https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

في حي إيتلر الراقي بمنطقة بيشِكتاش، في الجانب الأوروبي من مدينة إسطنبول التركية، اعتاد مطعم “نصرت” للحوم والمملوك للطاهي التركي الشهير “نصرت غوكشيه” على وجود مشاهير السياسة والفن والرياضة القادمين من شتى أنحاء العالم للاستمتاع بتناول شرائح اللحم البقري باهظة الثمن من يد الشيف الشهير، إلا أنه، وفي مساء أحد أيام شهر أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، استقبل المطعم ضيفا غير عادي كان يُتوقع أن يكون مطعم نصرت هو آخر مكان يمكن أن يذهب إليه في ظل الظروف التي تمر بها بلاده. فعلى حسابيه على موقعي التواصل الاجتماعي إنستغرام وتويتر، حيث يتابعه ملايين الأشخاص، نشر “نصرت” ثلاثة مقاطع فيديو قبل أن يقوم بحذفها بعد فترة وجيزة من النشر، تُظهر الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو وزوجته سيليا فلوريس وهما يتناولان العشاء في استمتاع بينما يقوم الطاهي التركي الشهير بتقطيع شرائح اللحم أمامهما، وبعد تناوله العشاء شرع “مادورو” في تدخين سيجار كوبي فاخر من صندوق مزخرف باسمه، وهو يحاول ارتداء قميص كهدية مرسوم عليه صورة “نصرت” أثناء قيامه بحركة الملح الشهيرة خاصته كان “مادورو” في طريق عودته من الصين حينما مر على تركيا، وبدا وكأن جولات الرفاهية التركية هي أمر اعتيادي لدى الرئيس الفنزويلي وزوجته، من زار في وقت سابق موقع تصوير مسلسل “قيامة أرطغرل” في إسطنبول، وعبّر عن فخره واعتزازه بمشاهدة المسلسل التركي الشهير). في الوقت نفسه، وعلى بُعد آلاف الكيلومترات شرقا في شمال القارة الأميركية الجنوبية حيث يحكم مادورو منذ خمسة أعوام، كانت هناك أحداث مسلسل من نوع آخر تدور بسرعة أكبر، إذ تحصد المجاعة التي تضرب البلاد منذ سنوات أرواح عشرات الفنزويليين بلا توقف. وهي مجاعة تُشير بعض إحصاءاتها إلى أن ما يقرب من ثلثي سكان فنزويلا قد فقدوا نحو 11.8 كيلوجرام من أوزانهم كمتوسط عام في العام الماضي 2017 بسبب نقص الغذاء والانهيار الاقتصادي، أو ما يُطلق عليه السكان “حِمية مادورو” في إشارة ساخرة للرئيس الفنزويلي، من يراه الكثير من الفنزويليين يحب مشاهدة المسلسلات التركية بينما يُدير ظهره لمباريات الجوع الحقيقية على أراضي بلادهم. على حافة السكين بالعودة إلى حقبة ما قبل محاولة المقدم “هوغو تشافيز” مع مجموعة من الضباط اليساريين القيام بانقلاب فاشل عام 1992 سُجنوا على إثره، ثم خوضه الانتخابات الرئاسية التي أوصلته للسلطة عام 1999 باعتباره بطلا شعبويا، يصعب تصديق أن فنزويلا ذلك الوقت هي الموجودة الآن. ففي عقد الثمانينيات وما قبلها كانت فنزويلا أغنى دولة في أميركا الجنوبية قاطبة، مع أعلى معدلات للنمو الاقتصادي وناتج محلي إجمالي تجاوز اقتصادات مثل إسبانيا واليونان وإسرائيل، وأدنى مستويات عدم المساواة، وواحدة من أكثر الديمقراطيات استقرارا في الأميركيتين، وكان معظم سكان فنزويلا تقريبا قادرين على الوصول إلى مياه الشرب النقية والمرافق الصحية والكهرباء، لكنها صارت منذ تلك الفترة تشبه بلدا ضربته حرب أهلية، حيث يجثم الخراب الاجتماعي والمالي على أركان الدولة التي يعيش فيها نحو 32 مليون نسمة. يشهد الاقتصاد الفنزويلي سقوطا حرا منذ تولي “مادورو” السلطة عام 2013 بعد وفاة تشافيز، حيث تقلص حجم الاقتصاد الكلي بنسبة أكبر من 18% في عام 2016، وكان حجمه أصغر في العام الماضي بنسبة 35% عما كان عليه عام 2013، وانخفضت إنتاجية الفرد بمعدل اقترب من النصف، ، بينما يصنف الاقتصاد الفنزويلي بأنه ضمن اقتصادات قليلة شهدت أعنف حالات تضخم أو ارتفاع مستوى أسعار في التاريخ، وهي قائمة قصيرة تضم التضخم الذي وقع في ألمانيا عام 1923، وفي زيمبابوي أواخر عام 2000، ثم فنزويلا عام 2018. ففي يوليو/تموز الماضي كانت أعين المتابعين للشأن الاقتصادي العالمي عامة والفنزويلي خاصة معلقة في دهشة كبيرة على الأرجح على تقرير صندوق النقد الدولي الذي يتوقع فيه، بشكل دوري، معدلات النمو الاقتصادي والتضخم في بلدان أميركا اللاتينية خلال العام الحالي 2018، إذ توقع أن يصل التضخم في فنزويلا خلال النصف الثاني إلى مليون في المئة، ويعني هذا الرقم شديد الضخامة لمعدلات التضخم أن أسعار السلع والخدمات قد ارتفعت بمقدار مليون مرة عن العام الماضي، فإذا ابتاع فنزويلي مثلا قلما بسعر بوليفار واحد (عملة فنزويلا)، فبناء على معدل التضخم فإن ثمن القلم قد أصبح مليون بوليفار. كان ذلك التسارع الكبير في مستويات الأسعار دافعا للعديد من التجار لرفض التعامل بالعملة الفنزويلية تبعا لأن قيمتها تتآكل بسرعة كبيرة، وحوّل الأثرياء الفنزويليون ما يملكونه بوليفار إلى بدائل أخرى كالبيتكوين، وتتغير أسعار قوائم الطعام في المطاعم بشكل شبه يومي، أما سعر الدولار المباع في السوق السوداء فوصل إلى 3.5 مليون بوليفار، وعند هذه النقطة، تبدو فنزويلا في صورة ساخرة وهشة كأن شريطا لاصقا يغلفها في انتظار انهيار في أي لحظة. بجانب التضخم، فإن الفنزويليين يعانون مما يمكننا أن نطلق عليه “استبدادا سياسيا”، فنجد أن “مادورو” يقود منذ توليه السلطة قمعا أمنيا كبيرا أدى إلى وقوع احتجاجات ومقتل العشرات، وقد أُعلن عن فوزه في التصويت هذا العام لفترة ولاية ثانية تمتد حتى عام 2025 وسط عدم قبول ذلك من الفنزويليين في الداخل قبل المجتمع الدولي في الخارج، كما أجبر نقص الغذاء والدواء والانقطاع المستمر في التيار الكهربائي والمياه مئات الآلاف من الفنزويليين على الفرار من البلاد إلى الدول المجاورة مثل كولومبيا والإكوادور، ما دفع تلك البلدان إلى إعلان حالة الطوارئ، بينما يتحول أغلب الماكثين من الفنزويليين إلى كسب المال بطرق غير مشروعة، حيث ارتفعت نسب انتشار العنف والجريمة بشدة، ففي عام 2014 كان معدل القتل -المبلغ عنه فقط- يعادل معدل الضحايا المدنيين في العراق عام 2004 عقب الغزو الأميركي، لذا تتبوأ فنزويلا ثاني أعلى معدل للقتل في العالم حاليا وربما، ومع ما هو قادم، تنتقل للصدارة قريبا. جذور التشظي لا يمكن بحال فصل الوضع الحالي في فنزويلا دون التطرق إلى جذور هذا التشظي الاقتصادي، وحقيقة أن الوضع الذهبي لها كان مبنيا على الاحتياطيات النفطية الضخمة التي مولت معظم ثرواتها، إلى أن جاء عقد الثمانينيات حينما دفعت السياسيين مخاوف نفاد النفط إلى الحد من إنتاجه، ولسوء الحظ، صاحب ذلك التقليل تخمة نفطية في الأسواق العالمية أدت إلى انخفاض أسعار النفط بشدة من 120 دولارا للبرميل، بعد احتساب معدل التضخم عام 1980، إلى 24 دولارا للبرميل عام 1986، وأدى الجمع بين انخفاض إنتاج النفط وانخفاض أسعاره لأن يجد الاقتصاد الفنزويلي نفسه في حالة نزيف حاد، حتى انخفض الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في الفترة بين 1980 و1990 بنسبة 46%(). ومع تولي “تشافيز” السلطة، عمل على تغيير السياسات الاقتصادية للبلاد بشكل جذري، فبينما كانت تحتضر الاشتراكية في دول العالم، ويشهد الاقتصاد العالمي حقبة جديدة من الانفتاح التجاري وتعزيز العلاقات الاقتصادية والمالية، أصر الرئيس الفنزويلي التاريخي على اتخاذ نمط وطريق مختلف لتحقيق التنمية الاقتصادية في بلاده، علاوة على تصدير صورة دعائية تتمثل في بطل اشتراكي يحارب إمبريالية الولايات المتحدة في قارة أميركا الجنوبية ودول العالم الثالث. وفي عام 2002 في خضم حالة الركود الاقتصادي، ارتفعت وتيرة غضب شعبي ضد سياسات تشافيز انتهت باحتجاجات هددت رئاسته فأمر الجيش باستعادة النظام، ولكن مجموعة من ضباط الجيش قاموا بدلا من ذلك باعتقاله شخصيا وإعلان استقالته بشكل إجباري وتنصيب قائد جديد، إلا أن ذلك الانقلاب العسكري لم ير النور سوى ليومين فقط، حينما استطاع “تشافيز” العودة من جديد للقصر الرئاسي في كراكاس معلنا فشل الانقلاب ومتخذا تدابير إضافية لإحكام سيطرته على السلطة. أتت الضربة التالية للاقتصاد الفنزويلي بعد الانقلاب بوقت قصير من لؤلؤته ومحل حسد دول أميركا الجنوبية قاطبة إن جاز القول، شركة النفط التابعة للدولة “Petróleos de Venezuela”، المعروفة اختصارا بـ “PDVSA” وهي شركة النفط الأكبر في فنزويلا، حينما أقام العمال إضرابا فيها، وكان تشافيز دائما ما يندد بالشركة بسبب ارتباطها بنخب رجال الأعمال والولايات المتحدة. وفي بلد يعتبر النفط شريان حياته، حمل الإضراب بين طياته تدميرا للاقتصاد ومن ثم سلطة تشافيز نفسه، فقام الأخير بفصل 18 ألف عامل من “بدفسا” معظمهم من الفنيين والمديرين المهرة واستبدلهم بـ 100 ألف من مؤيديه، لذا لم تكن النتيجة المحتومة حينما تم تقديم الولاء على الكفاءة أمرا مفاجئا، إذ تدهور إنتاج النفط وتراجع بنسبة 25% منذ ذلك الوقت وحتى خلع الموت تشافيز من السلطة عام 2013. لعنة الموارد لم يكتف تشافيز بما فعله في شركة النفط بدفسا، وإنما أقرّ سياسة اقتصادية كانت سببا رئيسا في قتل الاقتصاد الفنزويلي تقريبا، إذ حوّل فنزويلا من الاعتماد على النفط إلى الاعتماد الكلي عليه، وهو أمر يوضحه بشكل أدق وزير الخصخصة الفنزويلي السابق “جيرفر توريس”، مشيرا إلى أن النفط في عام 1998 كان يمثل 77% من صادرات فنزويلا، ولكن بحلول عام 2011 كان يمثل 96% من الصادرات، وهو ما يعني أن 4% فقط من السلع التي تصدرها فنزويلا هي منتجات غير نفطية، وعلى عكس جيرانها اللاتينيين الذين كانوا يعتمدون منذ فترة طويلة على تصدير سلعة واحدة ولكن تم تنويعها منذ ذلك الحين. شكّل انخفاض إنتاج النفط واعتماد الاقتصاد عليه بشكل حصري مع اشتراكية تشافيز خلطة سحرية لدفع اقتصاد البلاد من أعلى التل لأسفل وبأقصى سرعة ممكنة، حيث عمل نظام تشافيز على ممارسة التأميم بشكل واسع، ومصادرة العديد من الشركات التي من الصعب حصرها لكثرتها في مختلف القطاعات، بما في ذلك شركات ألومنيوم وأسمنت وذهب وحديد وصلب، وشركات زراعية وأخرى في قطاعات المواصلات والكهرباء وإنتاج الغذاء والبنوك والورق ووسائل الإعلام، فانخفض عدد الشركات الخاصة في القطاع الصناعي وحده من 14 ألف شركة عام 1998، إلى 9 آلاف فقط عام 2011، مما قلل من قدرة الدولة على إنتاج أي شيء سوى النفط. وحينما حدثت الأزمة المالية العالمية عام 2008، وقرر المستثمرون اللجوء للأسواق الأكثر استقرارا بعيدا عن الاقتصادات الكبرى التي تتلاطم فيها أمواج الأزمة؛ كانت وجهتهم هي الاقتصادات النامية والناشئة ومنها بلدان أميركا اللاتينية، إذ نزحت نحو 150 مليار دولار ناحية تلك البلدان عام 2011، وهي أموال التهمت البرازيل أقل من نصفها بقليل، وتلقى جيران فنزويلا نصيبهم أيضا مثل كولومبيا بنحو 13 مليار دولار، بينما لم تتحرك شهية الاقتصاد الفنزويلي إلا لخمسة مليارات دولار فقط. ولم يتوقف الأمر عند هروب وعزوف الاستثمارات الأجنبية فحسب، وإنما بدأت الشركات المحلية في الخروج أيضا لتجنب نزع الملكية وخوفا من المستقبل الاقتصادي الفنزويلي الملبد بالغيوم، بينما عانى من بقي من ارتفاع معدلات الجريمة كما ذكرنا. لا يمكن الحديث عن وصول فنزويلا لتلك المستويات الكبيرة من الجريمة دون الإشارة إلى التحالف الدموي الذي أقامه تشافيز عقب الانقلاب عليه مع جماعات الجريمة المنظمة المعروفة باسم “كوليكتيفوس” (Colectivos) لتساعده في السيطرة على الشوارع أمام المتظاهرين، وهي عصابات كانت تجوب الشوارع على دراجات نارية صينية مفرقة المتظاهرين بطرق وحشية، وكان تشافيز يغدق عليهم من أموال النفط، ويمنحهم ضمانات من العواقب القانونية، حتى استطاعوا التسلل للدولة وأصبح لهم نفوذ سياسي داخل النظام، حتى صاروا يمثلون تحديا للشرطة الفنزويلية، وهو ما ظهر جليا عام 2005 حينما تمكنوا من طرد الشرطة من منطقة في كراكاس العاصمة كان بها عشرات الآلاف من السكان. على أية حال، لم تكن فترة تشافيز التي امتدت لأربعة عشر عاما شرا اقتصاديا محضا بالتأكيد، فهناك بعض الأعوام التي شهدت نموا اقتصاديا قويا وانخفاضا في معدل الفقر، مع ملاحظة أنها الفترات نفسها التي ازدهرت فيها اقتصادات أميركا اللاتينية كاملة، إذ شهدت بقية اقتصادات القارة ازدهارا بنسبة أكبر من فنزويلا، لكن لمحات الازدهار تلك قد انتهت على يد تلميذ تشافيز ونائبه “مادورو” الذي تولى السلطة بعده عام 2013، ليأخذ البلاد لنقطة تجاوزت معها فنزويلا مرحلة القلق من الانهيار الاقتصادي إلى الانهيار الفعلي. عصر مادورو لأنه تخرّج نظريا في مدرسة تشافيز، حاول مادورو تكرار قواعد اللعبة التي كان يسير بها سلفه، إلا أنه فشل فشلا كبيرا لعاملين توفرا لتشافيز دونه، كان الأول هو شخصية تشافيز الشعبوية، فقد كان مشهورا على نطاق واسع، ومَثّل نوعا من السحرة السياسيين الذين يتمتعون بقدرات استثنائية على إقناع الناس من جميع الخلفيات المختلفة على الانضمام لقضيته، حتى ولو كان فاشلا فيها، فقد كانت نشأته كطفل فقير في الريف الفنزويلي كفيلة بمنحه القدرة على التواصل بسلاسة مع الفقراء والطبقة العاملة التي جاء منها، لذا فقد جمع ائتلافا من اليساريين والضباط العسكريين وشرائح كبيرة من الطبقة الوسطى وفقراء فنزويلا المهملين منذ وقت طويل، وهي توليفة مكّنته من المكوث في السلطة لنحو عقد ونصف رغم التراجع الاقتصادي الكبير. أما الأمر الثاني فكان متعلقا بالطفرة النفطية التي لم يسبق لها مثيل، فرغم تراجع إنتاج النفط في فنزويلا بفعل عملية إحلال العمال المهرة بالمقربين الأقل معرفة، فإن أسعار النفط كانت حليفة لتشافيز بشكل كبير، فشهدت فترة ولايته ارتفاعا كبيرا في أسعار النفط العالمية منحت نظام الرئيس التاريخي نحو تريليون دولار تم ضخها في خزينة الدولة. على نقيض ما سبق، لم يتمتع “مادورو” أبدا بالكاريزما التشافيزية إن جاز القول، علاوة على انهيار أسعار النفط نهاية عام 2014 أي بعد تولي الأول الحكم بعام واحد، ما أدى إلى تحطم الاقتصاد الفنزويلي على إثر ذلك. ورغم تعافي الأسعار في وقت لاحق نسبيا حتى وصلت إلى نحو 80 دولارا للبرميل مؤخرا، فإن مادورو -ولسوء الإدارة المدهش منه- جعل الثروة النفطية الهائلة التي تتمتع بها فنزويلا، والتي تزيد على السعودية والولايات المتحدة نفسها، جعلها غير قادرة على منح البلاد شريان الحياة اللازم لإنعاشها، لأن صناعة النفط الفنزويلية تعاني من سوء الإدارة ونقص الاستثمار ومشاكل التدفق النقدي والبنية التحتية المتداعية)، ونقص الصيانة الكلية، وضعف طاقة التكرير، وهروب الموظفين التقنيين إلى العاصمة الكولومبية بوغوتا أو مقاطعة ميامي ديد بولاية فلوريدا الأميركية). لذا، لم يكن مفاجئا أن تتوقع إدارة معلومات الطاقة الأميركية (EIA) أن ينخفض إنتاج النفط في فنزويلا إلى مليون برميل يوميا فقط في عامنا الحالي، ثم إلى 700 ألف برميل بحلول ديسمبر/كانون الأول عام 2019، في حين كانت تنتج فنزويلا وقت تولي “مادورو” نحو 2.8 مليون برميل يوميا، وفي ظل اقتصاد يُمثّل النفط 96% من صادراته، فقد ضعفت التدفقات الدولارية بشدة لدرجة عجزت معها الحكومة عن دفع تكاليف الواردات الأساسية كالغذاء والدواء). وبدلا من قيامه بإصلاحات حقيقية، كمحاولة تنويع اقتصاد بلاده والاستثمار في الإنتاج المحلي، أو حتى الاعتناء بدرة الاقتصاد الفنزويلي “بدفسا” وتطويرها، فقد لجأ “مادورو” إلى أحد أسوأ الحلول الاقتصادية على الإطلاق، وعوضا عن معالجة نقص عائدات النفط، فقد ذهب إلى مصدر آخر أسهل للأموال وهو طباعتها بشكل كثيف وبلا غطاء نقدي حقيقي، بينما تم تخصيص العوائد الدولارية البسيطة، القادمة من الإنتاج الضئيل؛ للإنفاق على الدوائر السياسية والعسكرية والقضائية التي تضمن بقاءه في السلطة، وعلى نمط معيشته المرفه، تاركا العملة المحلية للشعب مغرقا بها الأسواق، حتى ظهر ذلك التضخم الجامح. يُعد التضخم الجامح (Hyperinflation) كارثة اقتصادية كبرى، فهو تضخم سريع جدا وخارج عن السيطرة، ويحدث عندما تكون زيادات الأسعار كبيرة لدرجة يعجز معها مفهوم التضخم عن وصف الحالة الواقعية لأي اقتصاد، ما يدفع المستهلكين إلى الحاجة إلى عربات مليئة بالمال لشراء الضروريات اليومية مثلا. ويُعد ذلك النوع من التضخم كارثة أيضا لأنه يعني بشكل أو بآخر موت العملة المصابة به، إذ حينما تنخفض قيمة عملة دولة ما بشكل حاد؛ يفقد المواطنون الثقة فيها وينظرون إليها على أنها ذات قيمة ضئيلة، وبالتالي يبدأ الناس في اكتناز وتخزين السلع والبضائع التي لها قيمة ظنا منهم أن هناك زيادة قادمة في أسعارها، ومع ارتفاع الأسعار تصبح السلع الأساسية كالغذاء والدواء شحيحة، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار مرات عديدة في دوامة تصاعدية. نتيجة لذلك، تضطر الحكومة لطباعة المزيد من الأموال في محاولة لتحقيق الاستقرار في الأسعار وتوفير السيولة ما يؤدي إلى مزيد من تفاقم المشكلة)، وهو ما يحدث في فنزويلا، حيث تعمل ماكينات طباعة البوليفار على أشدها، ويستمر “مادورو” في الإنفاق والتخفيض التاريخي في قيمة العملة، حتى أصبح ورق التواليت أكثر قيمة بشكل فعلي من أوراق البوليفار، للدرجة التي دفعت بعض الفنزويليين إلى صنع حقائب يد من أوراق العملة المنهارة وبيعها على الحدود الكولومبية، حيث يضيف عملهم قيمة أكبر من البوليفار المستهلك في صنع الحقيبة). كارتل أوف ذا صنس لا يأتي حكم مادورو بالتضخم فقط، وإنما يُمثل نظامه جوابا عن ما يمكن أن يحدث لدولة حينما تتولى منظمة “كارتل” تجارة مخدرات إدارة شؤونه الاقتصادية والمالية، حيث تمكّن الجيش في عهده، وهي المؤسسة التي كانت أقل نفوذا في عهد تشافيز، تمكّنت من السيطرة على تجارة المخدرات والغذاء وتعدين الذهب، وبالطبع لم يفتها شركة النفط الوطنية. في شهر مايو/أيار المنصرم اتهمت واشنطن بشكل رسمي “مادورو”، و”ديوسدادو كابيلو” المسؤول الثاني في الحزب الحاكم، بالتربح من شحن مخدرات غير قانونية، وهي المرة الأولى التي تربط فيها واشنطن بين مادورو وتجارة المخدرات، وقالت وزارة الخزانة الأميركية في بيانها إن كابيلو استولى على كميات مخدرات من تجار صغار وقام بجمعها وتصديرها من خلال مطار مملوك للحكومة الفنزويلية، وتم تقسيم العائدات من هذه الشحنات بين كابيلو والرئيس مادورو وآخرين، وفرضت وزارة الخزانة عقوبات عليهم جميعا، بما في ذلك زوجة كابيلو التي ترأس المعهد الوطني للسياحة في البلاد). في أميركا اللاتينية يمارس رجال الأعمال الإجرامية أعمالهم من داخل “منظمات” والتي عادة ما تتخصص في تهريب وتصدير المخدرات، لكن الوضع يختلف في فنزويلا قليلا، إذ تتم إدارة كارتل المخدرات من داخل الحكومة وفقا لمؤسسة “إنسايت كرايم” المعنية بالتحقيقات الإجرامية)، فقد سعى مهربو المخدرات إلى اختراق الدولة وتسهيل أعمالهم ووضع موارد الدولة تحت تصرفهم إن لزم الأمر. وتغض الجهات الفاعلة الفاسدة في الحكومة الطرف عن الاتجار بالمخدرات مقابل الحصول على مكافآت قد لا تكفيهم، فيضطرون إلى المشاركة المباشرة. يُطلق على عناصر الاتجار بالمخدرات في النظام الفنزويلي “كارتل أوف ذا صنس” (Cartel of the Suns) نسبة إلى النجوم الذهبية التي يرتديها الجنرالات على الأكتاف في الحرس الوطني الفنزويلي. وعلى مدار ثلاث السنوات الماضية، قامت مؤسسة “إنسايت كرايم” ببناء ملفات لكبار المسؤولين الفنزويليين الحاليين والسابقين الذين شاركوا في تهريب الكوكايين، وهم موظفون، بدلا من تهميشهم على أقل تقدير، قام مادورو بترقيتهم إلى أعلى المناصب، مثل “طارق العسيمي”، المرجح كونه أحد أهم المشتركين في شبكة الربحية تلك، وهو يتولى حقيبة وزارة الصناعات والإنتاج الوطني منذ يونيو/حزيران الماضي، وكان نائبا لمادورو قبلها، وحينما تم القبض على أبناء شقيق مادورو في الولايات المتحدة بتهمة التآمر لجلب 800 كيلو كوكايين؛ اعترفوا حينها بأن الكمية كانت تعود إلى شبكة العيسمي). ومنذ أيام قليلة، فرضت الولايات المتحدة عقوبات جديدة على صادرات فنزويلا من الذهب، وحظرت تعامل المواطنين الأميركيين مع الشخصيات والمؤسسات المتورطة في مبيعات الذهب “الفاسدة أو المخادعة” من فنزويلا حد تعبير الأميركيين، عقوبات كان على إثرها أن أرسلت فنزويلا إلى بنك إنجلترا تطلب إعادة احتياطاتها من الذهب البالغة نحو 15 طنا تبلغ قيمتها 550 مليون دولار كانت قد احتفظت بها سابقا في خزائن البنك)، ومنذ ساعات قليلة مددت أوروبا العقوبات على فنزويلا لعام كامل، وهي عقوبات تتضمن حظرا على مبيعات الأسلحة ومعدات تستخدم في القمع الحكومي الداخلي، مع تمديد حظر السفر وتجميد أصول 18 مسؤولا فنزويليا بسبب “انتهاكات حقوق الإنسان وتقويض الديمقراطية وحكم القانون” كما قال النص). الفشل ومن تلك الدروس التي قد يؤدي إغفالها إلى أحداث كارثية؛ هو أن العوامل الاقتصادية الخارجية يمكن أن تسبب انهيارا اقتصاديا داخليا، فانخفاض أسعار النفط بشكل حاد أواخر عام 2014 أدى إلى تعجيل الانهيار الاقتصادي في فنزويلا، ويمكن أن يتم إخفاء الفشل الاقتصادي وراء الإحصائيات غير المحايدة وعن طريق وسائل الإعلام التابعة للنظام الحاكم، كما حدث في عهد تشافيز حينما تم تقديم بعض العوامل التي ساهمت في الانهيار الاقتصادي على أنها مزايا، فحينما وصل إلى السلطة، وعد الناس بأن سياساته الاشتراكية ستخرجهم من الفقر وتحفز إنفاق المستهلكين و”تؤدي إلى الجنة”، فصدّرت وسائل الإعلام تلك الصورة للناس رغم انهيار الاتحاد السوفيتي منذ سنوات قليلة وقتها، وفشل العديد من الدول التي انتهجت السياسات الاشتراكية. إلا أن الحكومات والأنظمة لا تذهب بمجرد انهيار اقتصاد بلدانها على الأرجح، فرغم الإخفاق الفنزويلي الحالي تحت ظل مادورو، فإنه ما زال يسوّق أن ما يحدث هو مجرد مؤامرة خارجية من قِبل الولايات المتحدة وكولومبيا بالتعاون مع رجال أعمال في الداخل يقومون باحتكار السلع والمضاربة على البوليفار، وأن القادم أفضل. في العموم، لا يمكن الجزم بنهاية المباراة بين النظام الفنزويلي الحالي والغرب، رغم فوارق القوة الشاسعة، ورغم ضعف الاقتصاد الفنزويلي بشكل لا شك فيه، إلا أن المباراة بين الشعب الفنزويلي ونظامه الحاكم أصبحت منذ أن تولى “مادورو” في اتجاه واحد، لصدور الفنزويليين مباشرة، في دولة في طريقها للانضمام إلى نادي الدول شديدة الفقر التي يحتاج تعافيها إلى معجزة كبرى لا يبدو أنها ستأتي قريبا بحال , آدم المخزنجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

14 − ستة =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube