قضى كيم جونغ إيل نحبه، وراحت كوريا الشمالية تبكي القائد الفذ وتعلن هول المصاب على الملأ. فبعد والده كيم إيل سونغ، الزعيم المحبوب وفق الأسطورة، الذي قبض على البلاد أرضاً وشعباً تحت عنوان الاشتراكية، ابتليت دولة جائعة جمعت الاستبداد المطلق ونزعة التسلّح الصاروخي والنووي، بمقولة الأسرة الثورية، لتقف وحيدة على قارعة التاريخ.
على هذا النحو، يتبوّأ الوريث كيم جونغ أون سدّة الزعامة اليوم، ماضياً في العُرف السلالي، ورافعاً لواء أمة يخشى سائر الأمم تلويحها بالحرب المدمِّرة، واستنقاع مجتمعها المقهور رهين القبضة الحديدية والسياسات المتهورة.
لم يبلغ الابن الأصغر للغائب الثلاثين عاماً، وما عُرِفَ عنه وله أهلية في أي مجال من مجالات العلم والإدارة، فضلاً عن قفزه فوق تراتبيّة الهيكل الحزبي، الأداة الشكلية المحيطة بالسلطة، والرافعة الضرورية لدخول جناتها. ومن موقعه على رأس الهرم، بات الآمر الأول لآلة حربية ضخمة يجهل فنونها العسكرية ويصغر جنرالاتها بعقود. غير أن جُلّ أوراق اعتماده يتأتى من خيار مورثه، وظهوره برفقته في المناسبات ما يُعتبر في القاموس السياسي الرسمي، المسطَّر على مقاس العائلة، وكالة غير قابلة للعزل، يعمل بها فور وفاة واضعها، وتضحي مثابة القانون. من هنا، اكتسب جونغ أون جائزة السلطة والحكمة المستمدة، دفعة واحدة، كخير خلف لخير سلف، لأن فيضاً من نور المؤسس لأفعل وأمضى من جميع المؤهلات. واستطراداً، سوف ترتدي المبايعة ثوب الخضوع، مرفقة بتعديلات في حلقة المعاونين الأقربين، تمليها توازنات الصف الثاني ولا تبدل من طبيعة السلطة وماهية النهج.
إِلامَ ينتمي مفهوم الدولة في كوريا العزلة والقعود على حافة الهاوية واستيلاد النزاع؟ يرجع بعض الباحثين ميراث كيم الجد إلى ستالينية مفرطة غالت واقتبست من نمط آسيوي غابر، ويحار معظم مراقبي الشأن الكوري حيال انطباق الأوصاف المعهودة على مخلوق عجيب فاق تصوّر المعاصرين بين حدّي المهزلة والمأساة. الحال أن كوريا الشمالية أكثر من إقطاعية قروسطية، وأقل من شاهانية، أو حتى نظام مغولي. فالذي بني على جزء من أرض كوريا التاريخية، انحدر إلى ما دون الدولة المارقة، تعوزه محدّدات العلم السياسي، ولا يجد مرزعاً ديكتاتورية خلال حقبة لدى توأمها وجارتها الجنوبية، خرجت الأخيرة من مخاض التخلف، وشفيت من مرض الحكم الفردي، بحيث تتعذر راهناً المقارنة بين الكوريّتين، في الحداثة كما في الإنجازات، ناهيك عن الفجوة الاقتصادية البائِنة كعلامة فارقة بين عالمين.
فالشعب الواحد في دولتين أعطى نِمراً من نمور آسيا جنوباً، يتربع في نادي النخبة عالمياً، وفي المقابل يتضوَّر طرفه الشمالي جوعاً ولا يتعدّى حجم اقتصاده ومنتجاته ومبادلاته نسبة مئوية ضئيلة من دخله الوطني. ولمزيد من الإفقار والشقاء، دأبت تركة كيم إيل سونغ على الإنفاق العسكري والتفريط بالقليل المتوافر من مقدرات، نزولاً عند الجنوح التسلّطي ومركب العظمة، فباتت مُهابة مخافة شرودها، لا ألقها ومنافستها، ومصدراً للتوتر الإقليمي في طرف آسيا الشرقي، تقصده بقايا الشموليين، ويستعين بخبراته العسكرية طلاب النفوذ ومقاولو الأزمات.
على شاكلة أبيه وجده، ينعم كيم جونغ أون بانتقال السلطة إليه من باب الثورة الاشتراكية، فيما رعيته مكبّلة بالأصفاد، ومدجنة بالقوة القاهرة والبطش. وإذا كان للكلمات من مدلول ومعنى، فمن الصارخ أن الثورة والاشتراكية مسختا في الأساس، وتحولتا إلى مطية معيبة في الحاضر، ومهينة للقصد التاريخي المدعى تجسيده وتمثيله. ولئن عرفت البيئة العربية من أراد وجهد للاحتذاء بذاك النموذج، والاتكاء على تجربته، فقد جاءها الردّ مزلزلاً مطالع القرن الحادي والعشرين، طاوياً صفحة أليمة من كتاب التاريخ الحديث.
ولن تتمكن حفنة الظلاميين المتسربلة بالشعارات من إيقاف عجلة التحولات، والنفاذ سليمة بالميراث على غرار ملهمها الكوري الشمالي. وحيث يرزح شعب كوريا الشمالية تحت نير الاستبداد، يستقبل العالم عهد ثالث طغاة الأسرة الحاكمة في بيونغ يانغ، بالتساؤل حول مقدار مضيه في الشذوذ، وما يحمله مجهول الصفات من نوازع التحدي وإشاعة عدم الاستقرار. فليس من متفائل بحكمة القادم إلى المسرح الدولي، ومثله المرتاب من اعتياد الأسرة على اللامعقول والاستفزاز.
لقد أعطى الكوريون الدليل على قدرتهم المعرفية وطاقتهم المجتمعية، حين توافرت لهم مناخات الحريّة ومسؤولية المبادرة والإقدام. يحزن المرء عند مشاهدة ومعاينة الفوارق بين الكوريتين. وبعامل الإنسانية، لا السياسة والمعايير الدولية وحسب، يتطلع الناس إلى فك أسر المغلوب شمالاً، والمقيّد من نظام بالٍ فاتَ زمانه وانتهت صلاحيته منذ أيام المؤسس. كيف لمعادلة الصنمية وعبادة الفرد أن تستمر وتلقى الاعتبار؟ أوليسَ كافياً ذلك الكمّ من المآسي الذي يرافقهما، وهل ثمّة حاجة لجبار يستوي على بحر من العذابات والبطش والدماء؟
سقطت قلاع جارت على شعوبها حيث لم يتوقع أحد، والزمن القريب كفيل بالإجابات عن المتبقي منها لأن عملية التغيير جارية حيثما الأقنعة والشعارية الفارغة، وخريف الديكتاتوريين قادم لا محال. كوريا الشمالية كانت السبَّاقة في توظيف النووي والصاروخي لانتزاع دورٍ والابتزاز. وفي هذا المجرى، اختزل هناء شعبها بعظمة الربان العجائبي، يدفع ثمن الحرية الغائبة مرتين؛ بالحرمان أولاً، ومن ثمّ بمظاهر الولاء الطقوسية التي شبَّ عليها وغدت جزءاً من ثقافة مجتمع مستلب يحوطه المخبرون. لكن وحدة الكوريّتين، على قاعدة الديموقراطية والتفوق الاقتصادي، سوف تتقدم يوماً كل الاعتبارات وتزول العقبات الداخلية والإقليمية (من الصين الداعمة لشكل ماضوي تخلّت عنه، إلى اليابان التي لا ترتاح إلى قيام كوريا موحدة كفوءة بامتياز).
عندها سيكون أون آخر رموز السلالة «العظيمة، الاستثنائية» وينتهي به الأمر إلى البحث عن ملاذ .
السفير