شكل كل من “الولد الصغير” و “الرجل البدين” علامة فارقة في تاريخ اليابان، القنبلتان النوويتان اللتان أسقطتهما الولايات المتحدة على كل من مدينتي هيروشيما وناكازاكي، واللتان خلفتا وراءهما قرابة المائتي ألف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى والمعاقين والمشوهين بسبب الإشعاعات النووية، في واحدة من أبشع المذابح البشرية في العصر الحديث على الإطلاق، والتي أسدلت وراءها ستار الحرب العالمية الثانية بهزيمة المحور وعلو الحلفاء. كان من الصعب للغاية -وفقا للمشاهدات وقتئذ- أن توصف اليابان بأنها عادت إلى الصفر، باعتبار أن مرحلة الدمار التي وصلت لها البلاد اخترقت القاع لتصل إلى مستويات دون صفـرية بكثير. ملايين القتلى والجرحى والمفقودين، خراب هائل في كل المدن اليابانية تقريبا، اقتصاد مدمـر بالكامل، الفقر والجوع والمرض في كل مكان. كل المؤشرات تقول إن هذه الدولة عادت إلى القرون الوسطى، وأن أمامها وقت طويل جدا لتعود فقط إلى اعتبارها دولة “عادية”. ومع ذلك ، وبنهاية الستينيات -أي بعد عشرين سنة تقريبا من الدمار الشامل- كانت اليابان من أكثر دول العالم نموا اقتصاديا، لتعرف هذه المرحلة بـ”المعجزة الاقتصادية اليابانية” التي أعادت اليابانيين لسباق التطور العالمي في زمن قياسي.(1) بالطبع أسباب هذه العودة الحضارية عديدة ومختلفة وتفاصيلها متشعبة، إلا أنه -وبلا شك- كان للرواد اليابانيين دور بارز فيها. كــونوسوكـه ماتسوشيتا.. من تحت الصفر لتأسيس إمبراطورية باناسونيك في عصر الأضواء والإعلانات الرقمية والمجلات التي تقتات على إبراز صور الأغلفة للنجوم ورجال الأعمال والصناعيين، من الصعب جدا تخيـل كيف كانت لتبدو صورته الآن. ابتسامته شديدة التواضع وقـامته القصيرة وجسده النحيل وشعره الأشيب، قد تجعله لائقا -بالنسبة لعين السطحيين من الناس- أن يكون شخصية عادية على الأقل. ومع ذلك، فالحقيقة تقول إن هذا الشخص تحديدا هو “كونوسوكه ماتسوشيتا” أحد أعظم الصنـاعيين اليابانيين على الإطلاق، مؤسس شركة باناسونيك اليابانية العمـلاقة، والمُلقب بين الإداريين بـ “إلـه الإدارة God Of Management”. بالعودة إلى نهايات القرن التاسع عشر، فتح ماتسوشيتا عينيه على الحياة ليجد نفسه ينتمي إلى عائلة ثرية تعيش في محافظة واكاياما اليابانية. كانت الأمور تسير على ما يرام والأسرة تعيش بشكل جيد إلى أن تعرضت لأزمة مالية عنيفة جعلتهم يفقدون كل ثروتهم تقريبا وينتقلون من منزلهم الواسع إلى بيت شديد الفقر أشبه بكوخ صغير تنقصه كافة المتطلبات الأساسية للحياة. حالة مزرية من الفقر أدت إلى وفاة ثلاثة من إخوته بسبب أمراض لم يستطيعوا تدبير نفقات علاجها. في سن التاسعة بدأت المرثية، ترك كونوسوكه المدرسة ليؤمن قوت عيشه بنفسه، فعمل في العديد من المهن المتواضعة، ما بين تلميع الأحذية وجمع القمامة وغسيل الملابس في مدينته ثم سافر إلى مدينة أخرى ليلتحق بالعمل في ورشة لتلميع المعادن ثم متجر لبيع الدراجات. كل هذه المهن عمل بها مقابل أجور شديدة التواضع تكاد تكفي متطلباته المعيشية الأساسية لابثـا في الشقـاء بضع سنين. في عام 1909 ، بدأت الكهرباء تنتشر في اليابان بشكل كبير، وهو الأمر الذي لفت انتباه الفتى بشدة، فتقدم للعمل في شركة “أوساكا إليكتريك لايت” كعامل في توصيل الأسلاك الكهربائية. خلال العمل أظهر الفتى أداء استثنائيا نابعا من قدرته السريعة جدا على التعلم وخبراته الهائلة في وظائف سابقة، جعلته يحصل على ترقيات بسرعة هائلة أوصلته لأن يكون المشرف العام وهو ابن 22 عاما فقط. العجيب أنه بمجرد وصوله إلى هذا المنصب، قام بتقديم استقالته. كان الشاب يعج بالأفكار المبدعة التي كان يطرحها على مدرائه في تلك الفترة بخصوص التوصيلات الكهربائية إلا أنها كانت تقابل دائما بالتجاهل أو عدم الحماس. لذلك، قام بتأسيس شركته الخاصة في عام 1918 وهو ابن 24 عاما بدون رأس مال تقريبا أو خبرات إدارية أو تعليم نظامي. كان مساعداه؛ زوجته وأخوه ، وكانت السنوات الأولى من الشركة شديدة الصعوبة حيث كان الفشل هو الرفيق الدائم تقريبا. بدأت الشركة المتواضعة باسم “ماتسوشيتا للصناعات الإليكترونية” في صناعة بعض الأجهزة الكهربائية الرخيصة تحت علامة تجارية باسم “ناشيونال”، ثم استطاع ماتسوشيتا في بداية العشرينيات من تطوير مصباح دائري اعتبر من أهم المنتجات التي قام بتطويرها والذي لاقى إقبالا كبيرا، استطاعت الشركة أن تسوقه باعتباره المنتج الأهم الذي تخترق به الأسواق. وعلى مدار عقد كامل استطاعت الشركة أن تتحول إلى متجر لبيع الأدوات الكهربائية ذات الجودة الجيدة والسعر الرخيص، وهو ما جعل اسم شركة “ناشيونال” معروفا في الأسواق اليابانية المحلية. على مدار الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، تعددت منتجات الشركة لتشمل أجهزة المذياع والبث اللاسلكي والبطاريات، وتم تقسيمها لعدد من الشركات والأقسام. كما أنها استطاعت الصمود في وجه الأحداث الدامية التي شهدتها اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت من أهم الشركات اليابانية التي ساعدت في إعمار البلاد مرة أخرى. لاحقا أصبحت شركة “ماتسوشيتا” من أكبر الشركات اليابانية على الإطلاق التي تضم مجموعة من أهم العلامات التجارية العملاقة مثل: باناسونيك وناشيونال وتيكنيكس. في عام 1989 توفي كونوسكه ماتسوشيتا عن عمر يناهز 95 عاما تقريبا، تاركا وراءه ثروة تقارب الثلاثة مليارات دولار ومجموعة شركات عملاقة في كل أصناف الأجهزة الكهربائية والإلكترونية تقريبا تحقق أرباحا بقيمة 42 مليار دولار. ولاحقا في عام 2008 تحول اسم الشركة بالكامل إلى شركة باناسونيك. (2 ، 3 ، 4 ، 5) سويشيرو هوندا.. مهووس المحركات الذي يحب الشحم يقال إنه في في أثناء زيارة له لإحدى مصانع شركته العملاقة، وخلال الجولة تقدم “سويشيرو هوندا” مؤسس الشركة تجاه أحد العمال اليابانيين في إحدى الورشات ورفع يديه لكي يسلم عليه، فما كان من العامل إلا أن سحب يده مسـرعا لأنها مليئة بالشحم. إلا أن هوندا جذب يد العامل وشد عليها مبتسما قائلا: لماذا تسحبها؟.. أنا أحب الشحم. عندما ولد سوشيشيرو هوندا في إحدى القرى اليابانية النائية في عام 1906، كان كل شيء يشير إلى أنه سيحيا حياة بائسة إلى حد ما. أسرة شديدة الفقر، يعمل ربها حدادا متواضعا في إحدى ضواحي القـرية يتخصص في تصليح الدراجات الهوائية مقابل أجر زهيد جدا. وباعتباره كبير إخوته كان لابد أن يساعد والده في هذا العمـل، ليقع منذ طفولته في حب الآلات وينمي شغفا هائلا تجـاه الدراجات تحديدا دون سواها. في تلك الفتـرة شاهد لأول مرة في حياته سيارة تعمل بمحرك بخاري، وهو الأمر الذي لفت نظره بشدة حتى إنه صرّح لاحقا بأنه لم ينس أبدا رائحة الزيت الذي خلفته السيارة في طريقها، حيث التصقت في ذاكرته للأبد. وعندما وصل لعمر الخامسة عشر، لم يظهر الفتى أي تميز دراسي فتخلى عن الدراسة وارتحل بلا أي مؤهلات تعليمية إلى طوكيو باحثا عن عمل، واستطاع الحصول على وظيفة عامل في ورشة لإصلاح سيارات قضى فيها ست سنوات من عمره كميكانيكي، استطاع أن يتعلم وقتها كل شيء بخصوص السيارات والمحركات في ذلك الزمن. عاد الشاب إلى بلدته مرة أخرى مشبعا بالخبرة هذه المرة، وقرر أن يفتتح ورشة صغيـرة لتصليح السيارات والدراجات البخارية وهوا مازال في الثانية والعشرين من العمر. كان الشاب أيضا يشبع شهوته الجامحة في سباقات الدراجات من وقت لآخر، إلى أن تعرض لحادث كاد يودي بحياته. وقتها، اعتزل تماما سباقات الدراجات وتفرغ لصناعة أحد أنواع المحركات المميزة، وبدأ في تسويق محركه الجديد في نهاية الثلاثينيات خصوصا لدى شركة تويوتا. أخيرا ابتسمت الحياة للشاب الياباني العبقري عندما وافقت تويوتا على شراء المحرك الجديد الذي قام باختراعه، وبدأ بالفعل في إنشاء مصنع خاص لتزويد محركه الجديد إلى شركة تويوتا بمعدل ثابت. كان هذا في عام 1939، وهو تاريخ بدء الحرب العالمية الثانية التي شاركت فيها اليابان ونالها من الدمار ما لم ينل دولة أخرى تقريبا من الدول المتحاربة. خلال فترة الحرب مرت اليابان بكساد هائل أدى إلى خسائر هائلة لمصنعه الناشئ إلى أن دُمـر المصنع كله عام 1944 بواسطة قاذفة قنابل من إحدى طائرات الحلفاء. بعد الحرب العالمية، باع هوندا ما تبقى من مصنعه إلى شركة تويوتا بمبلغ حوالي 450 ألف ين ياباني ، ثم أنشأ “مركز هوندا للأبحاث التقنية (Honda Technical Research Institute) في عام 1946 الذي أدى إلى صناعة أول دراجة مزودة بمحرك (Motorized Bicycle) في عام 1948 التي تعتمد على وقود رخيص السعر حتى يسمح للمستخدمين الانتقال بشكل سلس، خصوصا بعد الدمار الهائل الذي حل بالاقتصاد، وهو الأمر الذي ضمن لها انتشارا هائلا في كافة ربوع اليابان كوسيلة انتقال يعتمد عليها الجميع تقريبا في تلك الفترة. مع بداية الخمسينيات، أنتجت هوندا المزيد من الدرجات البخارية المحسنة في الأداء والسعر، أدت إلى ارتفاع رصيد وأسهم الشركة بشكل هائل قادها لأن تكون واحدة من أبرز الشركات اليابانيـة الرائدة في صناعة الدراجات ثم السيارات، لتقدم في العقود التالية مجموعة من أبرز المحركات والدراجات والسيارات التي انتشرت في العالم أجمع تحت اسم “هوندا”. في عام 1973 تقاعد سويتشيرو من منصب رئيس مجلس إدارة هوندا، وإن ظل محتفظا بلقب “المستشار الأعلى”، واعتبر حتى لحظة وفاته في بداية التسعينيات بأنه “هنـري فورد الياباني” الذي كان سببا محوريا في النهضة الكبرى التي حققتها اليابان بعد الحرب. (6 ، 7 ، 8 ، 9) إمبراطورية صنع لموريتـا هذه المرة نرى طفـلا يابانيا جاء في أحضان عائلة يابانية ثرية منفتحة على الحياة الغربية لها باع طويل في التجارة. الطفـل اسمه “اكيـو موريتـا”، من مواليد بداية العشـرينيات في اليابان التي بدأت في تلك الفتـرة تخطو خطوات جيدة تجـاه الانفتاح الحضـاري مع العالم. وكانت نشأته في عائلة منغمسة في التجـارة بشكل كبير أثر كثيرا في تكوين شخصيته لاحقا. وعلى الرغم من هذه الخلفية العائلية في هذا المجال التي كان من البديهي أن تجعله يتخصص في مجال التجارة، فإنه في مراحل تعليمه النظامية أبدى اهتماما استثنائيا بالرياضيات والفيزياء، ما جعله يلتحق بجامعة أوساكا اليابانية ويحصل على درجة جامعية في مجال الفيزياء مع اهتمام خاص بالصوتيات. كانت الأمور تسير على ما يرام حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية، فتوقفت كل طموحاته مثل غيره من الشباب الياباني، وتم تجنيده في البحـرية اليابانية أثناء فترة الحرب. انتهت الحرب تاركة وراءها دمارا هائلا في كل ركن من أركان اليابان، فما كان منه إلا أن تعـاون مع أحد أصدقائه بعد عام واحد من انتهاء الحرب لافتتاح شركة صغيــرة أسمـاها “شركة طوكيـو للاتصالات والهندسة”؛ برأس مال متواضع للغاية في متجر صغيـر. كان الهدف من هذه الشركة العمل على توفير أدوات تقنيـة يحتاجها السوق بأفضل جودة متاحة وقتها وبسعر يناسب المواطن الياباني الذي يعاني من أزمة اقتصادية غير مسبوقة. كانت السنوات الأولى من عمل الشركة ملحمية حيث استطاعت الصمود في وجه الأزمات بشكل كبير، واستطاعت الشركة ما بين 1946 و 1949 إنتاج وبيع بعض الأجهزة ذات السعر الجيد، حتى تمكنت الشركة في مطلع الخمسينيات من تطوير شريط تسجيل مغناطيسي حقق لها شهرة جيدة، ثم قادها لاحقا إلى إنتاج واحد من أهم المنتجات الثورة التقنية في العالم؛ وهو جهاز “الووكمـان Walkman”. جهاز صغيـر يمكن وضعه في الجيب يتيح لحامله الاستماع للمذياع وأيضا التسجيل من خلاله. حقق الووكمان نجاحا هائلا تجاوز حدود اليابان للعالم أجمع؛ فقرر موريتا تحويل اسم الشركة إلى (سوني) لتكون علامة تجارية أكثر سهولة، ويمكن لجميع دول العالم التعامل معها، بعد أن خرجت من إطار الشركة المحلية إلى الشركة العالمية. في الستينيات، تم طرح سوني في البورصة، وتوسعت في منتجاتها بشكل كبير؛ لتدخل في كافة الصناعات الإلكترونية مثل التلفزيونات والمذياعات والأجهزة المختلفة، وقامت بالاستحواذ على شركات كبيرة حول العالم؛ لتصبح واحدة من عمالقة التصنيع التقني عالميا. لم يتنازل موريتا أبدا عن منصبه كمدير تنفيذي لشركة سوني منذ تأسيسها عام 1946 حتى أصيب بجلطة دماغية في العام 1994 جعلته يتنازل عن قيادة الشركة، ثم توفي لاحقا في نهاية التسعينيات تاركا وراءه شركة قيمتها السوقية -وقتئذ- تتجاوز الأربعين مليار دولار، وواحدة من أهم وأعظم الشركات اليابانية التي تعتبر من أعمدة الاقتصاد الياباني على الإطلاق، بعشرات المصــانع العملاقة ومئات الآلاف من الموظفين. وكان مما تركه موريتا وراءه أيضا كتابا بعنـوان: “صنع في اليابان” متضمن بداخله كتيب صغير كان قد ألفه في الستينيات بعنــوان: لا تهتم بدرجاتك الدراسية Never Mind School يشرح فيه؛ بأن الدرجات المدرسية لا علاقة لها بتنمية مهارات الأعمال لدى الطلاب، وأن النجاح له عناصر أخرى يرتكز عليها. في النهاية، النماذج الريادية التي قدّمتها اليابان في النصف الثاني من القرن العشـرين أكثر من أن يتم حصرها في تقرير واحد، وكانت هذه النماذج في طليعـة الأسباب التي أدت إلى النهوض الياباني المعجز. ربما هذه النماذج هي أوضح مثال على أن ريادة الأعمال أحيانا تتجاوز بكثير حدود الطموحات الشخصية لأصحابها إلى قدرتها على سحب أمة بأسرها إلى مستقبل وظروف وأفضل في زمن قياسي