المؤلف :خالص جلبي
تعتبر التوتاليتارية، أو الشمولية، مفهومًا محوريًّا في إدراك وتحليل نموذج سياسي فريد ظهر في عشرينيات القرن الماضي في أوربا. ويحتل المفهوم مكانة ضمن كوكبة أخرى، مثل الأوتوقراطية والتسلطية. وهذا الكتاب هو دراسة مقارنة في تاريخ المفهوم نظريًا واجتماعيًا.
1- ما هي التوتاليتارية؟ ومتى بدأ تداول هذا اللفظ؟
تعتبر التوتاليتارية مفهومًا يستعمل لوصف ثلاثة أنظمة اجتماعية – سياسية مختلفة، تتشابه هذه الأنظمة في إمكانية إطلاق اللفظ عليها، والأنظمة هي: إيطاليا الفاشية أثناء حكم (موسوليني ). وألمانيا النازية تحت حكم (هتلر ). وروسيا في فترة حكم (ستالين ).
وكانت النازية والفاشية من النمط القومي اليميني الذي انتهى بعد الحرب العالمية الثانية، أما النموذج اليساري الذي أنشأه (ستالين ) ، فقد استمر بضع سنوات بعد وفاته؛ قبل أن يخضع للإصلاح والتحوّل.
وأطلق اللفظ أيضا على مجموعة من الدول غير الأوروبِّيَّة ، مثل: الصين في عهد (ماو تسي تونج )، وكوريا الشمالية تحت حكم (كيم إيل سونج ) وخلفائه .
وهنا يطرح السؤال نفسه: متى ظهر هذا اللفظ؟
ظهر هذا اللفظ في عشرينيات القرن الماضي، وهو من بنات أفكار المفكّر الإيطالي الفاشي (جيوفاني جنتيلي ). وقد أعيد سبك وتعريف المصطلح على يد طائفة من المفكرين الليبراليين واليساريين الرافضين لهذا النموذج، وأشهرهم (حنة أرندت ).
كان مفهوم التوتاليتارية عند (جنتلي ) يشكّل نوعًا من تعظيم الذات والميول القومية الإيطالية، معاديًا للنظام الليبرالي الضعيف. أما (أرندت ) فكان المفهوم عندها مرادفًا للشر، والديكتاتورية المدمرة.
2- جنتلي والهيمنة التامة
وكما ذكرنا سابقًا، فإن مصطلح (التوتاليتارية ) ظهر لأول مرة في إيطاليا، وكان غرضه مديح النموذج الفاشي للدولة؛ حيث كان جوهر الفلسفة الفاشية هو الدولة الشاملة، الدولة التي تقف فوق الأمة – أي الشعب والمجتمع – ؛ فهي تستوعب الأفراد، وتسيطر على المجتمع، وتتوسع إلى ما وراء الحدود؛ متجاوزة القواعد والتوازنات الموضوعة من قبل النظام السياسي.
وكان هذا النزوع الشمولي يهدف إلى إزالة الخط التقليدي الفاصل بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، بين الدولة كنظام حكم، وبين الشعب كشعب. فالفاشية تكره الطريقة الليبرالية في الفصل بين السلطات وتوزيعها. فالفاشية تسعى لنظام واحديّ واتحاد كلّي بين الدولة والمؤسسات الاجتماعية المستقلة والمجالات الخاصة.
وفي تصور (جنتلي ) تُخضع الدولة الجميع لها؛ فهي دائما على خلاف مع المجتمع والفرد، وعليها إخضاعهم لها، تحت إرادتها التوحيدية. فالإكراه الذي تمارسه الدولة، في نظر جنتلي، يصبح أوليًا وجوهريًا.
ويتضح لنا التداخل بين مفهومي (جنتلي، وموسوليني ) للدولة؛ فالتشابه يكمن في: أولًا، معاداة الليبرالية من ناحية المؤسسية. ثانيًا: معاداة الماركسية، من ناحية الجماعية والنقابية. فالليبرالية عندهم تُنتج دولة ضعيف، أما الماركسية فتقسّم الأمة إلى طبقات بينها صراعات. وأخيرًا، معاداة باقي الدول وعدم الالتزام بمعايير النظام والقانون الدولي؛ نظرًا لتهديدهم للنزعة التوسعية الإيطالية.
ومن المفارقات العجيبة أنه، رغم التوافق الفاشي والفلسفي في إيطاليا في فترة حكم (موسوليني ) ، إلا أن الدولة التي طبقت النظرية (التوتاليتارية ) بشكل كامل تقريبًا، كانت ألمانيا؛ فالمثال النازي الألماني كان الحالة المثالية التي نظّر إليها (جنتلي ).
فكان النظام الألماني ذا نزعة قومية أحادية عنصرية واضحة، وكان يدعو إلى الإبادات الجماعية لمجموعات اليهود، ويعادي النظم الليبرالية والأفكار الماركسية، ويركز على الدولة باعتبارها التجسيد المثالي لروح الشعب في النظرية (التوتاليتارية ). أما بعد الحرب العالمية الثانية فإن المفهوم بصيغته الإيطالية وتنفيذه الألماني قد اختفى تمامًا، وبدأت خطوات بسط الديمقراطية في الدول التوتاليتارية السابقة. ولكن محاولات بعض الدول تطبيق (التوتاليتارية ) مرة أخرى أعادت اللفظ للساحة مرة أخرى؛ ولكن هذه المرة كان مفهومه يوحي بالشر، على يدي (حنة أرندت ) والمفكّر الليبرالي (كارل فريدريش ) اللذين أحدثا انقلابًا نظريًا للمفهوم