https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

المؤلفان : إزلاتكو إسكربس ومايمل دي بار يقدم الكتاب دراسة عن سنغافورة؛ البلد الناجح اقتصاديًا بدون موارد طبيعية، وتطورها الاجتماعي والاقتصادي في فترة زمنية قصيرة نسبيًا، وهو أمر استثنائي وجدير بالملاحظة، وينظر الكتاب في داخل نظام “حكم الأكفأ” المفترض من رياض الأطفال إلى الجامعة وما بعدها، ما يفضي لخلق النخبة الإدارية والسياسية، وبالتركيز على عمليتي اختيار النخبة وتشكيلها. ويقدم الكتاب أيضًا اهتمامًا أساسيًا بالدور الذي يلعبه الانتماء العرقي في هذه العمليات، مع الأخذ بالاعتبار المعطيات المتعلقة بالعلاقات الشخصية والنفوذ والطبقة الاجتماعية. يقوم بناء سنغافورة على ثلاثة جوانب: الأول: يركز على الدور الحكومي في إقامة النظام العام وبناء الطرق واستصلاح الأراضي، والجانب الثاني متصل بالحياة الاجتماعية والتعليمية والسياسية لإعادة تقييم وإعادة بناء مستمرة، ومن الأمثلة الحالية عمليات الدفع لدعم الفنون الإبداعية وتشجيع روح المبادرة وتحويل سنغافورة إلى مدينة عالمية، ويتصل الجانب الثالث بالأيديولوجية؛ حيث تسعى النخبة الحاكمة لضمان أن رؤيتها للأمة والمجتمع والعالم ولنفسها ستكون مقبولة من السكان وأنها سوف تهيمن على الإدراك الاجتماعي لهم على كافة المستويات. ويقدم الكتاب عرضًا تاريخيًا مقارنًا للسياسات السنغافورية، ويكشف عن الثقافة الحالية لحكم النخبة والمثل الأعلى للتعددية العرقية السنغافورية، ويخصص مساحات واسعة لنظام التعليم، وتشكيل النخب، ثم يقيم مشروع بناء الأمة. يعمل إزلاتكو إسكربس أستاذًا لعلم الاجتماع في جامعة كوينز لاند الأسترالية، ويعمل مايكل دي بار مؤرخًا متخصصًا بالتاريخ الحديث لسنغافورة وماليزيا، ويعمل المترجم حازم نهار رئيس تحرير مجلة المشكاة وله كتاب “التأخر في المجمع العربي وتجلياته التربوية في العائلة والمدرسة”. حكاية سنغافورة حصلت المستعمرات البريطانية السابقة في آسيا على استقلالها من خلال مفاوضات مجهدة ومعقدة بين بريطانيا والنخب القومية، وقد رعت السلطات الاستعمارية هذه النخب دون استثناء، والتي تعلمت في العاصمة، وأُريقت دماء الذين بقوا خارج النخب، مثل الراديكاليين الصينيين والمالايويين والشيوعيين، والذين وجدوا أنفسهم يُرمون وكأنهم أعداء مالايا، وكما كانوا يعاملون من قبل عندما كانوا أعداء للاستعمار البريطاني والياباني. كانت الدول الجديدة مهتمة ببناء الأمة، وركزت لأجل ذلك على الأفعال المادية أو شبه المادية لملء الفجوات في الدولة، مثل بناء الطرق والأبنية والنصب التذكارية والمعامل والجيوش والصناعات ومؤسسات الحكم، وغالبًا ما كانت هذه المؤسسات تقام بإحساس فورة الشباب، وأحيانًا بتصميم قوي لتحقيقها. وسعى قادة سنغافورة لتحقيق هوية وطنية وتوثيق الصلة بين الشعب ونظام الحكم والنخب الحاكمة، التي استخدمت في ذلك الأدوار الجوهرية للدولة: السلطة التنفيذية والتشريعية والبيروقراطية والقوات المسلحة والنظام التعليمي والإعلام والحزب الحاكم والاتحادات العمالية والمجتمع المدني والمجتمع التقليدي. وتبدو سنغافورة اليوم دولة علمانية متعددة الأعراق، متعددة الأديان، متعددة اللغات، جمعت المفهوم الحديث للمواطنة مع ممارسات تؤصل وتؤكد الهوية الإثنية؛ ما جعلها أقل حداثة ومدنية مما تبدو للوهلة الأولى، فقد بدأت سنغافورة ومنذ العام 1980 (تقريبًا) مشروع بناء الأمة بالابتعاد عن النموذج المدني، حيث المواطنة ترتكز على النموذج الحديث الشامل والعقلاني والبعيد عن العناصر البدائية مثل العرق والإثنية والدين، متجهة نحو نموذج أكثر عرقية وإثنية مع مفاهيم الإثنية الصينية والمفهوم السنغافوري الاستثنائي للقيم الصينية. أدارت النخبة السنغافورية الشؤون التفصيلية، ولم تدخر جهدًا لمعرفة أن كل نتيجة ظهرت هي مقصودة وأن كل فرق صغير هو متعمد، وظهرت النخبة وبخاصة في عهد لي كوان يوم (1959–1990) كمناضلة من أجل المعرفة غير المحدودة؛ إذ ادعت سلطة العقل الخالص من خلال توهمها أنها “يمكن أن تستهدف كل تعبير تصاعدي في السياسة لسن قوانين دقيقة ونتائج محسوبة” (22) هذه السياسة كما تقول ليلى زبيدة (التحول الديمقراطي في آسيا) خفضت مشروع بناء الأمة الرسمي من مرتبة الولاء الوطني ليكون جزئيًا وظيفة لشرعية النظام (23). النسخة السنغافورية من النخبوية هي بشكل رئيسي نتاج فكر وتصورات لي كوان، وهو ابن عائلة صينية ثرية، تعرّف على النظام الطبقي الانجليزي، ودرس في كامبريدج، كما اطّلع على الإنتاج الفكري البريطاني والعالمي، وتأثر بتوينبي، وكان لي كوان -كما يذكر مايكل دي بار في كتابه (لي كوان يو: العقائد وراء الإنسان)- يعتقد بخصوصية الثقافة الصينية، ولا يستبعد أن يكون التفوق الصيني مرده إلى خصائص وراثية (28). يقول المؤلفان: إن تاريخ سنغافورة الحديث كُتِب ويدرّس للطلاب على أساس ذاكرة مليئة بالنسيان، ويتجاهل دور الشيوعيين وكثير من الوطنيين في النضال والبناء، وتركز النخبة على بناء صورة سنغافورة المتقدمة التي تحترم ذاتها، وتقف لأجل سيادتها وكرامتها في وجه الدول الأقوى منها. وفي أواخر الستينيات بدأ العقد الاجتماعي بالانهيار، وذلك بسبب التحول البرجوازي الذي زحف على المجتمع السنغافوري، ولكن السبب الجوهري كان أن الحكومة التي أصبح يسيطر عليها لي كوان بدأت باتخاذ مبادرات كسرت روح العقد الاجتماعي. بناء الأمة: النخبوية والإثنية ينتمي ثلاثة أرباع السنغافوريين إلى الإثنية الصينية، وهناك هنود وجنوب شرق آسيويين، ولكن كما يقول وزير الخارجية السنغافوري جورج يو (2005): نحن متعلمون على الطريقة الغربية بخصائص سنغافورية، صينيون بخصائص سنغافورية، وهنود بخصائص سنغافورية، وجنوب شرق آسيويين بخصائص سنغافورية. يحتوي بناء الأمة كما يقول المؤلفان على بعدين متضافرين: البنى التحتية (المادية) وبناء الانتماء لدى المجموعة الوطنية، وحين منحت سنغافورة حكمًا ذاتيًا سنة 1959 رأى السنغافوريون أنه لا يمكن التغلب على التحديات القائمة إلا في إطار استيعابي ضمن وحدة سياسية شاملة قائمة على شعب المالايا، وحين استقلت عن ماليزيا سنة 1965 لجأت الحكومة في مواجهة الفقر وقلة الموارد وضعف البنى التحتية والمؤسسات وغياب التاريخ والأساطير لملء هذه الفجوات عن طريق طائفة غير متجانسة من الأسس الأيديولوجية لبناء الأمة: التشديد على الحداثة والتقدم على أساس التعددية العرقية وحكم الأكفأ، وهذه بذاتها أدوات ضعيفة لبناء أمة وكان البديل هو النخبوية، فبزغت النخبوية بسرعة وقوة بوصفها المصدر الأساسي للحكومة. وجد لي مشروعية لأفكاره النخبوية في أعمال فيلسوف التاريخ أرنولد جوزيف توينبي (1889–1957) ويرى توينبي أن التقدم الاجتماعي يتوقف على الأقلية المبدعة التي تجسد التقدمية، وهي مستودع المبادرات الاجتماعية الإيجابية، وفي المقابل الأغلبية المجتمعية التي تفتقر إلى الإبداع والرؤية، .. وفي هذا السيناريو يصبح التقدم الاجتماعي وظيفة النخبة ومقترنًا بمقدرة الجماهير على اتباع قادتها، لقد تحولت أفكار لي النخبوية إل انعكاس مباشر لرؤية توينبي (82). تنزع المجتمعات الصينية السنغافورية إلى رؤية المجتمع بصفته سلسلة من العلاقات التراتبية، تتجلى في الكونفوشيوسية الفلاحية والكلاسيكية: الإمبراطور والرعية، الأب والابن، الأخ الأكبر والأخ الأصغر، الزوج والزوجة، الصداقة، ويشاركهم المالاويون والهنود في احترام التراتبية وتعظيم العلم والثقافة، وتوافقت هذه التراتبية العلائقية والتعليم والثقافة مع نخبوية لي الغريزية، وسعت النخبة الى اختراق المجتمع والتواصل معه عبر سلسلة من النقابات والجمعيات المدنية لأجل مواجهة التوتر الطبقي والحساسيات الإثنية والعرقية. الإثنية والعرق يشكّل الصينيون حسب دائرة الإحصاءات عام 2005 حوالي ثلاثة أرباع السنغافوريين (76.8%) ويليهم المالاويون (13.6%) ثم الهنود (8.7%)، وتشكّل القوميات الأخرى (أوروبيون ويابانيون وأوراسيون وعرب) 2.1%، ويتأسس مشروع بناء الأمة في سنغافورة على وفرة في قيم المواطنة والالتزام بها وتشرع لها الأغاني والحملات الاجتماعية والشعبية، ولكن منذ عام 1965 لم تنشأ محاولة لتذويب الاختلافات الإثنية والتأليف بينها في صورة هوية إثنية سنغافورية، كما حدث على سبيل المثال في يوغوسلافيا. وعندما استقلت سنغافورة عام 1965 كان البقاء هو التحدي الرئيسي، ضمان بقاء دولة المدينة بأي ثمن. يرى رئيس وزراء سنغافورة لي هسين لونغ لونغ (2005) أن النخبة هي مجموعة مركزية من الناس تحتل المواقع الرئيسية للقوة والتأثير وتحدد اتجاه المجتمع والبلاد، ومن هنا تدافع النخبة الحاكمة في سنغافورة عن نظام حكم الأكفأ؛ فتسند النخبوية إلى الكفاءة بغض النظر عن العرق أو الطبقة أو القرابة، ويكسب أعضاء نخبة سنغافورة مكانتهم في ذروة المجتمع من خلال الموهبة المطلقة والعمل الشاق كما قيموا في المدارس والجامعات، وبدأت النخب تتشكل من خلال النظام التعليمي والقوات المسلحة والمناصب العليا للخدمة المدنية، وهناك أيضًا نخب أخرى، دينية وأكاديمية واقتصادية، ولكن مركزية الدولة جعلت النخبة الحاكمة هي الذروة الحقيقية للمجتمع. ثقافة الحكم في سنغافورة هي ثقافة تكنوقراطية، يقول رئيس الوزراء السنغافوري لي هسين لونغ: إن الحكومة قد حمت الموظفين المدنيين من التدخل السياسي مانحة إياهم متسعًا مريحًا ليتدبروا حلولاً منطقية لمشكلاتنا، بحيث يمكنهم أن يمارسوا الإدارة العامة في شروط مثالية تشبه شروط المختبر، ولكن سنغافورة -كما يرى المؤلفان- أوقعت نفسها في إشكاليات، فالتمييز بين القيادة الفنية والسياسية أمر مبهم وغامض. وتشكل الموهبة قاعدة منطقية في نظام سنغافورة السياسي، يقول لي كوان يو أشهر رئيس وزراء لسنغافورة (1959 – 1990): إن سر الحكم الجيد يكمن في تحديد وتمييز أولئك الناس الذين لديهم مؤهلات مميزة موروثة وملموسة تقريبًا تُدعى “الموهبة”، وإن إيجاد هؤلاء وإعطاءهم السلطة هو مفتاح الحكم الجيد. يحدد هؤلاء الموهوبون في المدارس ثم تتاح لهم فرص تعليم وتنشئة متقدمة ويعرضون لتحديات متصاعدة الصعوبة ثم يجري اختيار أفضلهم، ولكن نظام الحكم -كما يقول المؤلفان- تتخلله انحرافات أيديولوجية واجتماعية ومحاباة عرقية وطبقية، وقد كرس الدستور وصاية النخبة، فمنصب الرئيس محجوز لفئات محددة ومنصوص عليها، ممن شغلت مناصب سياسية واقتصادية عليا، ويخضع المرشحون لفحص دقيق من قبل لجنة من 3 أعضاء، اثنين منهما هما رئيس ديوان الخدمة المدنية العامة ورئيس مجلس المحاسبين العام، ويمثل رئيس الوزراء الحالي لي هسين لونغ وهو ابن الزعيم التاريخي لي كوان يو حالة صارخة من المحابة والمحسوبية. ورغم ذلك فإن النظام يعمل، فهناك موهبة كافية في السلالة، وهناك ما يكفي من الحقيقة في أساطير حكومة الأكفأ، وحكم النخبة والبراغماتية، لضمان أن تبقى دولة المدينة مستقرة ومثمرة، ولو أنه سُمح للواقع أن يبتعد كثيرًا عن هذه المثاليات لكان النظام بكامله سيتدهور إلى سياسات محسوبية أو سياسات محاباة الأصدقاء وذلك شيء لن يُسمح له بأن يحدث؛ فالانحرافات والعيوب في الحقيقة تسخر بصورة كبيرة من خطابات تشريع النظام،وتلحق ضررا كبيرا بشرعيته ولكنها ليست شيئًا قاتلاً للنظام، وتعتقد النخبة الحاكمة بوضوح أنها ثمن مقبول لنظام ينعم بالسلام والازدهار والاستقرار وإن لم يكن نظامًا كاملاً لإعادة إنتاج النخبة. الاستيعاب غير الكامل: من القومية المدنية إلى القومية الإثنية يعرض المؤلفان في الفصل الذي يحمل هذا العنوان حجة قائلة بأن نظام التعددية العرقية في سنغافورة متصدع على نحو خطير؛ ذلك أنها لم تعد معنية في المقام الأول بالتسامح بين الجماعات الذي كان حتى نهاية السبعينيات، بل أصبح لديها برنامج قسري لاستيعاب الأقليات العرقية وإدماجها داخل مجتمع مسيطر عليه صينيًا، .. “التصيين”. فقد تحول لي كوان يو في أواخر السبعينيات إلى تصيين سنغافورة، وربما يعود ذلك إلى موجة الانفتاح الصيني على الاستثمار والتجارة، المهم أن سنغافورة سلكت في بداية الثمانينيات طريقًا يرتكز حول الإثنية للأمة التي يُتوقع من الصينيين المشاركة فيها، ومن الأقليات محاكاتها (تعددية عرقية وإثنية صينية)، وزاد التشديد على تدريس اللغة الأم، واعتُبر النجاح فيها شرطًا مسبقًا لدخول المعاهد والجامعات، وأصبح الوعي العرقي اليوم عاليًا، وأثّرت هذه الظاهرة سلبًا، ولكن في عام 1991 مع صعود غوه تشوك كونغ لمنصب رئيس الوزراء فقد سعى في مراجعة الحالة العرقية التي تشكّلت، وساهم تطوير التعددية العرقية في بناء مفهوم “الأرض المشتركة” أو “الفضاء المشترك”. بناء السنغافوري الجديد مؤسسة النظام التعليمي هي الأكثر تأثيرًا في تاريخ بناء الأمة السنغافورية، ويمكن وصف النظام التعليمي في سنغافورة بثلاث ظواهر مركزية: فرز التلاميذ حسب مستوياتهم، تعليم اللغة الثانية (الإنجليزية إضافة إلى اللغة الأم، وهي واحدة من اللغات العرقية الرئيسية الثلاث)، ودعم مدارس النخبة. وقد أدى نظام الفرز إلى مشكلات عدة، منها: التقسيم الاجتماعي واللجوء إلى حيل مثل التعليم الخاص وتسريب وبيع أسئلة الامتحانات، وكانت النتيجة التراكمية لهذه الظواهر تحولاً حرجًا دفع النظام التعليمي إلى إنتاج نخبة جديدة، واليوم يبدأ هذا الإنتاج من مرحلة ما قبل المدرسة، وكانت سرعة التغيير في النخب كبيرة، وما زال معظم المالايويين لا يذهبون إلى رياض الأطفال وذلك يحرمهم من فرصة المشاركة في النخب مشاركة واسعة وفاعلة، ويُتوقع أن من أسباب ذلك الحذر الثقافي والاجتماعي لدى الآباء المالايويين من أسلوب ومنهج التنشئة المتبع في رياض الأطفال، كما أن حزب العمل الشعبي الحاكم الذي يدير معظم رياض الأطفال يتلقى تسهيلات كثيرة تقلل من تكاليفها وتجعلها قادرة على العمل ولكنها موجهة بشكل أساسي إلى الصينيين. بعد رياض الأطفال يجري فرز الطلاب حسب مستوياتهم، ويتلقى المتفوقون منهم رعاية خاصة، وتُمنح المدارس الخاصة بتعليم النخبة دعمًا كبيرًا ويؤهَّل الطلاب للمرحلة الجامعية اجتماعيًا وتعليميًا تأهيلاً متقدمًا، وبطبيعة الحال فإن هذه النخب هي المرشحة للعمل في الخدمة المدنية والقوات المسلحة، ويواصل نظام بناء النخب وتشكيلها فرز الأذكياء والنخب في سلسلة من المهارات والوظائف والأعمال الحكومية، ويُسمّى ذلك في سنغافورة نظام حكم الأكفأ. وهو بطبيعة الحال -وكما يبدو ويقر بذلك المؤلفان- نظام مدهش، ولكنهما يسجلان أن تجاوزات كثيرة تجري في تطبيقه، فهو نظام متحيز للرجال ضد النساء، وللصينيين ضد المالايويين والهنود السنغافوريين وغيرهم من الأعراق، فما زالت النساء يشكلن نسبة ضئيلة في المنح والمناصب الحكومية والمجالس التشريعية والشركات الحكومية، ومن بين 30 شركة حكومية يوجد مديران فقط غير صينيين، وفي تمثيل مجالس الشركات الحكومية يوجد اثنان فقط غير صينيين من بين 38 ممثلاً، وكان هناك طالب واحد غير صيني حصل على منحة رئاسة الدولة خلال 23 سنة، وأُعطيت منحة واحدة لطالب مالايوي في خلال 40 سنة. ويبدأ الموظفون في دخول سلسلة من التجارب والأعمال وفي بيئة تقدم الأكفأ على نحو يشبه ما يحدث في المدارس، وتشكل الخدمة الوطنية في القوات المسلحة ميزة كبرى للتقدم الوظيفي، ولكنها مشاركة يحرم منها المالايويون، كما أنهم يستبعدون من المناصب المهمة والحساسة في القوات المسلحة. يقر المؤلفان بأنهما يركزان على الأخطاء والتشوهات في نظام تشكيل النخبة في سنغافورة، ويقولان أيضًا بصراحة: إن الكتاب لم يمنح نقاط القوة في هذا النظام إلا اهتمامًا عرضيًا، وهما يعتقدان أن التقدم السنغافوري الاقتصادي والتعليمي وإن كان مذهلاً لا يحظى برضا السنغافوريين غير الصينيين، وأنهم يشعرون بالتهميش والحرمان. وفي المقابل فإن لي كوان في كتابه الشهير والمهم “من العالم الثالث إلى العالم الأول، قصة سنغافورة 1965–2000” يدافع عن الخطط والسياسات التي تبناها بأنها ساهمت في بناء الهوية السنغافورية وساعدت البلاد على الاحتفاظ بالكفاءات الوطنية ومنعت تسرب الأذكياء والمتفوقين إلى خارج سنغافورة، ويرى أن ماليزيا خسرت عددًا كبيرًا من مواطنيها الصينيين والهنود بسبب الهجرة إلى الغرب وأستراليا، ويقول: إن الحكومة في ماليزيا كانت تنظر إلى الظاهرة على أنها خلصتها من مشكلة! وهو (لي كوان يو) يقول: إن سنغافورة لم تواجه فقط تسرب الكفاءات بل عملت على تطويرها وبنائها ودمجها في الحياة الاقتصادية، وأهم من ذلك برأيه اجتذاب كفاءات مهنية واقتصادية من خارج سنغافورة مثل الصين والهند، وجرت عمليات اجتذاب للمواهب والكفاءات الآسيوية. وينظر لي كوان إلى سياسات التمييز النخبوي برغم اعترافه بآثارها الاجتماعية بأنها كانت ضرورية رغم ما يبدو فيها من قسوة وتمييز للحفاظ على مواصلة التقدم ولمواجهة ظواهر خطيرة تسربت إلى البلاد بفعل التحديث والعولمة، مثل ظاهرة العنوسة في الفتيات المتعلمات وزواجهن من شباب أقل تعليما، ما يؤدي برأيه إلى نشوء أجيال جديدة أقل ذكاء وموهبة، ذلك أنه كما يقول 80% من الموهبة يأتي بالوراثة، والخمس المتبقي يكتسب بالتنشئة والتعليم (لي كوان يو، قصة سنغافورة، 209 – 222). ويدافع أيضًا لي كوان عن سياسات تعليم اللغة الأم والتي يراها المؤلفان مصدرًا لانبعاث وعي قومي على حساب الهوية الوطنية بأنها لحماية السنغافوريين الصينيين من العزلة عن محيطهم الصيني، ولحمايتهم من الضياع بسبب التمزق بين هويتين ولغتين، كما أن تدريس اللغة الأم ساهم في تكريس وترسيخ الثقافة والقيم الصينية. كانت السياسة العامة في هذا المجال -كما يقول لي كوان عام 1959- هي السعي للاندماج في الأمة المالايوية، واعتُبرت اللغة المالايوية هي اللغة الام، مع تطوير اللغة الإنجليزية لنستطيع كما يقول “أن نكسب رزقنا”. ومع تعدد اللغات في سنغافورة كان ثمة حاجة إلى لغة واحدة مشتركة للإدارة العامة والقوات المسلحة، وكانت هي الإنجليزية (لي كوان يو، 223 – 239). ومن المؤكد بطبيعة الحال أن انتقادات المؤلفيْن صحيحة، ولا يمكن غض النظر عن القسوة في نظام الإدارة وتشكيل النخب السنغافورية، ولكن ذلك لا يقلل من روعة وفرادة التجربة والمغامرة السنغافورية، والتي يمكن أن تكون نموذجًا لجميع دول العالم وبخاصة تلك الدول الصغيرة المحاطة بدول كبيرة وقوية، كما أن سنغافورة أثبتت أن الازدهار الاقتصادي من غير موارد طبيعية لم يعد معجزة ولا مبررًا للحكومات تقدمه لشعوبها ومواطنيها، وربما يكون أهم درس في الكتاب هو تقييم الأنظمة التعليمية وتشكيل النخب في دول أخرى كثيرة، إنه ليس فقط درسًا في التقدم على أساس حكم الأكفأ، ولكنه دليل للمثقفين والناشطين لتقدير وفهم المسارات والرؤى الإصلاحية وبخاصة في مرحلة الربيع العربي التي تبحث فيها الشعوب العربية عن مستقبلها وتحاول أن تقرر بنفسها مصيرها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة عشر + سبعة عشر =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube