كتب محمد خير الوادي :
بعد ثلاثة وسبعين عاما من تأسيسه ، يعود حلف الناتو في علاقلاته مع روسيا الى المربع الاول . ففي عام 1949 ، اعتبر الحلف روسيا التي كانت-آنذاك – تلبس لبوسا سوفياتيا ، العدو الاول والخطر الداهم على الغرب . وفي قمته الأخيرة التي انتهت للتو في مدريد، استخدم الناتو التعابير نفسها تجاه روسيا ، مطلقا عليها وصف :التهديد الاول للغرب ومصدرالشر والخطر الاساسي عليه !
خلال تلك العقود السبعة ، جرت مياه كثيره في جداول السياسة العالمية ، وخلعت روسيا الرداء السوفياتي لتستبدله بالبوتينية . لكن لكن امرا واحدا بقي ثابتا هو : التناقض المغناطيسي في المصالح بين روسيا والغرب ، ذلك التناقض الذي اسهم في اشعال شرارتي الحربين العالميتين الاولى والثانية ، وهو يهدد باشعال حريق حرب ثالثة لا تبق ولا تذر .
التغيير الو حيد الذي طرا خلال تلك الفترة هو ، ان موسكو كانت تمتلك آنذاك كثيرا من العوامل الاضافية الرادعة منها : حلف وارسو العسكري ، ودول المعسكر الاشتراكي ، وايديولوجيا مكنتها من قيادة ما سمي ” بالبشرية التقدمية ” في مواجهة الامبريالية .
الآن تبدو روسيا في مبارزتها مع الغرب شبه وحيدة ، فحليفها الاساسي المفترض وهي الصين ، غير متحمس في تقديم المساندة . وقد ازداد تردد الحليف الصيني بعد ان غيٌر قادة الناتو في خطتهم الاستراجية الأخيرة قائمة الاعداء ، فرفعوا روسيا الى المقام الاول ، وانزلوا بكين الى المركز الثاني، واعتبروها “غير خصم للغرب” .
ويعتقد الصينيون ان هذه ” المفاضلة الناتوية ” ستقدم لهم مزيدا من الميزات ، منها ،ان الغرب سيخفف الضغوط والعقوبات على بكين ، وسيبطىٌء من مسيرة الحرب التجارية التي استعرت خلال سنوات ادارة ترامب والحقت بالاقتصاد الصيني مئات المليارات من الخسائر ، وسيزيل كثيرا من العراقيل التي وضعت امام تدفق انهار السلع الصينية الى الاسواق الغربية عامة ،والامريكية خاصة ،وسيفتح صنبور التقانة الغربية لتصب مجددا في شرايين الاقتصاد الصيني ، وسيغض الطرف قليلا عن اتهاماته لبكين لما يسمى انتهاك حقوق الانسان.
واظن ان التوقعات الصينية هذه في رغبة الغرب بالعودة الى الشراكة الكاملة معها ، مغرقة بالتفاؤل. فامريكا لا تزال تعتبر الصين منافسها الاول ، والغرب عبٌر مرارا عن قلقه من زيادة وتائر التسلح الصيني غير المسبوق ، ومن السياسة الهجومية التي يمارسها الرئيس شي جينغ بين في جنوب شرقي آسيا ، ومن التمدد الاقتصادي الصيني في قارات العالم الخمس وكتجسيد لهذا القلق ، دعا الناتو- أول مرة – كلا من اليابان وكوريا الجنوبية واوستراليا ، – وهي دول مناهضة للصين – لحضور قمته الاخيرة .
على كل حال ، الصين دولة كبرى لها خصائصها ، وهي تقيس الامور الدولية بميزان من ذهب ،ولا تختار من المواقف سوى تلك التي تخدم مصالحها بالدرجة الاولى .
نعود الآن الى الناتو وروسيا . لقد اعتبر الحلف المذكور الازمة الاوكرانية فرصة ذهبية لترميم ما هرم وترهل في بنيانه . ولذلك نشر الحلف هستيرية الحرب في اوربا ،وايقظ شيطان سباق التسلح من سباته العميق ، ونفخ في اوار العداء لروسيا وضخٌم خطرها . واظن ، ان قيادة الحلف قد افلحت في ذلك ، والدليل على ذلك تسابق الدول الاعضاء في نفض الغبار عن معامل السلاح فيها ، وزيادة المخصصات العسكرية، ودفع بقية دول اوربا للانضواء تحت الراية الاطلسية .
ولم تفوٌت امريكا هذه الفرصة التاريخية من اجل العودة بقوة الى القارة القديمة والتحكم بقرارها ، وزرع قواعد البنتاغون في كل ارجائها .
لقد اثبتت الاحداث ، ان حلف الناتو لم يغير جلده العدواني ، وهو لا يزال يمثل الاداة الرئيسية لتحقيق السياسة التوسعية الخارجية الغربية ، وقمع كل من يعارضها .
وحقيقة اخرى ابرزتها ازمة اوكرانيا ، هي ، ان الصدام في المصالح بين روسيا والغرب لا تدوٌر زواياه مع الزمن ، وان الساحة الاوربية ستبقى مرشحة للتوتر والحروب ، مالم يتم العثور على صيغة مناسبة تراعي مصالح دول القارة الاوربية وامنها كلها، بما فيها روسيا .
ولا بد من الاشارة الى حقيقة ثالثة ، هي ان اصرار الغرب على التصدي لروسيا عبر التسليح الشامل لأوكرانيا ودعمها في المجالات كافة ، سيفضي الى تصعيد عسكري خطير في الازمة الاوكرانية ، لن يبقى لهيبه محصورا في تلك المنطقة .
3/7/2022