https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

المؤلف: داود أوغلو
” إن كل مجتمع واعد يزعم بأنه يؤثر في التاريخ وليس كمًّا مهملاً، وأنه يكتب التاريخ وليس يقرأه، إنما هو مجتمع مضطر أولاً لإعادة تفسير زمانه ومكانه، وبلورة وعي متجدد بعمقه الاستراتيجي: الجغرافي، والتاريخي، والحضاري”.
هذه هي الرؤية التي كان يحملها الأستاذ الدكتور أحمد داود أوغلو منذ أن خطى أولى خطواته الأكاديمية في مجال العلاقات الدولية، واضعا وطنه ومجتمعه في بؤره أهدافه البحثية.
وكان داود أوغلو معروفا بين أقرانه وأساتذته بتدينه الرشيد الواعي، ومشهودا له كذلك بالنبوغ والذكاء. وهو ما يمكنه أن يفسر المسئولية التي حملها على عاتقه بالبحث عن سبيل لنهضة أمته الإسلامية، ووطنه التركي. هذه المسئولية التي سخر من أجلها أدوات بحثه الأكاديمي؛ ودرس بوعي النظريات الغربية، وقبل منها ورفض، إلى أن بلور نظريته الخاصة لاستعادة وطنه مكانته التاريخية والحضارية داخل محيط السياسة الدولية ومنظماتها المعاصرة.
و” العمق الاستراتيجي.. موقع تركيا ودورها في السياسة الدولية ” ليس كتابا أكاديميا أو مؤلفا فكريا فحسب؛ بل أيضا هو نظرية جديدة تُضاف إلى علوم السياسة المعاصرة. وتعد هذه النظرية خلاصة بحث طويل ودراسات متعمقة في عوامل النهضة والريادة لكل مجتمع ودولة تمتلك مقومات نهضتها وتعيها، بيد أن ما يميز هذا الكتاب هو تجاوزه للأطر النظرية المجردة؛ ليصوغ رؤية استراتيجية تطبيقية شاملة لما يمكن أن تكون عليه مكانة تركيا في الساحة الدولية.
ولعل ما سيفاجئ القارئ العربي عند مطالعته لهذا الكتاب عند صدور طبعته العربية قريبا ، أن هذه النظرية والاستراتيجية المطروحة عند صدور الطبعة الأولى من الكتاب قبل عشر سنوات تقريبا، قد تجسدت واقعا حيا ملموسا لكل متابع لتطورات الأحداث التركية داخل تركيا وخارجها.
ومن الملفت للنظر أيضا، وهي مفارقة نادرة، أن يسمح القدر لصاحب النظرية بتطبيقها بنفسه، وهو ما توفر لداود أوغلو منذ توليه منصب كبير مستشاري رئيس الوزراء عام 2003، وانتهاء بتعيينه وزيرا للخارجية التركية العام الماضي 2009.
والكتاب الذي نعرض له قد صدرت طبعته التركية الأولى عام 2001، وبلغت عدد طبعاته حتى شهرنا الحالي 44 طبعة، منها أربعة عشر طبعة خلال العام الأخير فقط منذ تولية داود أوغلو وزارة الخارجية التركية. ويعد الكتاب مرجعا لكل المشتغلين بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية في تركيا ولاسيما في فترة حكومة العدالة والتنمية.

ويبلغ الكتاب نحو (600) صفحة في طبعته التركية مقسمة إلى ثلاثة أبواب رئيسية تعرض لنظرية العمق الاستراتيجي، والتطبيقات المطروحة لها على الحالة التركية.

يحمل الباب الأول عنوان “الإطار المفاهيمي والتاريخي” ويشتمل على ثلاثة فصول يتناول الأول منها مقاييس القوة والتخطيط الإستراتيجي، وشرحا لمعادلة القوة وعناصرها الثابتة والمتغيرة، والعنصر البشري وتأثيره البالغ في صنع الإستراتيجية، ويقدم الفصل الثاني إعادة تحليل لعناصر القوة التركية، وبيانا لأوجه قصور النظرية الإستراتيجية التركية والنتائج المترتبة عليها، أما الفصل الأخير فيعرض للإرث التاريخي والبنية التحتية للثقافة السياسية التركية، وتطوراتها بعد انتهاء الحرب الباردة.
ووضع أوغلو للباب الثاني عنوان ” الإطار النظري: الإستراتيجية المرحلية والسياسات المرتبطة بالمناطق الجغرافية “، وجعله في أربعة فصول لشرح نظرية العمق الاستراتيجي وعناصرها، مع التركيز على العمق الاستراتيجي التركي في المناطق ذات الارتباطات الجغرافية معها.
وتناول بالدراسة في الفصل الأول النظريات الجيوسياسية والإستراتيجيات العالمية في فترة ما بعد الحرب الباردة، وأهمية استيعاب العامل المكاني، والمحددات الجغرافية في ملأ ساحات الفراغ الجيوسياسي. وفي الفصول الثلاثة الأخرى حلل الضرورات التاريخية وعناصر الاستراتيجيات البرية والبحرية بالنسبة لتركيا فيما يتعلق بالمناطق البرية القريبة: البلقان و الشرق الأوسط والقوقاز، والأحواض البحرية القريبة: البحر الأسود، وشرق المتوسط، والخليج، وبحر قزوين، والمناطق القارّية القريبة: أوروبا، وشمال أفريقيا، وجنوب آسيا، ووسط و شرق آسيا. كما تناول أيضا الفصل الأخير من هذا الباب العناصر التركية الأساسية المحددة لعمق تركيا الأسيوي، والأفريقي.

وأما الباب الأخير فيمثل القسم الأكبر من الكتاب، ويشتمل على الوسائل الاستراتيجية والسياسات الإقليمية التي رأى أوغلو أنها ستحقق لتركيا مكانتها المرموقة في الساحة الدولية. ويضم هذا الباب خمسة فصول على النحو التالي:

الفصل الأول: الارتباطات الإستراتيجية لتركيا وأدوات سياستها الخارجية
أولاً: تركيا والمحور الأطلسي في إطار المهمة الجديدة لحلف شمال الأطلسي
ثانياً: منظمة الأمن والتعاون الأوروبي
ثالثاً: منظمة المؤتمر الإسلامي: خط التأثير الجيوسياسي والجيوثقافي بين إفريقيا وآسيا
رابعاً: منظمة التعاون الاقتصادي: العمق الآسيوي
خامساً: منظمة التعاون الاقتصادي لحوض البحر الأسود: مناطق الإستب والبحر الأسود
سادساً: مجموعة الدول النامية الثمانية والعلاقات الآسيوية الأفريقية
سابعاً: الاقتصاد السياسي الدولي ومجموعة الدول العشرين (G-20)
الفصل الثاني: التحول الاستراتيجي والبلقان
أولاً: البلقان و التناقضات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة
ثانياً: التوازنات الداخلية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة
ثالثاً: أزمة البوسنة واتفاقية “دايتون”
رابعاً: تدخل حلف شمال الأطلسي ومستقبل كوسوفو
خامساً: أسس السياسة التركية تجاه البلقان
الفصل الثالث: الشرق الأوسط: مفتاح التوازنات الاقتصادية السياسية والإستراتيجية
أولاً: العوامل المؤثرة على الوضع الدولي للشرق الأوسط
ثانياً: الشرق الأوسط و القوى العالمية
ثالثاً: الشرق الأوسط و قضية التوازنات الداخلية
رابعاً: تركيا و الديناميات الأساسية في سياسة الشرق الأوسط
الفصل الرابع: سياسة آسيا الوسطى في ظل توازن القوى الأور- آسيوية
أولاً: العوامل المؤثرة على الوضع الدولي لآسيا الوسطى
ثانياً: مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي والتحول في آسيا الوسطى
ثالثاً: آسيا الوسطى و توازن القوى الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة
رابعاً: السياسة الخارجية التركية واستراتيجية آسيا الوسطى
الفصل الخامس: الاتحاد الأوروبي : تحليل لعلاقة متعددة الأبعاد والمستويات
أولاً: مستوى العلاقات الدبلوماسية السياسية
ثانياً: مستوى التحليل الاقتصادي الاجتماعي
ثالثاً: مستوى التحليل القانوني
رايعاً: مستوى التحليل الاستراتيجي
خامساً: مستوى التحول الحضاري و الثقافي
سادساً: علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي بين شقي رحى الانعكاسات التاريخية

ومن الملاحظ أن الفصل الثالث الذي يتناول الشرق الأوسط يمثل قسما كبيرا يقترب من ربع حجم الكتاب بأكمله، وهو ما يعطي إشارة إلى الأهمية التي يوليها أوغلو للشرق الأوسط من جانب، وإلى مدى الدقة التي تناول بها قضايا الشرق الأوسط كل على حدة من زاوية إبراز ماهية الدور الذي يمكن لتركيا أن تضطلع به في منطقة الشرق الأوسط على نحو يعزز من مكانتها الدولية، مستفيدة من عمقها التاريخي والجغرافي والثقافي مع دول الشرق الأوسط.

وفي هذا الفصل يُقَيم أوغلو السياسة التركية تجاه الشرق الأوسط بقوله: ” لقد فقدت تركيا الأحزمة الاستراتيجية الأكثر قوة في منطقة الشرق الأوسط في الربع الأول من القرن العشرين وعاشت بعيدة عن المنطقة بشكل عام في ربعيه الثاني والثالث، وطورت سلسلة علاقات متأرجحة بين صعود وهبوط مع دول المنطقة خلال الربع الأخير من القرن نفسه، وهي اليوم مضطرة لأن تعيد تقييم علاقاتها مع المنطقة من جديد بشكل جذري.”

ويحمل أوغلو رؤية جديدة تدعو تركيا إلى أن تقيم علاقاتها وتجربتها المتراكمة بطريقة بعيدة عن الهواجس الأيديولوجية لتحدد بعقلانية العناصر الأساسية في علاقتها مع العالم الإسلامي. ويقول بأن ” تركيا اليوم ليست الدولة العثمانية التي تحمل على عاتقها مسؤولية العالم الإسلامي كله، كما أنها ليست في مواجهة تصفية حسابات مع القوى العظمى نتيجة ارتباطاتها بعلاقات مع المجتمعات الإسلامية. ولذلك فإن ردود الأفعال ذات البعد النفسي لن تتوقف عند التأثير على علاقات تركيا مع العالم الإسلامي بشكل سلبي فحسب، بل ستتعدى كذلك إلى تضييق ساحة مناورة تركيا الدبلوماسية في العمق الآسيوي والإفريقي كذلك.”

وفي هذا الإطار، يؤكد أوغلو على ضرورة أن تعنى تركيا ” أولا وقبل أي شيء، بتطوير وجهة نظرها على نحو يجعلها قادرة على التحسس المستمر لنبض العالم العربي، وتلمس إيقاع التغير الاجتماعي، والثقافي، والسياسي الذي يجري داخل مجتمعاته؛ وذلك باعتبار هذه الخطوة مرحلة إعداد أولي للدبلوماسية التركية.”

وبالنسبة لمشكلة الأكراد داخل منطقة الشرق الأوسط بشكل عام وداخل تركيا خاصة، يطرح أوغلو رؤية مفادها أن التوصل إلى حل دائم للمشكلة، مرهون بمدى القدرة على إعادة تقييم الأبعاد الثقافية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية للمشكلة على نحو متكامل. ويرى أن ثمة مبدءان رئيسيان ينبغي لمقترحات الحل الثقافي والاقتصادي والسياسي الاعتماد عليها وهما:
1- تقوية مشاعر المرجعية الاجتماعية باعتبارها كلا لا يتجزأ، ودعم العناصر التاريخية والدينية الثقافية والجغرافية التي تؤكد هذه المشاعر.
2- ضمان الوعي بحق المساواة للمواطنين باعتباره أساس للشرعية السياسية، دون الشعور بالحاجة إلى تدخل أي قوى خارجية.


ويرى أوغلو أن العاملين الجغرافي والتاريخي عنصران أساسيان في تحقيق التوازن للجيوسياسية الشرق أوسطية من خلال إحداث التوازن للمثلث الإستراتيجي الحساس الذي يقع في أطرافه الثلاثة كل من: مصر وتركيا وإيران. وأن التوازنات الخارجية لهذا المثلث تشكل شبكة من العلاقات المتداخلة مع مثلث (العراق – سوريا – السعودية)، وأن على تركيا وهي تحلل التحالفات القائمةفي الشرق الأوسط وتوازناتها المقابلة أن تنظر بعين الاعتبار أيضا إلى مثلث أصغر ظل مهملا في هذه التوازنات، وهو مثلث (الأردن – فلسطين – لبنان، بالإضافة إلى شمال العراق مؤخرا) ذلك المثلث الذي يرتبط بعلاقة مجابهة مباشرة بإسرائيلوالذي تتحدد توازناته من قبل العلاقات داخل المثلثات الخارجية.

وفيما يخص القضية الفلسطينية يرى أوغلو أن ” تركيا يمكن لها أن تضطلع بدور دبلوماسي فعال بما تملكه من وضعية متميزة؛ حيث أنها دولة مسلمة غير عربية، وهي أيضا دولة في المنطقة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وهي أيضا عضو في حلف الناتو تتمتع بعلاقات إستراتيجية قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية. فإن حجم العلاقات التي يمكن لتركيا تفعيلها في هذا الإطار مع منظمة المؤتمر الإسلامي، ومع الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، إضافة إلى ما تمتلكه تركيا من تراث تاريخي لمدينة القدس ووثائقها الأرشيفية، لهما كفيلان بإكساب تركيا وضعية دبلوماسية مهمة.”

أما عن العلاقات التركية الإسرائيلية، فيرى أن هذه العلاقة لم تحقق لدولة مثل تركيا، وهي من أقوى الدول ذات العمق التاريخي والجغرافي في المنطقة، دورًا فعالا في عملية السلام بالشرق الأوسط، وجعلتها تبدو وكأنها عنصرا مهملا مهمشا في هذه العملية. بينما ينظر أوغلو إلى العلاقات التركية الإيرانية باعتبارها علاقات استوجبتها البنية الجيوسياسية متعددة الاتجاهات لدى كلا الدولتين، وأن ثمة ثلاثة أجنحة على الأقل تربط بين هاتين الدولتين هي: الشرق الأوسط، والقوقاز، وآسيا الوسطى؛ إذ إن موقع الدولتين في غرب آسيا يفترض على كل منهما تطوير سياسات تراعي فيها كل دولة منهما الأخرى في السياسات المعنية بهذه المناطق، وفي ساحات التأثير المتبادل بين هذه المناطق.

وبإيجاز فإن أوغلو يبلور رؤيته في الاستراتيجية التركية تجاه الشرق الأوسط في عدة عناصر تمثل الحد الأدنى اللازم توفره من أجل نجاح تركيا في في انتهاج إستراتيجية سليمة تحيط بالشرق الأوسط من الناحيتين الجيوثقافية والجيواقتصادية، وتبني سياسة خارجية مرنة تحقق التنسيق بين التكتيكات الدبلوماسية والعسكرية، والتحلي بمهارة مرحلية واعية وقادرة على تقييم تأثير المنطقة في السياسات العالمية. ويمكن إيجاز هذه العناصر الرئيسية فيما يلي:

1- تجاوز العوائق السيكولوجية التي أثرت سلبا على الانفتاح الدبلوماسي نحو المنطقة.
2- إقامة أبنية مؤسسية، وتطوير الموجود منها مثل المراكز البحثية والمعاهد الأكاديمية لتتابع التطورات الإقليمية عن كثب وتقييمها، وتوفير تصورات وسيناريوهات متعمقة.
3- إقامة علاقة سليمة بين التوازنات الدولية وبين السياسة الواقعية الإقليمية.
4- طرح مشروعات شاملة للمنطقة بأسرها.
5- المبادرة بتشكيل مجالات المصالح المشتركة التي تعزز السلام في المنطقة.
6- الحيلولة دون تشكل تكتلات قومية مضادة تمثل ساحات أخطار جيوسياسية وجيوثقافية ضد السلام في المنطقة.
7- الحد من إثارة ردود الأفعال من خلال تنويع العلاقات الثنائية.
8- تبني مقاربة عالية التأثير والفاعلية والمبادرة في كل مجالات المشكلات الإقليمية وفي مقدمتها عملية السلام في الشرق الأوسط.
9- تكثيف الاتصالات والعلاقات الأفقية التي تعزز من صورة تركيا في المنطقة.

وفي النهاية يمكن القول أن رؤية أوغلو لسياسة تركية تجاه الشرق الأوسط قد ارتكزت على ما تتمتع به تركيا من عمق استراتيجي داخل المناطق العربية والإسلامية في الشرق الأوسط من جهة، وعلى الأوضاع الجيواستراتيجية والجيواقتصادية الراهنة بالمنطقة.

ويؤكد أوغلو على جوهر رؤيته بقوله: ” ولأن تركيا هي الوريث التاريخي لآخر كيان جامع جيوسياسيا، وجيوثقافيا، وجيواقتصاديا في المنطقة؛ فهي مضطرة إلى اعتماد مقاربة إستراتيجية تمكنها من تجاوز هذه التمزقات الجيوسياسية، والجيوثقافية، والجيواقتصادية، وتمكنها كذلك من الإحاطة بالمنطقة بوصفها كلا متكاملا، ويجب عليها تطبيق هذه المقاربة مرحليا في ظل مرونة تكتيكية. ومثل هذه المقاربة، لن تقتصر على زيادة تأثير تركيا على المنطقة فحسب، بل إنها في الآن ذاته ستمكن تركيا من الاضطلاع بدور لا يمكن لها فيه إغفال أي فاعل داخل التوازنات الدولية والتوازنات الإقليم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد + خمسة =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube