين الروس يبدو أكثر انخفاضًا ويثير التكهنات، إذ يصعب تحديده[23]. وعلى هذا الأساس، تحاول إدارة بايدن، قدر الإمكان، الموازنة بين هدفها الاستراتيجي المتمثل في استغلال هذه الحرب وعدم تفويت الفرصة لتلقين بوتين درسًا عبر منع روسيا من تحقيق أهدافها في أوكرانيا، وإضعافها إلى حد كبير، وبين عدم استفزازها إلى حد تضطر فيه إلى الدخول في مواجهة عسكرية مع الناتو، ستكون بالضرورة نووية؛ ذلك أن روسيا غير قادرة على هزيمة قوات الحلف تقليديًا. وفي هذا السياق، وفي محاولة لضبط التصعيد، فإن إدارة بايدن ترفض تزويد أوكرانيا بأي أسلحة هجومية قادرة على ضرب العمق الروسي[24].
المركز العربي لدراسة السياسات