https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png
هذه المقابلة مع البروفسور أندريه لانكوف، من جامعة كوكمين في سيئول، وهو أحد أبرز الخبراء في كوريا الشمالية، أطلق العديد من المنشورات لمشروع إن لبرتي، تتعلق بالوضع الراهن في جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية (DPRK)، وهي واحدة من التجارب الاشتراكية الأكثر راديكالية في العالم. – متى، وفي أي المراحل، بدأت السوق السوداء تنمو في كوريا الشمالية؟
في البداية، نحتاج إلى استحضار الماضي، بالتحديد، خلال فترة حكم كيم إلسونغ، والذي بدأ بشكل فعلي عام 1948 واستمر حتى عام 1994 في أواخر الستينيات، كانت كوريا الشمالية الدولة الأقل إتباعا لاقتصاد السوق واستعمالا لآلياته في العالم. فجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية اتبعت نظام الحصص التموينية الأكبر و الأشمل في العالم. وبحلول السبعينيات، كانت الكتب هي السلع الوحيدة المعروضة للبيع(وكانت على الأغلب مؤلفات ’القائد الأعظم‘ أو قصصا تحكي عن أمجاده، أما الكتب الأخرى فلم تكن تُنشرُ أصلا)، بالإضافة إلى بعض القرطاسية، وبعض الأدوات ذات الاستخدام اليومي كالأمشاط البلاستيكية، وبعض اللوازم الشخصية. كل السلع الأخرى كانت توزّع وفق ضوابط صارمة. وكانت طريقة التوزيع تتم وفق صيغة هرمية تراتبية معقدّة وغريبة، صيغة تبتُّ في مسألة مَن يحصل على ماذا، وبأي نوعية. من الناحية الشكلية، كانت البضائع تباع، ولكن الأسعار كانت منخفضة للغاية، وذات طبيعة رمزية ليس إلا—في الواقع، كان ثلث الراتب الشهري الاعتيادي كافيا لشراء مجموعة كاملة من سلع الحصة التموينية، وبالطبع، كان الاقتصاد يعاني من تراكم ضخم في السيولة النقدية، مما أدى إلى تضخم مستتر كبير.
على خلاف الاعتقاد السائد في الغرب، فإن الأسواق لم تكن ممنوعة بشكل رسمي في جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، ولكن نطاق البضائع المسموح بيعها كان ضيقا ومحدودا جدا. من الجدير بالذكر أنه منذ عام 1957، تم فرض حظر صارم على بيع محاصيل الحبوب – وهي المصدر الرئيس للغذاء في كوريا الشمالية. وكانت الفكرة القائمة وراء هذا الحظر كالآتي: إذا لم يتمكن الفرد من شراء الحبوب في السوق، لن يبق أمامه خيار سوى أن يبحث عن عمل في مؤسسة من مؤسسات الدولة التي تحتكر منح بطاقات الحبوب. أما الرز وغيره من المحاصيل فكانت تزرع في حقول الحكومة فقط و كانت أية عملية اتجار في الحبوب تعدّ عملا إجراميا يعاقب عليه القانون.
كان القطاع الخاص شبه منعدم. مساحة الحدائق المنزلية في القرى كانت محددة بمائة متر مربع، أما في المدن فكانت تتراوح بين 20 و30 مترا مربعا. أما الملكية الخاصة للماعز، أو الخنازير أو الدواجن، فكانت مسموحة، ولكن لم يكن من السهل إيجاد طعام لها، مما يتطلب علاقات جيدة مع أصحاب النفوذ. وطالما كانت بضائع القطاع الخاص – والتي كانت كمياتها قليلة جدا ولا تكاد تُذكرهي الوحيدة التي يمكن بيعها في الأسواق، وبالنظر إلى كمية الأموال الهائلة المتداولة ، كانت الأسعار خرافية في عقدي السبعينيات والثمانينيات: فقد كان سعر التفاحة الواحدة يعادل أجرة عامل لمدة يومين، أما كيلو اللحم فكان يساوي حوالي ثلث أو نصف المرتب الشهري للموظف. ولكن، أود أن أكرر هنا، أن الأسواق بهذه الصيغة، كانت شرعية تماما. كان في بيونغ يانغ عشرة أسواق، ولكنها كانت غير قادرة على لعب دور اقتصادي ملموس. غير أن منتصف السبعينيات شهد أول بوادر الأزمة في نظام التوزيع. إذ تراجع عرض البضائع بشكل تدريجي في المدن الصغيرة والمحافظات في أول الأمر، ومن ثم في المدن الكبرى. ثم لوحظت بعض التأخيرات في استلام حصص البطاقات التموينية. حيث تم تقليل معدلات حصص الحبوب في أوائل السبعينيات وفي أواخر الثمانينيات. أما بعض الأنواع الأخرى من المنتجات فقد توقفت حتى ضمن نظام البطاقة التموينية (على سبيل المثال، في السبعينيات، توقف تجهيز معظم المواطنين بمادة السكر، رغم أن المسؤولين استمروا في الحصول عليه).وفي أواخر الثمانينيات، وعلى الرغم من الدعم السوفيتي والصيني، أصبح الوضع في المحافظات متوترا جدا، حيث بدأ الناس يتضورون جوعا، مع أن المجاعة لم تصل إلى حد خطير. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، توقف الدعم السوفيتي لكوريا الشمالية و بدأ الوضع الاقتصادي بالتدهور بشكل سريع. فبدون الوقود الروسي والأدوات الاحتياطية المدعومة، اضطرت المصانع على الإغلاق. أما المزارع فقد افتقرت إلى المعدات، والأهم من ذلك، الأسمدة. وفي أواخر الثمانينيات، عانى العديد من الكوريين من المجاعة. وأصبح الجوع أكثر حدّة في منتصف التسعينيات.
منذ مطلع عقد الثمانينات، بدأت السلطات في التسامح مع المنتجات المنزلية الحرفية، على الرغم من أن مثل هذه الأنشطة كانت تعدّ نوعا من أنواع “البحث عن البدائل الخارجية“outsourcing وكانت تتم تحت سيطرة حكومية صارمة. في الثمانينيات، ازدادت تجارة الحبوب بالرغم من عدم رفع الحظر الرسمي عليها. وعلى خلاف الوضع في الصين، حيث قامت الدولة بإدخال بعض الإصلاحات في اتجاه دعم اقتصاد السوق في أواخر السبعينيات، فإن كوريا الشمالية حافظت على الوضع القائم. بل على العكس، أكدّت الحكومة أن الأسلوب السوفيتي أو الصيني فيالمراجعة والتنقيح” غير مقبول على الإطلاق، وأن نظام كوريا الشمالية الاشتراكي لا عيب فيه، لذا فإن أي تغيير لهذا النظام هو أمر ممنوع بتاتا. ولكن، في ظل المتغيرات الجديدة، أصبحت الحكومة الجديدة غير قادرة على تنفيذ أو تفعيل العديد من القيود والممنوعات. – ما الذي قاد إلى ما يمكن أن نطلق عليه اسم “التحرير التلقائي” إذا جاز التعبير؟ عامل مهم واحد يتمثل في تفشي الفساد كالنار في الهشيم، ولا سيما بين صغار المسؤولين الحكوميين، حيث أن أزمة الطعام قد ألمّت بهم أيضا. كثيرا ما قيل لي أن المسؤول الحكومي النزيه الذي يحاول بكل صدق أن يعيش وفق القانون لم يمكن له أن ينجو من المجاعة. ونتيجة لذلك، فإن العديد من هؤلاء النزيهين قد لقوا حتفهم، بينما أنتهج الآخرون سبلا أخرى للعيش. فكانت الرشاوى تأخذ أشكالا عديدة، فمنها العيني ومنها النقدي بالعملة الصعبة، أو باليوان الصيني، الذي كان يميل نحو التضخم هو الآخر (ففي التسعينيات، كان الدولار الأمريكي يساوي 8.10 وانا، أما عام 2000 فكان يساوي حوالي 150).
من الجدير بالذكر أنه قبل بداية المجاعة الحادة التي ضربت البلد في أواخر الثمانينيات، لم يكن معظم الكوريين يريدون الانخراط في أنشطة السوق التي كان ينظر إليها سلبا في أغلب الأحيان. إذ كانت النظرة السائدة هي أن التجارة كانت حرفة المضاربين والمحتالين. وقد استمرت هذه النظرة طيلة الفترة التي استطاعت فيها الدولة أن تُطعم الشعب بشكل أو بآخر. ولكن ما إن أدرك الشعب أنه لم يعد بإمكانه الاعتماد على الدولة، كان عليه إيجاد وسائل بديلة للعيش. ونتيجة لذلك، فإن نظام الدولة للبطاقة التموينية، الذي كان لا يزال موجودا، قد تراجع أمام القطاع الخاص. وفي التسعينيات، تنامت أهمية الأسواق والقطاع الخاص بشكل سريع، كما تزايد عدد العاملين في السوق، وتعددت السلع التي تباع في الأسواق. وفي نهاية التسعينيات، كان كل شيء تقريبا يباع في السوق. أما الممنوعات السابقة فقد ضُرب بها عرض الحائط. فالبضائع المسروقة، التي أخذها الفلاحون من حقول الدولة والمزارع الجماعية، أصبحت متوفرة وتباع علنا. منذ بداية التسعينيات، بدأ الفلاحون يزيدون من حجم أراضيهم دون موافقات رسمية من خلال زراعة منحدرات الجبال. وعندما أصبحت هذه الظاهرة واسعة الانتشار، لم تتدخل الحكومة. ولكن الوضع استمر في التدهور. ففي عام 1996، تحوّلت أزمة الطعام إلى مجاعة. فبحسب التقديرات الرسمية (التي كانت حكومة كوريا الشمالية تقدّمها للمنظمات الدولية ولكن لا تقدمها إلى شعبها)، خلال المجاعة التي ضربت البلد منذ عام 1996 حتى 1999، لقي حوالي 250,000 شخصا حتفهم. أما أعلى التقديرات الدولية فتشير إلى أن عدد الضحايا كان حوالي ثلاثة ملايين نسمة. وأغلب الظن أن تقديرات كوريا الشمالية تحاول تقليل العدد، بينما التقديرات الدولية، مرتفعة جدا هي الأخرى. لكن الحقيقة تقع في مكان ما بين التقديرين، بين النصف مليون والمليون ضحية. أدت المجاعة إلى العديد من التغييرات الاجتماعية الكبيرة و انهارت المحاولات التقليدية القديمة للسيطرة التامة على المجتمع والاقتصاد. أولا، فقدت كوريا الشمالية السيطرة على حدودها مع الصين، وبدأت الهجرة الجماعية للاجئين عبر الحدود. ونتيجة لذلك، بحلول عام 1999، كان حوالي 300.000 من الكوريين الشماليين قد فرّوا إلى الصين إلى المناطق الحدودية التي تسكنها بعض الأعراق الكورية. وكان معظم هؤلاء اللاجئين الذين هربوا من سياط المجاعة يمارسون أعمالا شاقة لم يكن الصينيون انفسهم ليقومون بها.
لا بد أن أشير هنا أن فتح الحدود كان أمرا مدبّرا جزئيا. فمن ناحية، كان من الصعب جدا السيطرة على ما يقارب 1400 كيلومترا من الحدود التي تحاذي بعض الأنهار الضيقة والضحلة. من ناحية أخرى، قامت الحكومة بتخفيف العقوبة المترتبة على العبور غير الشرعي للحدود. كان التسلل عبر الحدود جريمة كبرى في السابق، ولكن منذ عام 1996، أصبح جنحة ثانوية نسبيا، عقوبتها السجن لأشهر قليلة. وكما ذكرت آنفا، فإن معظم المهاجرين إلى الصين كانوا لاجئين عاديين. ولكن البعض منهم بدأ يعمل على تهريب البضائع الصينية إلى كوريا الشمالية. أصبحت الصين النافذة التي تطل منها كوريا الشمالية على العالم الخارجي، كما أصبحت مصدرها الرئيس للبضائع والمعلومات. ولم يكن ذلك راجعا لجرأة المهرّبين فقط، فمنذ أواخر التسعينيات، كانت جميع المنظمات شبه الخاصة تعمل تحت غطاء المنظمات العسكرية والحزبية، والتي قامت بتجارةشرعية – ناشطة مع الصين. كانت هذه المنظمات تصدّر المعادن إلى الصين، فضلا عن بعض الأطعمة البحرية المجففة، والأعشاب الطبية. كما أن تهريب الذهب من كوريا الشمالية قد تزايد بشكل ملحوظ، ومنذ عام 1998 فصاعدا، حدثت موجة من تهريب الآثار، نتيجة للحفريات غير الشرعية للمواقع التاريخية والقبور.
تدفقت مختلف أنواع الألبسة والأجهزة الإلكترونية من الصين إلى كوريا الشمالية. ومن المثير للاهتمام، أن نوعا من التصنيع المتنوع، الذي يذّكرنا بالأيام الأولى للرأسمالية الأوربية قد بدأ يظهر في كوريا الشمالية ولم تعد هناك حاجة لقيام المواطنين بتهريب الطعام، ففي عام 1997، أصبح بالإمكان الحصول على الطعام من المساعدات الإنسانية التي تقدمها المنظمات العالمية. كانت المساعدات توزّع حسب الرتب أو المناصب: فمدينة بيونغ يانغ والمدن الكبيرة الأخرى، فضلا عن المسؤولين الحكوميين (بعبارة أدق، الموظفون الأكثر نفوذا وامتيازات داخل الحكومة)، كانوا يحصلون على المساعدات الإنسانية أولا. ثم يذهب الباقي إلى المدن الأصغر والأجهزة الرسمية الأقل تأثيرا. أما المحافظات الشمالية الشرقية – مثل هامجيونغ، و تشاغانغ، و ياغانادو– فلم تكن تحصل على أية مساعدات. كان هذا التقسيم يتم بشكل قصدي: فبسبب انعدام الموارد، كانت الحكومة تطعم المناطق والمجموعات الاجتماعية التي تحتاج إليها أكثر من الآخرين من أجل بقائها وديمومتها. أما سائر أبناء الشعب، فعليهم أن يتدبروا معيشتهم بأنفسهم. ومن الجدير بالملاحظة أن المساعدات الإنسانية كانت تأتي إلى كوريا الشمالية عبر الموانئ التي تقع على السواحل الشرقية للبلاد. كانت وجهة البضائع هي بيونغ يانغ، ولكن بعضها كان يُسرق في الطريق، وبذلك يذهب إلى السكان المتخلى عنهم من طرف الحكومة. ولكن، و في المحصلة، فإن معظم الكوريين الشماليين قد تُركوا دون حصص تموينية، وكان عليهم أن يحاولوا العيش في ظل ظروف جديدة قاسية. تمكّن البعض منهم من ذلك، وأخفق البعض الآخر. ولكن الناجين ساعدوا على خلق اقتصاد سوق تلقائي. – كيف كان الوضع في التسعينيات؟ كما أسلفت، لم يكن نظام البطاقة التموينية قد ألغي رسميا.
في الواقع، لم تكن البطاقة التموينية تسمح للمرء أن يشتري طعاما، حتى عندما استمر السكان في الحصول على البطاقات. حتى في بيونغ يانغ، منذ منتصف التسعينيات، لم تكن البطاقة التموينية تمكن من اقتناء سوى معدّلات مخفضة جدا لا تكاد تسد الرمق – شيء من قبيل 300 غرام من الحبوب للفرد الواحد في اليوم. حتى سكان بيونغ يانغ أجبروا على سد رمقهم من السلع المتواجدة في السوق مما أدى إلى بروز مجموعة جديدة من الخدمات. على سبيل المثال، حوالي عام 1997، اختفت خدمات الإطعام الحكومية تماما وظهر سوق المطاعم الخاصة ثم شهد بعدها نموا سريعا. كانت المقاهي المنشأة حديثا غير قانونية في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى كانت موجودة بصفتها مؤسسات شبه حكومية. كما بدأت الفنادق الخاصة بالظهور في أقبية المباني السكنية (بشكل غير شرعي). كما كان هناك بعض العاملين في صرافة العملات النقدية، وبعض المقرضين. كما بدأت ظاهرة إيجار أجهزة الفيديو بالظهور. وأخيرا، بدأ الإنتاج، على نطاق ضيّق، على شكل ورشات تصنيع حرفية صغيرة، ومصانع مصغّرة، تعمل أساسا على إنتاج الألبسة والأحذية. على سبيل المثال، لدي العديد من الأصدقاء في مدينة سينويجوي، الواقعة على الحدود الصينية والتي أصبحت أكبر مركز خاص لتصنيع الأحذية. كان المصنّعون ينسخون النماذج الصينية، ويؤسسون علاقات واسعة داخل البلد، ويهرّبون بعض المواد الخام من الصين. – ما هو واقع كوريا الشمالية اليوم؟
أعلنت الحكومة رسميا سنة 2002 عن إطلاق بعض الإصلاحات الاقتصادية. عمليا كان ذلك يعني شرعنة بعض الأنشطة التي ما برح الناس يمارسونها منذ وقت طويل. كان هناك ارتفاع حاد، بلغ مئات الأضعاف المضاعفة، في الأجور بالموازاة مع تزايد الأسعار مما أدى إلى ظهور موجة من التضخم. ثم استقرت الأسعار ثانية ولكن بمستويات جديدة. فعلى سبيل المثال ارتفع سعر الرز الذي حددته الدولة، والذي كان سعره 0.08 واناً كوريا للكيلو غرام الواحد ولعقود طويلة من الزمن، ليصبح 44 وانا للكيلو غرام، بينما كان سعر السوق 900 وانا للكيلو. ما فتئت الدولة تحاول منذ عام 2004 أن تفرض القيود على الحرية الاقتصادية مرة أخرى. قيود ألغيت من طرف الشعب دون مصادقة من الحكومة. و كانت لهذه القيود أسبابا سياسية بحتة. حيث تعتقد القيادة السياسية في كوريا الشمالية أن التحرر سيؤدي إلى وعي شعبي بازدهار كوريا الجنوبية، مما جعلها تحكم قبضتها مرة ثانية على مصير الشعب. إن الفجوة بين المعايير المعيشية بين الكوريتين الشمالية والجنوبية واسعة جدا. وفقا للتقديرات الأكثر تحفظا، إن الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في كوريا الجنوبية أكثر 17 مرة منه في الشمالية، بينما تشير بعض التقديرات الأخرى إلى أن الفارق بينهما يصل إلى 50 ضعفا.
قام القادة في كوريا الشمالية لعقود عديدة من الزمن بكل ما في وسعهم لتقليل انتشار المعلومات حول العالم الخارجي. كانت العزلة في البداية موجهة ضد الاتحاد السوفيتي، بعد “التحرر” النسبي الذي أعقب موت ستالين، والذي قاد إلى أزمة ذات مرة أوشكت أن تجعل كيم إل- سونغ يفقد سلطته. ثم أصبحت كوريا الجنوبية هي مركز المخاوف والقلق بالنسبة إلى كوريا الشمالية، وذلك بسبب الفجوة الكبيرة بين البلدين، والتي نمت بسرعة متزايدة. كما أن التدابير التي تم اتخاذها كانت غير اعتيادية. على سبيل المثال كانت جميع أجهزة الراديو في كوريا الشمالية مبرمجة لالتقاط سوى المحطات الرسمية. ولم يكن هناك سوى القليل جدا من الرحلات إلى خارج البلد. في الوقت نفسه، فإن الدعايات الموجهة المتعلقة بمعاناة شعب كوريا الجنوبية كانت رائجة بين أوساط الشعب – حيث تشيع بعض هذه الدعايات أن أطفال كوريا الجنوبية يلمّعون أحذية الغزاة الأمريكان المتغطرسين، والطلبة يبيعون دمهم من أجل شراء الكتب، والأولاد الصغار الذين لا يدفعون أقساط المدارس يقذف بهم المدراء إلى الشارع.
لقد أدت هذه الدعايات هدفها بشكل فاعل. لم يكن الشعب في كوريا الشمالية يعرف أن اقتصاد كوريا الجنوبية واحد من أكثر الأنظمة الاقتصادية ازدهارا في المنطقة. كانت هناك بعض الدعايات بلا شك، ولكن شكوكا كبيرة ظهرت بعد منتصف التسعينيات، عندما بدأت بعض الدعايات تتغلغل من الصين وبدأت الأشرطة المهرّبة التي تظهر فيها برامج تلفزيونية من كوريا الجنوبية تنتشر في السوق. كما سلكت الدولة سلوكا عدائيا ضد الأسواق بوصفها مراكز محتملة لتنظيم و تأطير الأفراد، كما خشيت السلطات من تكرار سيناريو ألمانيا الشرقية. تخشى حكومة بيونغ يانغ أنه إذا ما عرف الكوريون الشماليون حقيقة الأوضاع في كوريا الجنوبية وازدهارها وامكانية ازدهارهم بعد تحررهم، فإن من غير المحتمل أن يوافقوا على اختيار نموذج العمال الصينيين الذين لا يسألون الكثير من الأسئلة، وظلوا ينتظرون لعقود طويلة من الزمن أن تتحسن وضعيتهم. من المحتمل جدا أن يعارض الكوريون الشماليون النظام، مطالبين بإتحاد فوري مع الجنوب المترف(وعلى أي حال، فإن من السذاجة بمكان أن يتوقعوا أن تجعلهم هذه الوحدة يصلون فورا إلى المستوى المعيشي الذي في كوريا الجنوبية). أما بالنسبة إلى القيادة السياسية في سيول و الشعب الكوري الجنوبي بصفة عامة، فإنهم لا يريدون الوحدة مع كوريا الشمالية الآن. بل أنهم يريدونها، ولكن في المستقبل البعيد، بعد عقود من الزمن. والعامل الحاسم وراء ذلك هو فهمهم لمدى فقر الشمال، وضخامة حجم الأموال التي لا بد من استثمارها لأجل إحداث قفزة في اقتصاد كوريا الشمالية. لذا فإن الكوريين الجنوبيين يطعمون الشمال من خلال المساعدات الإنسانية، آملين من وراء ذلك أن المشكلة ستحلّ نفسها نوعا ما. إن كوريا الشمالية اليوم تتلقى دعما كبيرا من كوريا الجنوبية (والتي هي في حالة حرب معها من الناحية الرسمية) ومن الصين كذلك. فالمحصول كوريا الشمالية السنوي من الحبوب (الرز والذرة) يقارب من 4 ملايين طنا في العام خلال العقد الأخير. ولكن الحد الأدنى من الحبوب الذي تحتاجه لكي تتمكن من إطعام شعبها هو 5.2 مليون طنا. أما الفرق فتتم تغطيته من ثلاث مصادر هي:
(1)
المنح التي تقدمها كوريا الجنوبية، والتي وفّرت في السنوات الأخيرة نصف مليون طن بشكل ثابت (400 ألف طن من الحبوب في العام عبر القنوات الحكومية، وعدد من المساعدات الخاصة)؛
(2)
المساعدات الصينية التي تقارب نفس المقدار السابق؛ و
(3)
مساعدات المنظمات الدولية.
و الجدير بالملاحظة أن كلا من الصين وكوريا الجنوبية توفران المساعدات دون أية شروط، حتى تلك المتعلقة بكيفية توزيعها. وبالطبع، فإنهما يفهمان أن معظم هذه المساعدات تذهب في آخر المطاف إلى الأجهزة التنفيذية، وإلى النخبة الحزبية، وإلى المجموعات النافذة من أصحاب الامتيازات. لكن هذا لا يتعارض مع مصالحهما الطويلة الأمد: فهما يريدان قبل كل شيء الاستقرار رغم أن هذا الأمر لم يصرّح به علنا. لذا أصبح في حكم الواضح بالنسبة إلى نظام بيونغ يانغ أن المساعدات الصينية والكورية الجنوبية ستأتي بكل حال من الأحوال، وأن هذه المساعدات ستبقى عند مستوى يكفي لسد الرمق تبقي البلد في حالة من الكفاف. إن المساعدات عامل أساسي مفسر للتراجع الأخير في مجال الحريات الاقتصادية التي قامت حكومة كوريا الشمالية بإطلاقها سابقا. فقد قامت الحكومة بالتراجع عن حرية تجارة الحبوب (على الرغم من حقيقة أن هذا الحظر لم يُرفع بشكل رسمي أبدا). منذ نهاية عام 2006، مُنِع الرجال من المتاجرة في الأسواق. ومنذ عام 2007، منعت النساء اللائي لم يبلغن الخمسين من العمر. كما اتخذت إجراءات صارمة بحق المطاعم و شركات النقل الخاصة. وكانت الغاية من هذه التدابير هي حشد الشعب في المصانع، حيث لا يفعلون شيئا، إلا من أجل إبقاء الوضع تحت سيطرة الحكومة. – لقد تحدثنا كثيرا عن تهريب البضائع إلى كوريا الشمالية. فهل هناك تهريب للمعلومات أيضا؟ نعم هناك تهريب من هذا النوع وهو واسع الانتشار. فأسطورة فقر كوريا الجنوبية قد تلاشت في أول الأمر من خلال انتشار أشرطة الفيديو الكورية الجنوبية، وتغلغل أجهزة الفيديو المستعملة القادمة من الصين( والتي حلت محلها الآن أجهزة تشغيل الدي في دي DVD المنخفضة التكلفة). لقد بدأ هذا الأمر عام 1999 تقريبا. في ذلك الحين، كان من الواضح جدا أن الصين أغنى بكثير من كوريا الشمالية: هناك بعض المدن الكورية الشمالية المتاخمة للصين، والتي يمكن فيها مشاهدة ناطحات السحاب الصينية ذات الأنوار البرّاقة. ولكن لا بد أن نلاحظ أن مستوى ترهيب الشعب في كوريا الشمالية أكبر بكثير مما كان عليه الحال في الإتحاد السوفيتي السابق. اليوم، هناك ما بين 150 ألف و200 ألف سجين سياسي في البلدوهو رقم مرتفع إلى حد مدهش في بلد لا يتجاوز عدد سكانه 23 مليون نسمة.
منبر الحرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

1 × واحد =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube