كتب محمد خير الوادي
قبل اربعة عقود ، اعتمدت بكين في سياستها الخارجية معادلة مكنتها من انجاز معجزة حقيقية في التطور والابداع ،اثمرت عن نقل الصين من خانة البلدان النامية الى الى مصاف الدول الاولى في العالم . وقد تجلت تلك المعادلة بالسمات التالية :
اولوية الاقتصاد على السياسة في التطور الداخلي والعلاقات الخارجية ، وصفر مشكلات مع العالم ، والتزام الحد الادنى من الايديولوجيا داخليا وخارجيا .
وقد تجسدت هذه المعادلة في ممارسات القيادة الصينية على شكل سياسة الاصلاح الداخلي القائمة على مبدأ تنشيط القطاع الخاص ، ومنح الشركات الاجنبية ميزات تفوق مثيلاتها الصينية . وتجلت تلك المعادلة ايضا في مبدأ آخر هو الانفتاح على العالم ، والذي مكٌن الصين من جذب الاستثمارات الاجنبية -وفق المبدأ الذي اطلقة ابو الاصلاح الصيني دينغ شياو بينغ- وهو: لا يهم لون القط ، المهم ان يأكل الفئران . بمعنى، لا يهم لون الاموال والشركات الاجنبية القادمة الى الصين سواء كانت غربية اوشرقية ، المهم ان تغذي شرايين الاقتصاد الصيني الشرهة بالاموال والتقانة المتقدمة . كما تركت المعادلة الآنفة الذكر بصماتها في النهج الذي مارساته القيادات الصينية باجيالها الاربعة ،والذي تمثل في تجميد المشكلات الداخلية ، مثل الوضع في هونغ كونغ وبحر الصين الجنوبي ، واستخدام المرونة في التعامل مع المشكلات الدينية والقومية في شينجيان الويغورية والتيبت وتايوان . وكانت حصيلة تلك المعادلة تعزيز القدرات المالية للصين ( بكين تملك اكثر من اربعة ترليونات دولار ، هو اكبر احتياطي للعملات الاجنبية في العالم ) ، وصناعيا ، باتت الصين مصنعا للعالم ، واقتصاديا غدا الاقتصاد الصيني المنافس الاقوى للاقتصاد الامركي ، لا بل انه تفوق عليه في مجالات عدة مثل الذكاء الاصطناعي .
ان وجود فائض مالي كبير وقوة اقتصادية وعسكرية متطورتين ، قد وفر الظروف المناسبة لحدوث تغييرات جوهرية في السياسة الصينية . فالعملاق الصيني لم يعد يقبل بالقيود التي فرضها العالم الغربي على السياسة العالمية ، ولا يريد الاكتفاء بوضع عضو في مجلس ادارة العالم ، بل هو يريد ان يكون في مركز القرار العالمي .وقد عبرالرئيس شي جين بينغ الذي جاء الى السلطة عام 2013، عن هذا النزوع الصينيي الجديد .
فقد بدأت بكين – في ظل ادارة الرئيس شي – في تقوية الجانب الايديولوجي في الجبهة الداخلية . وقد تجلى ذلك في تعزيز سلطة الحزب الشيوعي الصيني ، و تنشيط حضور الفكر الشيوعي ذي الخصائص الصينية ، وفرض التثقيف الشيوعي بين السكان . وبغية ضمان الاستمرار لهذا المنهاج، تخلت بكين عن مبدأ تناوب الاجيال في القيادة الصينية عبر جعل الفترة الرئاسية مفتوحة بعد ان كان سقفها محددا بدورتين . .وفي الجانب الاقتصادي ، تم التراجع عن الخط الاقتصادي الليبرالي الذي مارسه دينغ ، واعطيت الاولوية للدعم المالي والحمائي لشركات القطاع الحكومي ، وفرض قيود شديدة على الشركات الاجنبية . وعلى الصعيد الوطني الداخلي ، تميزت المعادلة الجديدة بالتزام الحزم تجاه الاوضاع في مناطق شينجيانغ وهونغ كونغ والتيبت وتايوان والجزر المختلف عليها في بحر الصين الجنوبي . لكن التطور الاكثر تأثيرا في المعادلة الجديدة تجلى في اخضاع الاقتصاد للسياسة الخارجية . وقد تمت ترجمة ذلك عمليا في تخصيص مئات المليارات من الدولارات لانجاح مبادرة الحزام والطريق التي تهدف الى تعزيز الحضور الصيني في العالم . كما تم التخلي عن مبدأ الليونة في العلاقات الخارجية والذي طبع السياسة الصينية تاريخيا ،وعوضا عن ذلك ،تم اقرار نهج هجومي اقتحامي في الدبلوماسية الصينية، واخضاعها لمبادرة الذئاب المحاربة .
ولا بد من القول ، ان هذه التغييرات العميقة التي حدثت في الصين خلال السنوات الماضية ، نالت رضى قطاعات واسعة من الشعب الصيني وفي مقدمتهم مائة مليون عضو في الحزب الشيويع الصينى . وفي الوقت نفسه ، الٌبت هذه التغييرات العالم الغربي ضد الصين . وكانت نتيجة ذلك ، انتقال العلاقات الامريكية الصينية من مرحلة الشراكة الى الخصام . كما ان الدول الغربية التي لم يعجبها نمو القوة الصينية ، رات في نهوض بكين تهديدا وجوديا لهيمنة الغرب . ولذلك بدأت امريكا والدول الغربية سلسلة من الخطوات لاحتواء الصين ، منها الحرب التجارية ،وتاجيج العداء للصين ، ومضاعفة الحضور العسكري الامريكي في جنوب شرق آسيا ، وتنشيط الاحلاف العسكرية المناهضة للصين ، وانشاء احلاف جديدة .
بكلمات ادق ، فان السلاسة والثقة المتبادلة التي ميزت علاقات الصين مع الغرب خلال العقود الاربعة الاخيرة ، على وشك الاختفاء ، وبات التوتر والشك المتبادل وذهنية الحرب الباردة ،هي المسيطرة اليوم على تلك العلاقات .
ومثل هذا التبدل العميق ، سيخلق مزيدا من المشكلات امام الزحف الصيني . فالاموال الغربية لن تكون بعد اليوم متاحة امام الاقتصاد الصيني ، وابواب الاسواق الغربية لن تكون مفتوحة على مصاريعها امام السلع الصينية . وامريكا تنشط الآن لتأليب جيران الصين : الهند واوستراليا واليابان وغيرهم من دول تلك المنطقة على بكين . كما وضعت الولايات المتحدة هدفا لها هو محاربة النفوذ الصيني في افريقيا وامريكا اللاتينة وآسيا . وقد تجلى ذلك في السعي الامريكي للنيل من مبادرة الحزام والطريق ، واطلاق مبادرات غربية مضادة لابعاد الدول النامية عن الصين .
خلاصة القول ، ان المرحلة الذهبية في علاقات الصين مع الغرب والتي استفادت بكين منها كثيرا خلال عقود على وشك الانتهاء . والثابت ، ان هذه العلاقات ستكون خاضعة لذهنية الحرب الباردة ، وهو امر سيخلق مزيدا من العراقيل والمطبات امام استكمال بكين لنهضتها . والقيادة الصينية تدرك ، ان الوقت ليس لصالحها ، ولذلك تسرع في تعزيز حضورها الدولي قبل ان يستكمل الغرب فرض طوق العزلة عليها.
بكلمات اوضح ، ان جهود الصين في تعزيز نفوذها وقلب موازين القوة في العالم يصطدم اليوم بعقبتين كبريين : الاولى تتجلى في المقاومة الغربية المستميتة للتقدم الصيني ، والثانية هي العقبة المالية . فبكين ستكون مضطرة لانفاق اموال طائلة للحفاظ على زخم نهوضها، وهو امر يفرض على القيادة الصينية الموازنة بين الطموحات الخارجية والمتطلبات الداخلية التي تنمو باستمرار . هذه هي المعادلة الصعبة التي تقف امام بكين اليوم .
22/10/2021