https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

تُعد عمليات صنع القرار في اليابان، من الأمثلة الجيدة على تخطي البيروقراطية في إدارة المنظمات، وعدم الانفراد باتخاذ القرار من قِبَل أعلى سلطة بالمنظمة؛ إذ تسير تلك العلمية بعكس الاتجاه السائد في أغلب المنظمات؛ أي تسير من أسفل إلى أعلى. ومنذ السبعينات، أصبحت اليابان في المركز الثاني اقتصاديًا بعد الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من الدمار الرهيب الذي أصابها في الحرب العالمية الثانية، ولكن بفضل الخصائص الأخلاقـية والاجـتماعية للفرد الياباني- المتمثلة في الانضباط الذاتي، والروح الوطنية، وتطبيق الجودة الشاملة، وتجسيد الثورة التكنولوجية على مستوى جميع الميادين- استطاعت اليابان أن تصبح قــوة عظمــى ضمن الدول الثماني الكبرى في العالم. فلسفة الإدارة اليابانية يلعب التاريخ والثقافة دورًا هامًا في معظم نظم الإدارة اليابانية الحالية؛ إذ تعود بعض جذور تلك الممارسات اليابانية إلى الفلسفة الكونفوشيوسية (احترام الشيوخ، الولاء، الانسجام)، والبوذية (التواضع، أخلاقيات العمل، العمل من أجل الخير الجماعي)، وبوشيدو (واجب، واجب، شرف)، وممارسات المجتمعات الريفية قبل العصر الحديث( كزراعة الأرز ضمن مجموعات تعاونية)؛ وهو ما يفسر بعض الخصائص الرئيسة للممارسات الإدارية اليابانية الحديثة؛ مثل الأبوية، والسلوك الجماعي (Sagi,2015). اتخاذ القرار تعتمـد المؤسسـات اليابانيـة على القرار الجـماعي المشتـرك، سواء كـان يتعـلق بـإحداث تعـديـل في عمليات الإنـتاج، أو بـتأسيس مصنـع جديد؛ إذ يبذل اليابانيون قصارى جهدهم في اتخاذ القرارات بالـتركيز على الأهـداف الـعامة للمؤسسة، والبحث عن الحلول الأكثر حظًـاً في النجـاح (حسان، 2011). ويشير بيتر دراكر – بحكم تجربته مع اليابانيين – إلى أنَّ عملية اتخاذ القرار وفق الأسلوب الياباني تتميز بالتركيز على الأمور الأساسية التالية: تحديد المشكلة وفهمها، أكثر من تركيزها على إيجاد الحل. وجهات النظر المختلفة، بحيث لا تكون هناك مناقشة للحل، إلا بعد الاتفاق على المشكلة. البدائل المتاحة أكثر من التركيز على الحل الصائب. إن الطريقة اليابانية في اتخاذ القرار ينتج عنها قرارات فعالة؛ لأن التنفيذ الفعال يُصمَّم أثناء عملية اتخاذ القرار، كما أن المديرين اليابانيين لا يتخذون قرارات صغيرة كثيرة، بل يتخذون قرارات كبيرة قليلة؛ لأن القرارات الصغيرة الكثيرة من أكثر الأشياء الضارة لأي منظمة. ومعروف أن المدير الفعَّال لا يتخذ قرارًا، إلا إذا كان هناك اختلاف في وجهات النظر (جلدة، 2009). مبدأ الجماعية إن مبدأ الجماعية سمة أساسية يُمكن أن توسم بها القيادة الإدارية في اليابان، والذي يتمثل في تعهد القائد ومرؤوسيه بالعمل على إنجاز أهداف مؤسساتهم وتحقيق تطلعاتها، فالقائد الفرد دوره توحيدي ورمزي، ويتم إرشاده إلى ما يجب عليه عمله من مرؤوسيه، بعكس ما هو متعارف عليه في بقية دول العالم، حتى قيل إنَّ من علامات الموظف الذكي باليابان، معرفته وقدرته على توجيه رئيسه؛ لأن منظومة الأفكار الإدارية في اليابان تنطلق بشكل معاكس (أي من أسفل إلى أعلى) (المنيف، 1999). إن الأخذ بمبدأ المسؤولية الجماعية من أسس الإدارة اليابانية -وفقًا للشواورة- ، كما أنَّ كافة أعضاء الفريق مسؤولون أدبيًا ونظاميـًا أمام المشرف أو المدير المباشر عن تنفيذ العمل وتحقيق أفضل النتائج، فالمسـؤولية في الإدارة اليابانية جماعيـة، وليسـت فرديـة؛ كـون اتخـاذ القـرار يـتم بصورة جماعية وليس فردية؛ وبالتالي يحاسـب الجميـع على أي تقصـير في العمـل وليس فردًا بعينه. وهذا المبدأ نفسه، يستخدم عند احتساب معدلات الإنتاجية، فبما أن الجماعة هي محـور العمليـة الإنتاجيـة، وعليهـا تقع مسؤولية اتخاذ القرار، وتنفيذ ما يترتب عليه من مهام وواجبـات؛ فـإن إنتاجيـة عمل المجموعة تُقاس ويُحاسب عليهـا عـلى أسـاس الجهـد الجماعـي، وليس الفردي؛ وبالتالي فإنَّ المكافآت الإنتاجية تُوجَّه لهم جميعًـا، على أساس الأرباح المحققة بنهاية كل فترة مالية، وحسب معايير عادلـة يتم التوافق عليها فيما بينهم. قرار مؤسسي إن الرئيس في اليابان- وفق ما يشير إليه الجميلي- ليس هو الشخص الذي يتخذ القرار في جميع الأمور؛ لأن القرار عندهم تتخذه المؤسسة، يبدأ في أدنى المستويات الإدارية، ويصعد إلى أعلاها. وعند الحديث إلى مسؤول ياباني، فعادةً ما يهز رأسه ويبتسم؛ ما يعني:”لقد استمعت لما قلت، وسوف أقوم بنقله”. والسبب في ذلك، أن اتخاذ القرار في اليابان يتم وفق عملية محددة تراعي كل الجوانب، وبعد دراسة مستفيضة، وربما أعيدت الدراسات عدة مرات؛ للتأكد من صحتها قبل اعتمادها. ويتخذ اليابانيون قرارات محفوفة بالمخاطر، إذا شعروا أنها يمكن أن تساعد المجموعة أو الشركة أو البلد، إذا توافرت معلومات كافية عن الوضع، وتم توقع كل النتائج المحتملة لاتخاذ القرار. إنَّ العواطف مهمة جدًا في الثقافة اليابانية؛ إذ يتأثر البعض بها عند اتخاذ قراراتهم ؛ لذلك فإن اتخاذ القرار هناك يتأثر بالنهج الشخصي يطلقون في الإدارة اليابانية مصطلح “رينجي على عملية صنع القرار؛ “أسفل إلى أعلى”؛ وذلك للتغلب على الممارسة الأوتوقراطية في صنع القرار؛ إذ يعد “رينجي” من عمليات صنع القرار الهامة في ممارسات الإدارة المعاصرة لتحقيق النجاح في الأسواق العالمية، ولطبيعة الإدارة التشاركية التي تنتهجها. آلية عمل رينجي تقوم فكرة عمل “رينجي” على إشراك الجميع- وخاصة المديرين- في كل مستويات الشركة ممن يتأثرون بقرار وشيك. وتتكون كلمة رينجي من جزأين، الأول “رين”؛ وتعني التقدم باقتراح إلى مشرف والحصول على الموافقة، والثاني “جي” ؛ بمعني المداولات والقرارات). ويمر نظام رينجي بأربع مراحل: اقتراح، تداول، موافقة، تسجيل. وعادة ما تبدأ المقترحات من قبل المديرين المتوسطين، على الرغم من ورودها أحيانًا من كبار المسؤولين التنفيذيين؛ وهو ما يجعل عملية “رينجي” تستغرق وقتًا طويلًا؛ من خلال دعوة مزيد من أعضاء المنظمة إلى الموافقة على القرار(Sagi,2015). ويتم وفق هذا النظام إعداد نموذج “رينجي شو” (Ringi –Sho)، والذي يُوزع على كافة المدراء للاطلاع والتعديل أو المصادقة؛ وذلك بوضع ملاحظات وختم المدير المسمى “هانكو” (Hanko). الختم المقلوب ويمكن وضع ختم المدير بالمقلوب في حالة عدم الموافقة على المشروع في النهاية، ويسبق وضع الختم عملية تسمى “نيماواشي” (Nemawashi)، يُقصد بها خلع الشجرة من جذورها وربطها معًا وزراعتها بشكل صحيح حتى تنمو. وتتم هذه العملية بعد انتهاء ساعات الدوام وخلال الاجتماعات غير الرسمية؛ ليناقش المدراء أسباب معارضة القرار، قبل وضع الختم بالمقلوب. وتنتهي العملية بإجماع نهائي بتوقيع الرئيس على القرار إذا كان يخدم الاستراتيجية العامة للشركة (المنيف،1999). وفي حال عدم الموافقة على القرار، تعود الوثيقة إلى مقترح القرار؛ لعمل التعديلات وفق الملاحظات على الوثيقة. أسباب نجاح رينجي وعلى الرغم من أن البعض يرون أن عملية “رينجي” تستغرق وقتًا طويلًا، لكنها لا تزال تحتل مكانة عالية في تقدير طبيعة الإدارة التشاركية، مع إجراءات صنع القرار الجماعي في المنظمة. وأحد عوامل نجاح نظام رينجي، هو نظام التواصل المؤسسي الياباني القائم على القيم الاجتماعية الثقافية للمجتمع ككل، والذي يرتبط بمستوى عال من الإنتاجية والابتكار التكنولوجي، في جميع الاتجاهات، من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى، وعبر قنوات أفقية وقطرية. كذلك، فإن “نيماواشي” يعني الاجتماع للتهيئة، ولمناقشة الأفكار والخطط وتطويرها، وصقلها في اجتماعات غير رسمية بين الموظفين (Sagi,2015). بالرغم من ارتباط عملية اتخاذ القرار في اليابان بفلسفة ذلك المجتمع عبر موروثه التاريخي، ومقوماته الجغرافية والاقتصادية، إلا أنه لا يمكن إنكار ما حققته الإدارة اليابانية الفعّالة من حشد طاقاتها وقدراتها على تحفيز المنظمات ورفع الكفاءة والإنتاجية. ولا ننسى الترابط الكبير بين الثقافة المؤثرة على السلوك الاقتصادي وأخلاقيات العمل الإيجابية، وخصائص الإدارة اليابانية مجتمعة، والتي أدت إلى ظهور القدرات الاقتصادية الهائلة في هذا العصر. العرب أجدر بالنجاح ولا شك أن مجتمعاتنا العربية تمتلك من المقومات، ما يجعلها أجدر بالنجاح في صنع القرار، لاسيما وأن مبدأ الشورى، والعدالة، والمسؤولية، وتفضيل مصلحة الجماعة، والبعد عن الذاتية، قيم متأصلة في ديننا، وثقافة مجتمعاتنا. وأرى أن أي مسؤول يمكنه اتخاذ القرار بطريقة ديموقراطية فيما يتعلق بالقرارات التطويرية والتحويلية؛ عن طريق تطبيق نظام “رينجي”؛ حيث يتم تدوين الأهداف والمبررات للقرار المقترح والجهة واسم الشخص المقترح، ويتم إمراره بواسطة برامج الشبكات- تجاوزًا لمشكلة الوقت المستغرق- على مدراء الأقسام ذات العلاقة بالقرار. بعد ذلك، يقوم رئيس ومدير كل قسم بإمراره على الأفراد المتعلق بهم القرار، ثم يُعقد في هذه المرحلة اجتماع “نيماواشي” لتقريب وجهات النظر. وأخيرًا، يضع كل مسؤول ختم (رمز) الموافقة، أو ختم عدم الموافقة، مع إبداء ملاحظاته حيال القرار؛ ما يعني جمع القرار بطريقة آلية؛ حتى يعود للمصدر الذي يقوم بالتعديل في القرار المقترح، فإذا اكتملت الموافقات، تم رفعه إلى الرئيس لإصدار القرار.. هيفاء محمد خوجه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة − 3 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube