https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

تحت هذا العنوان ، نشر اليوم  موقع الاكايمية الروسية في سانتبيتربورغ باللغة الروسية ، مقالة  مطولة كتبها محمد خير الوادي رئيس مركز دراسات الصين وآسيا حول الاوضاع في افغانستان . وننشر  فيما يلي الترجمة العربية الكاملة لهذه المقالة.   

اثارت  التغييرات العميقة التي جرت  في افغانستان والانسحاب الامريكي من هناك  ، اسئلة كثيرة  ،حول اسباب هذا الانسحاب   وهل يشكل هزيمة لأمريكا ،  ولماذا قدمت واشنطن افغانستان  بما يشبه  الهدية  لطالبان، ولماذا   سيطر مقاتلو  طالبان بسرعة على افغانستان  وانهار الجيش  الافغاني،  ومدى تاثير عودة الحكم الطالباني  على انتشارالحركات  الارهابية في العالم  .

وقد تعددت الاجابات التي طرحتها اوساط سياسية واعلامية عالمية وازنة حول تلك المسائل . فمن هذه الاوساط من  اعتبر ان تلك الاحداث تشكل  هزيمة منكرة لامريكا  وانهيار كامل لخططها . وهناك محللون   قالوا العكس تماما ،عندما وصفوا  ما جرى بانه بداية  تحالف شرير بين امريكا وطالبان  لاضعاف الصين وروسيا  ،وتأجيج مزيد من الفتن الدينية والاتنية في تلك المنطقة ، وهناك  مجموعة ثالثة وصفت الاحداث هناك على انه  انتصار مدوي  للقوى الاسلامية المتطرفة، سيفضي الى انتعاش  الارهاب الديني  في المنطقة والعالم   .

وسأحاول في مقالتي هذه الغوص في خضم  الاحداث الافغانية السريعة والمعقدة ، بهدف رسم صورة اقرب الى الموضوعية  ،وبعيدة عن الانحياز ،وعدم الا نطلاق من احكام مسبقة لفهم الحدث الافغاني  .

ابدأ من السؤال الملح الاول حول اسباب  انسحاب واشنطن من   افغانستان وتخلي واشنطن عن النظام الافغاني  لصالح طالبان .

بداية لا بد من القول ، ان هناك اجماعا حزبيا وسياسيا داخل الولايات المتحدة على انسحاب الجيش الامريكي من افغانستان . فقد باتت الاوساط الامريكية كلها مقتنعة بان الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على هذا  البلد الآسيوي ، اصبحت تشكل عبئا كبيرا ماليا وبشريا على امريكا ، وان حجم  الخسائر التي تكبدتها امريكا هناك اصبح اكبر بكثير من حجم الفوائد التي تجنيها .وقد اعترف  الرئيس بايدن ، بان امريكا كانت تنفق  يوميا  300 مليون دولار في افغانستان . وهذا يعني ان دافع الضرائب الامريكي قد تحمل خلال العشرين سنة الماضية اكثر من اثنين ترليون دولار ،اضافة الى مقتل 2440 جندي امريكي وجرح اكثر من عشرين الفا ، وان اكثر من 800 الف جندي امريكي قد ادوا مهمات مختلفة في  افغانستان خلال العقدين الماضيين .

 وهناك ذريعة اخرى يتمسك بها  الامريكيون لتسويغ الانسحاب ، هي  ، ان الجيش الامريكي قد تدخل في افغانستان عام 2001 بهدف القضاء على القاعدة ، وهو قد انجز ذلك. بعدما قتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في مايو/أيار 2011  .وتضيف الاوساط الامريكية : لم تكن الغاية اصلا  من ذلك التدخل بناء نظام ديمقراطي على الطراز الغربي في افغانستان .

 في الحقيقة لا بد من بعض التعقيب هنا   . بعد القضاء على القاعدة في افغانستان ، فكرت عدة ادارات امريكية جديا في

 تكرار      التجربة الامريكية في كل من اليابان والمانيا    حيث تمكنت الولايات المتحدة ، بنجاح،من بناء انظمة  حليفة لها على انقاض حكومات معادية لامريكا .وبالمناسبة ،  فان هذه الفكرة سيطرت  ايضا  على الجهود الامريكية  في مساعدة الصين الشعبية خلال ثلاثة عقود من التعاون مع بكين . لكن  الاخفاق  كان مصير هذه الفكرة  في  الصين بعد مجيء الرئيس شي جينغ بين عام 2013. كما انهارت هذه الخطة الامريكية  في  افغانستان بعد ان  ادرك الامريكيون استحالة احداث تغييرات في مجتمع محافظ جدا مثل المجتمع الافغاني .

وهناك عامل آخر   شجع  واشنطن على الانسحاب  من افغانستان، وهو اقتناع واشنطن  ان الوجود العسكري الامريكي في افغانستان بات يقدم خدمات  مجانية غير مباشرة  للصين . ففي الوقت الذي كان  الجيش الامريكي يقاتل الارهابيين بمن فيهم اعداء الصين  في افغانستان ، كانت الصين تقطف ثمارالامن الذي يوفره وجود القوات الامريكي في افغانستان ، وتنصرف   للبناء وتطوير قدراتها الاقتصادية والعسكرية لمنافسة امريكا! 

ثم ان  التوجه الامريكي  في تجميع القدرات العسكرية الامريكية  في جنوب شرقي آسيا لمواجهة التحدي الصيني ، كان ايضا احد العوامل التي حفزت واشنطن على التخلي عن افغانستان .  ولذلك سارعت واشنطن  بعد الانسحاب مباشرة الى تأسيس حلف ” أوكس” العسكري الذي يضم كلا من بريطانيا واوستراليا بغرض التصدي للصين ، كما استضاف الرئيس بايدن في 26/9/2021 قمة  دول الحوار الامني  الرباعي ،التي تضم كلا من الهند واليابان واوستراليا اضافة لامريكا  لتنسيق المواقف ضد الصين.

هذه القناعات التي ترسخت في امريكا  ، دفعت الادارة الجمهورية بقيادة الرئيس ترامب للبدء بمفاوضات مع طالبان في الدوحة بغية تأمين انسحاب سلس للقوات الامريكية ، وقد استمرت تلك المفاوضات 18 شهرا وافضت الى اتفاق شامل في شباط   عام 2020  مع حركة  طالبان، يقضي بخروج القوات الامريكية. وقد ايدت ادارة بايدن الديمقراطية  هذا الاتفاق. والنقد الذي يتعرض له بايدن اليوم ينصبٌ بشكل اساسي على الفوضى والاحداث المآساوية   التي رافقت الانسحاب ، والتي اساءت لأمريكا وهزت مصداقيتها امام حلفائها في العالم . لكن هذا النقد لا يطال مبدأ الانسحاب نفسه ،الذي خفف العبء الافغاني، ووفر لأمريكا فرصة  الخروج من ” مقبرة الامبراطوريات ” – كما وصفها  بايدن نفسه -،وادى الى ان تتخلص واشنطن  من كرة النار الافغانية التي احرقت اصابعها  ،وتلقيها  في هشيم تلك المنطقة المضطربة  .

بالمناسبة ، هذه ليست اول مرة انسحبت فيها امريكا  من مناطق صراعات باتت عبئا عليه ،فقد اقدمت على  ذلك في  فيتنام  عام 1975 ، ومن بيروت بعد مقتل 283 من المارينز عام 1983،ومن  الصومال بعد معركة مقديشيو عام  عام 1993.

وبشأن السؤال : هل هُزمت أ مريكا  في افغانستان وهل هذا الحدث يشكل بداية لغروب العصر الامريكي ؟  فانني اقول :  لقد كنت اتمنى فعلا ذلك ، مع زوال الهيمنة الامريكية التي لم تجلب معها سوى الحروب والكوارث للعالم .لكن الواقع لا يؤيد هذا الطرح بالكامل . صحيح ان السياسة الامريكة قد منيت باخفاق ذريع في افغانستان ،ولكن ماحدث هناك لايعني غروب شمس الامبراطورية الامريكية .ولنتأمل نتائج اكبر هزيمة حلت بامريكا في تاريخها ، وهي الانسحاب من فيتنام عام 1975 . فالخروج من فيتنام لم يفضي الى انهيار امريكا ، لا بل ان الوقائع التي نعيشها اليوم تشير الى نقيض ذلك .  لقد نفضت واشنطن عن كاهلها العبء الفيتنامي من اجل التفرغ للتهديد السوفياتي . وكانت النتيجة زوال الاتحاد السوفياتي ، وتحول فيتنام الى مايشبه الحليف لأمريكا . والانسحاب من هانوي  يشبه الخروج  من كابول   . فامريكا تراجعت تكتيكيا في افغانستان من أجل مواجهة التهديد الاستراتيجي الذي تمثله الصين ، وليس من المستبعد ان يتم التقارب بين  طالبان وواشنطن في تلك المنطقة .

وفيما يتعلق بالقول ان  واشنطن قد تخلت عن حليفتها السلطة الافغانية ، فانه ليس مجرد افتراض او رأي ، بل هو حقيقة تستند  الى وقائع الاتصالات الامريكية التي لم تنقطع مع حركة طالبان ، والى تحليل  مضمون اتفاق الدوحة بين الجانبين  .

فرغم العداء الذي سيطر على العلاقات  بين امريكا وطالبان  ،الا ان  الاتصالات بينهما قد بدأت فعليا بعد   مقتل زعيم طالبان الملا عمر عام 2015  . وقد وافقت واشنطن على اقتراح الدوحة باستضافة زعماء طالبان بشكل دائم  وافتتاح مكتب رسمي له صفة دبلوماسية  لهم  هناك ،من أجل تسهيل هذه الاتصالات . وقد ترأس الجانب الامريكي  في هذه العملية  زلماي خليل زاد( من اصل افغاني )، الذي كان يشغل منصب المبعوث الرسمي الى افغانستان في عهد ترامب . واللافت في الامر ،ان زلماي خليل زاد استمر في منصبه  هذا بعد مجيء بايدن. وكان مستوى الاتصالات يرتفع باستمرار الى حد ان احد زعماء طالبان الكبار ، وهو عبد الغني برادر، اجرى مكالمة هاتفية مع ترامب استمرت نصف ساعة .

وكدليل اضافي على العلاقات القديمة بين واشنطن وطالبان ، اشير الى حقيقة ان قائمة الارهاب الامريكية  قد خلت من اسم طالبان ، اي ان واشنطن لم تصنف حركة طالبان منظمة ارهابية ، لا بل ان الجيش الامريكي اعتبر طالبان قوة مهمة في التصدي لمنظمات القاعدة والدولة الاسلامية ، لا سيما تلك التي اطلقت على نفسها ” ولاية خراسان”.

وقد انعكست الاهمية التي توليها واشنطن لطالبان في بنود اتفاق الدوحة  الذي وقٌع عام 2020. ويظهر الاستعراض المتأني  لهذا الاتفاق طبيعة العلاقة الخاصة بين امريكا وطالبان. 

فقد جاء في مقدمة الاتفاق انه تمٌ بين طرفين فقط ، هما الولايات المتحدة وحركة طالبان ، ولم ترد  في الاتفاقية  اية اشارة للحكومة الافغانية التي تعترف بها واشنطن.

فضلا عن ذلك ، فان الاتفاق قد تضمن فقرات تشير الى ان  الطرفين المتفاوضين هما الولايات المتحدة وإمارة أفغانستان الإسلامية فقط . كما  ورد ذكر الإمارة الاسلامية في افغانستان في الاتفاق 15 مرة. وبالرغم من أن واشنطن كانت تصرٌ على اضافة جملة :”التي لا تعترف بها الولايات المتحدة “،بعد كل اشارة الى الامارة ، فإن ذلك يعتبر  مؤشرا واضحا على قبول الولايات المتحدة المبدئي بشكل الدولة التي تمثله طالبان .

نقطة اخرى لا بد من التوقف عندها في الاتفاق، وهي ان الولايات المتحدة تعاملت من خلاله  مع طالبان كطرف  حاكم في افغانستان . وقد ورد ذلك صراحة في النصوص التالية التي تضمنها اتفاق الدوحة :

     – تلتزم طالبان بعدم السماح باستخدام الأراضي الأفغانية من قبل أي جماعة أو فرد من أفرادها أو أفراد الجماعات الأخرى، بما في ذلك القاعدة، ضد أمن الولايات المتحدة وحلفائها.

     – تتعهد  طالبان بعدم منح تأشيرات سفر، أو جوازات سفر، أو تصاريح سفر، أو أي من الوثائق القانونية الأخرى لأولئك الذين يشكلون تهديداً على أمن الولايات المتحدة وحلفائها للدخول إلى أفغانستان.

– تلتزم طالبان  بتشكيل حكومة تشارك فيها القوى والمكونات الأفغانية الأخرى.

كما تضمنت الاتفاقية موادا تشير الى أن طالبان والولايات المتحدة ستسعيان إلى إقامة علاقات إيجابية مع بعضهما، وكذلك بين الولايات المتحدة والحكومة الإسلامية الأفغانية الجديدة بعد التسوية التي يحددها الحوار بين الأفغان.

ومقابل ذلك  ،التزمت الولايات المتحدة  برفع  العقوبات    العقوبات الأميركية المفروضة على أفراد طالبان، وبالتواصل     مع مجلس الأمن الدولي لرفع أفراد طالبان من قائمة العقوبات الدولية . كما تمتنع الولايات المتحدة وحلفاؤها

    عن التهديد أو استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأفغانستان أو التدخل في شؤونها الداخلية

و تشجع امريكا  التعاون الاقتصادي  واعادة الاعمار في افغانستان .   

كما هو واضح ، فان بنود الاتفاق تؤكد ان الولايات المتحدة اعترفت بطالبان كقوة حاكمة في افغانستان  قبل عام من الانسحاب  ، رغم وجود حكومة غني الشرعية

.ويعود  سبب هذا الموقف الامريكي الى سببين :

اولهما ، ان واشنطن قد وجدت ان التعامل مع طالبان كان  افضل الخيارات السيئة لها  للتخلص من الورطة الافغانية ، اضافة الى وجود مصلحة مشتركة مع طالبان تتجلى في   مكافحة منظمة ” ولاية خراسان ” المتطرفة  وغيرها من المنظمات التي تعادي كلا من امريكا وطالبان في الوقت نفسه .ويرى الامريكيون ، ان  الطبيعة الدينية السنية  لطالبان يمكن ان تؤهلها كي تكون رأس حربة ضد ايران الشيعية وضد النظام الشيوعي ” الملحد ” في الصين .

والسبب الثاني : يكمن في اقتناع واشنطن ، ان حليفها النظام الافغاني قد غرق حتى شحمتي اذنيه  في مستنقع الفساد والفوضى، كما اختفت  ارادة القتال بين القيادات العسكرية الرسمية  ، وباتت معنويات الجيش الافغاني في الحضيض. وهناك وقائع كثيرة تتحدث  عن ان كثيرا من الجنود الافغان لم يتلقوا رواتبهم لفترات طويلة ،ولم يحصلوا على مخصصاتهم اليومية من الطعام ، وان الاموال الامريكية التي كانت تمنح  لوزارة الدفاع الافغانية  كانت تذهب الى جيوب كبار الضباط والقادة العسكريين. وكدليل على حجم الفساد الذي عشش في الجيش الافغاني ، اشير الى الواقعة التالية :كتبت عدة صحف امريكية ان العدد  الفعلي لأفراد الجيش الافغاني ، لم يتجاوز المائة الف ، بينما  كان القادة العسكريون يحصلون على رواتب 330 الف جندي مسجلين في قوائم الرواتب  . والفرق يذهب الى جيوب اولئك القادة !

 وكان الجنود يعرفون فساد قادتهم ، ولذلك رفضوا القتال ،  وسلموا اسلحتهم لطالبان.

وازداد تدهور العلاقات بين واشنطن والنظام  الافغاني الحاكم ، عندما رفض الرئيس غني الاقتراح الامريكي  بالمصالحة مع طالبان، وادعى انه سيقاتل طالبان حتى الرمق الاخير . بينما كان اول الهاربين .

لقد ادركت واشنطن ان النظام الافغاني قد خدعها ، وان اموال المساعدات  الامريكية التي كانت تقدمها امريكا للجيش الافغاني  ( 83 مليار دولار )كانت تذوب  في مستنقع الفساد.

امر آخر سهل سقوط افغانستان دون قتال  بيد طالبان  هو ، ان الشعب الافغاني  قد سئم حياة الحروب بعد  ان  عانى  طيلة نصف قرن من ويلات  الحروب الاهلية والغزو الاجنبي . وباتت غالبية الشعب الافغاني ترفض مزيدا من القتال وسفك الدماء  والدمار ،و تتوق الى السلام والحياة الهادئة . وقد عبرت اغلبية المقاطعات الافغانية عن مواقفها  السلمية هذه من خلال  تجنبها الاصطدام بقوات طالبان ، التي دخلت عواصم المقاطعات دون قتال . وتكررت الصورة نفسها في العاصمة كابول.

لهذه الاسباب كلها احجمت واشنطن عن تقديم دعم عسكري لقوات  الحكومة الافغانية ، واتخذت امريكاعمليا موقفا محايدا تجاه زحف طالبان  على المدن. وبذلك قدمت واشنطن افغانستان هدية  لطالبان.

هناك سؤال يطرح الآن حول جوهرالعلاقة المستقبلية بين امريكا وطالبان. اعتقد ان التعاون المؤقت  الذي حصل بين طالبان وامريكا املاه وجود  بعض المصالح  المشتركة بين الجانبين .فالطرفان يشتركان في العداء لمنظمة داعش خراسان ،وواشنطن – كما اشرنا – باتت مقتنعة ،ان الانسحاب من افغانستان هولمصلحة امريكا ، وطالبان لها ايضا مصلحة في اتمام الانسحاب الامريكي ، لانه الطريق  الوحيد الذي يفتح الباب امام عودتها للحكم .وقد شاءت الظروف ان يكون للجانبين صديق موثوق مشترك هو دولة قطر ، التي يسٌرت الاتصالات الثنائية ، والتي  باتت الآن- بسبب علاقتها المتينة مع طالبان – الطرف الذي يمكن ان يساعد في التزام طالبان ببنود الاتفاق ، لا سيما تلك المتعلقة بمنع عناصر معادية لامريكا من النشاط في افغانستان .وهناك جانب  آخر  لا بد من ايراده وهو ان طالبان نفسها تدرك ، ان  استعداء  امريكا  مرة أخرى  قد تكون له نتائج خطيرة ،منها تكرار ازاحتها بالقوة من السلطة مرة أخرى .وهو درس اعلن قادة طالبان انهم تعلموه .  فضلا عن ذلك ، يدرك الطالبانيون  ان اعادة الاعمار والحصول على الشرعية الدولية الكاملة ستكون صعبة عليهم في ظل وجود حالة من العداء مع الغرب وخاصة  مع الولايات المتحدة . ثم ان استفزاز امريكا ، سيدفعها لتقديم الدعم للاطراف الغاضبة من عودة طالبان للحكم في افغانستان وفي العالم الامر الذي سيخلق مشكلات جدية لطالبان . كما انه من الصعب ان تنحاز طالبان الى الصين لمواجهة امريكا ، فهذا الامر دونه عقبات كثيره .ولذلك ، اتوقع ، ان ترتكز  العلاقات بين الطرفين الى معادلة : صفر عداء وصف صداقة .

سانتقل الآن  للاجابة على السؤال المهم الآخر الذي يطرح اليوم في كل مكان  وهو:

هل سيفضي انتصار طالبان في افغانستان  الى تشجيع المنظمات  الاسلامية المتطرفة وزيادة  انتشار الارهاب في العالم ؟

 من اجل الحصول على جواب شاف على هذا السؤال ، ساذكر الحقائق التالية :

اولا : لم يكن العالم الاسلامي موحدا في رد فعله على انتصار طالبان .

 فهناك حركات وانظمة اسلامية احتفلت بانتصار طالبان ، واعتبرته انجازا عظيما للقوى الاسلامية على المعتدين  والطغاة  ، وحافزا معنويا هائلا يبث الحماس  في صفوف المسلمين  ،ويعزز ثقتهم بالنفس وبصحة طريق الجهاد ضد قوى العدوان والاحتلال والاستبداد .واضافة الى الباكستان ،فان معظم القوى  التي رحبت بعودة طالبان   تتشكل اساسا من  الحركات والاحزاب  الاسلامية القريبة من حركة ” الاخوان المسلمين ، والانظمة الحاكمة في  كل من قطر وتركيا  ونوعا الباكستان  التي تدعم الاخوان  .. اضافة لذلك ، فان العلاقات المميزة القائمة الآن بين طالبان وقطر والى حد ما تركيا ، يمكن ان تكون عاملا ايجابيا في لجم التيارات المتطرفة في حركة طالبان .

وفي الوقت نفسه ،هناك  انظمة اسلامية اخرى مثل المملكة العربية السعودية والمنظمات  الاسلامية المرتبطة بها التي تعتنق الفكر الوهابي  ، عبرت فعليا عن عدم ارتياحها  لانتصار طالبان ويهاجم اعلامها يوميا حركة طالبان . وسبب  هذا الموقف المتحفظ للسعودية  من  انتصار طالبان ،يعود ا لى عداء تلك الدول لحركة الاخوان المسلمين ، ومنطقي ان يشمل   هذا العداء حركة طالبان .ولذلك ، فان الحركات الاسلامية الوهابية ليست على وئام مع حرمة طالبان .

ولاكتمال  الوقوف على ردود الفعل الاسلامية ، ، لا بد من الاطلاع   كذلك على مواقف الحركات الاسلامية الشيعية  المرتبطة بايران ازاء عودة  ،طالبان الى الحكم . فتاريخ العلاقة بين ايران وطالبان لا يخلو من ازمات وصدامات .ومن الصعب تجاهل اضطهاد نظام طالبان في تسعينات القرن الماضي  لأقلية الهزارة الشيعية في افغانستان  ، وهو امر اثار غضب ايران آنذاك، ولا يزال يترك اثاره  السلبية على العلاقات بين ايران  والمنظمات الشيعية وطالبان حتى اليوم .

ولابد من تسليط الضوء على موقف تنظيم الدولة الاسلامية (داعش )-وهو القوة الارهابية الاساسيىةالذي  بين الحركات الاسلامية المتطرفة – من حركة طالبان  . وساعرض بالتفصيل لذلك الموقف . في عام 2015أعلنت داعش تأسيس فرع لها في الباكستان يسمى ولاية  خراسان ويضم جغرافيا كلا من أفغانستان وإيران وباكستان والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى. ومنذ تأسيسه ، اعلن تنظيم “ولاية خراسان” عداءه لحركة طالبان ، واتهمها بالعمالة للولايات المتحدة  وخيانة مصالح المسلمين من خلال عدم السماح للمقاتلين الاجانب بالعمل ضد الغزاة الامريكيين  داخل افغانستان . ونفذ هذا التظيم عمليات عسكرية ضد طالبان ونظم عمليات اغتيال كثيرة  ضد كوادرها في انحاء مختلفة من افغانستان .

وقد اعترف محمد حنيف أتمر مستشار الأمن القومي السابق في حكومة الرئيس الأفغاني السابق ،بان  الحكومة الافغانية  ووكالة المخابرات المركزية الامريكية قدمتا مساعدات كبيرة لداعش افغانستان ،  بهدف استخدام “تنظيم ولاية خراسان ” ضد حركة طالبان  والتخلص منها”. و يتراوح عدد مقاتلي تنظيم الدولة في افغانستان ما بين 5000 الى 10000 آلاف مقاتل.وهناك خلافات دينية وسياسية عميقة بين طالبان وولاية خراسان ، اهمها ،ان التنظيمين ينتميان الى  تيارين مختلفين في الاسلام . فطالبان تنتمي الى  المذهب الحنفي الذي يعتنقه معظم الشعب الافغاني ، بينما  اعضاء ولاية خراسان يتبعون المذهب السلفي المنتشر في بعض مناطق باكستان وفي المناطق الحدودية الباكستانية –الافغانية.  والخلاف الثاني الجوهري يكمن في ان تنظيم  ولاية خراسان يعمل على  اقامة الخلافة الاسلامية  في كل العالم ، ولذلك فهو يجند في صفوفه مقاتلين من دول عديدة  ، بينما طالبان تنشط من اجل  انشاء امارة اسلامية في افغانستان فقط ، ولا تقبل في صفوفها مقاتلين غير افغان.

بكل الاحوال ، فان استمرار  وجود داعش في افغانستان يشكل مشكلة كبيرة لطالبان . وتعترف طالبان انها  اخطأت عندما افرجت لدى دخولها كابول عن 500 سجين من اعضاء داعش ، لأن هذه الخطوة ستعزز وجود منظمة خراسان في افغانستان.

وهناك وجه آخر لتاثير انتصار طالبان على  الحركات الدينية والمتدينين لا سيما في الدول العربية .لقد انخرط عشرات الآلاف من الشبان العرب في في صفوف القاعدة في افغانستان  من اجل قتال السوفيات في افغانستان . وهؤلاء لا زالوا موجودين وقد نما عددهم وتوسعت علاقاتتهم ، بسبب شدة القمع الذي تمارسه بعض الانظمة العربية  وانسداد افق العمل السياسي وتفجر الحروب الاهلية في  المنطقة . لقد هللت هذه الفئة كثيرا بانتصار طالبان  على اكبر قوة في التاريخ ، وتعززت قتاعتها بان اسلوب طالبان الجهادي هو الاجدى في دحر الاستبداد الداخلي والغزو الخارجي . واذا لم يتم معالجة  الظروف السياسية في الدول العربية ، فان  اعدد المقاتلين السابقين في صفوف القاعدة وطالبان سيكبر مثل كرة الثلج ، ويمكن ان يصبح اكبر مخزان بشري لتغذية القوى الارهابية ، خاصة اذا ما فتحت طالبان الحدود اما هؤلاء الغاضبين والناقمين على الاوضاع العربية والعالمية .

ثانيا :

لا تزال في ذاكرة المجتمع الدولي  وقائع تعاون  طالبان عندما كانت في الحكم خلال سنوات 1996-2001  ، مع منظمة القاعدة الارهابية ورفضها تسليم زعيم القاعدة اسامة بن لادن للولايات المتحدة ، وهو ما شكل سببا للغزو الامريكي لافغانستان والاطاحة بحكم طالبان.وتشكل هذه الوقائع  ارضية للقلق الذي يساور عددا كبيرا من دول العالم ازاء فوز حركة طالبان . ويدرك زعماء طالبان حساسية هذا الامر ، ولذلك يبذلون جهودا كبيرة لنفي اية علاقة مستقبلية بينهم وبين منظمة القاعدة الارهابية ،  والظهور بمظهر الاعتدال .ولذلك  اعلنت طالبان   ، انها  قد تعلمت من دروس الماضي ، وان منظمة القاعدة ليست موجودة الآن في افغاتستان . وان الحركة –خلال العشرين عاما  الماضية  – قد تغيرت . وللدلالة على ذلك قدم مسؤولوطالبان  تعهدات الى الدول المجاورة مفادها ،  ان افغانستان لن تكون مرة اخرى ملاذا للقوى والانشطة المعادية  لدول أخرى ، وان طالبان تريد  اقامة علاقات صداقة مع كل الدول ، بما في ذلك الولايات المتحدة .وقد سمع المسؤولون في كل من الصين وروسيا الاتحادية هذه التعهدات خلال زيارات قام بها قادة حركة طالبان الى كل من موسكو وبكين .

هناك من يشكك بهذه التعهدات ، ويؤكد ان  غاية طالبان من وراء هذه التصريحات المعتدلة ، هو تأمين الاعتراف العالمي بحكمها واضفاء الشرعية عليه ، والحصول على مساعدات دولية تمكنها من تثبيت حكمها ومواجهة  الاقتصاد المنهار في افغانستان .وفي حقيقة الامر ، فان هناك ارضية لهذه التشكيكات ، فطالبان تبقى حركة دينية متشددة ومحافظة ، وهي تعتبر الشريعة الاسلامية – حسب فهمها – مصدر التشريع الاساسي  في ادارة  الدولة. وهي قد اختارت صيغة الامارة الاسلامية  للحكم في افغانستان ، وتطلق على زعيمها لقب ” امير المؤمنين” . وطبيعي في هذه الحال ، ان تكون لها علاقات مع كل الحركات الاصولية الاسلامية المعتدلة والمتشددة  في العالم .وينبغي ان نتذكر دائما ، ان طالبان لن تخرج ابدا من جلدها الديني المحافظ .

وقناعتي ، انه ينبغي الحكم على طالبان من خلال افعالها المستقبلية وليس من اقوالها فقط  . اضافة الى ذلك ، لا بد من التأكيد على امر اخر غاية في الاهمية ، هو ان تشدد المجتمع الدولي ازاء طالبان وفرض الحصار عليها ، يمكن ان يدفعها  فعلا الى تمتين علاقاتها مع المنظمات الاسلامية المتطرفة ، وتقديم كل التسهيلات لهذه المنظمات .

 ان الاسلوب الافضل للتعامل مع طالبان اليوم ، هو الانفتاح  عليها ، واخذ تصريحاتها المعتدلة على محمل الجد ، مع التزام الحذر ،ونسج علاقات اقتصادية معها  واعطائها الفرصة لتنفيذ ماتقول علنا .

وينبغي ان نضع بعين الاعتبار ،  ما تفكر به طالبان الان . فهي تعتقد انها قد تمكنت من هزيمة اقوى امبراطورتين في التاريخ المعاصر ، وان الطريق الذي سلكته والفكر الذي تعتنقه هما اللذان مكٌناها من ذلك . ولذلك فمن العبث الآن التحدث مع طالبان من موقع  القوة والتهديد ، بل يجب  التزام خيارات التعاون  وبناء اكثر قدر ممكن من المصالح معها . وليس هناك اسلوبا آخر  يلجم التيارات المتشددة في طابان .

واختم حديثي بالقول :ان مارد الجن الطالباني الذي اطلقته واشنطن من قمقمه على غرار جني القاعدة  ـ بات يشكل مشكلة للجميع بما في ذلك امريكا. لأنه اتى من اعماق  التاريخ السحيق، مترعا بنشوة النصروبالثقة المفرطة بالنفس ،  ومحملا بافكار وتصورات  تجاوزها الزمن والتطور . والمشكلة  الاكبر ،لا تكمن في هذا الجني فقط ، بل ان تأثيره يمكن ان يتعدي حدود افغانستان . فهناك ه كثير من الحركات والقوى  المتطرفة التي تعتبره  مثالا يحتذى وقدوة لها . وافضل طريقة للتعامل مع هذا المارد هي العمل على احتوائه ، و السعي لتغيير سلوكه او اعادته الى قمقمه.

27/9/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة عشر − أربعة =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube