المؤلف: والتر لاكور، في كتابه “البوتينية” يحاول المؤرخ لامريكي المخضرم والتر لاكيور -الذي أرخ لأهم الأحداث السياسية في الاتحاد السوفياتي قبل انهياره، واستشرف الكثير من الأحداث التي ضربت بالاتحاد وفرطت عقده- التقليل من احتمالية العودة إلى فترة الحرب الباردة وصراع العملاقين. ويشير لاكيور في البوتينية إلى الأعمدة الثلاثة التي يجتمع عليها الحس الشعبي الروسي وتدور حولها الوحدة المجتمعية في البلاد وهي: الاعتقاد الراسخ والعميق بالكنيسة الأرثوذكسية، والحس القوي بالانتماء “الأوراسي” الذي يعتبره الروس قدرا يؤمنون به، والعامود الثالث هو الخوف والتحفز في مواجهة العدو الخارجي. ويفيد الكاتب بأنه من منظور هذه الثوابت الثلاثة الراسخة يبدو الروس اليوم وكأنهم يحملون قواسم مشتركة مع نطرائهم في العام 1904، كما أن بوتين يبدو من المنطلق نفسه خادما لشعبه أكثر من أي يوم مضى. ما هي البوتينية؟ يفيد لاكيور بأن مصطلح البوتينية يعكس مفهوم النظام الاستبدادي الذي يمثل مصالح مجموعات بعينها في المجتمع الروسي. وهذا النظام يقوم على آليات السلطة الرأسية وهو ما يعني ببساطة مجموعة من الأوامر المطلقة تنطلق من الأعلى نحو الأسفل. فروسيا تعرف عن نفسها بأنها “ديمقراطية سيادية” مع التأكيد على السيادة ووضع العديد من الخطوط تحت الكلمة، وهذا يعني على أقرب تقدير أن روسيا ليست مستعدة بأي حال من الأحوال لنهج نموذج الديمقراطية الغربية بكل تداعياتها، وأنها لن تكون قريبة منها أو شبيهة بها يوما. “يخلص وولتر لاكيور في نهاية المطاف في قراءته لعقيدة القيصر الجديد -فلاديمر بوتين- إلى أنه ليس من المحتمل أن نرى تقاربا جديا بين روسيا وأميركا على المدى القريب، بل إن العلاقات لن تكون ودية أو سلسلة بينهما في أغلب الأحيان” ويتابع لاكيور أن معظم الروس يعتقدون اعتقادا جازما أن نموذج الديمقراطية الغربية لا يتفق بالمطلق مع قيمهم وتقاليدهم المتوارثة. والأنكى من كل هذا ما يراه الروس بعين الجدية أن الممارسات الديمقراطية تجلت في ما حدث في بلادهم بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي وقبيل صعود نجم بوتين، وبذلك هم يقرنون الممارسة الديمقراطية بالفوضى والانحطاط الثقافي، وبالنتيجة هم مستعدون للتضحية بالحريات والديمقراطية من أجل سيادة النظام وتثبيت الاستقرار. وهكذا يرى الروس أن النأي عن مظاهر وتطبيقات الديمقراطية، كما رسم الغرب خطوطها العريضة وعاش فصولها، إنما هو حفاظ وحماية للبنية الاجتماعية والموروث التاريخي للشعب الروسي الذي يعتز به الروس أيما اعتزاز ويقدمونه على نظام سياسي منفتح على الاحتمالات والتقلبات التي تحملها رياح الممارسات الحرة. نوستالجيا القوة يمضي الكاتب في قراءة إستراتيجيات حكم بوتين وما اتسم به من مسحة النوستالجيا (الحنين للماضي) إلى الحقبة الزمنية التي سادت فيها روسيا كقوة عظمى في العالم. وهذا الإحساس العميق بالحنين إلى روسيا المتفوقة والقوية كان دائما ما يميز رؤية بوتين من خلال دفاعه المتواصل عن القيم الروسية والرموز التقليدية وحمايتها من هجمة الثقافة الغربية والعولمية. وبالمعنى الأدق للكلمة فإن بوتين قد انصرف إلى استرجاع الأيديولوجيات الغابرة وإنعاش الفكر القومي الروسي، هذا مرفقا مع حملات مناهضة للغرب ومعاداة لقيمه. ويشير لاكيور في الفصل الأخير من الكتاب إلى أن معظم القوميين الشوفينيين الروس يعتقدون أن دولتهم وجدت لتكون إمبراطورية تضرب جذورها في التاريخ البعيد. وبالنسبة لهذه الطبقة السياسية والاجتماعية التي تؤمن بالعودة الحتمية للإمبراطورية الروسية تعتبر العديد من المناطق جزءا لا يتجزأ من أرض هذه الإمبراطورية، بل ويرون أن أوكرانيا هي جزء من هذا المفقود الذي يجب استعادته. “البوتينية” كتاب يقرأ ما وراء سطور تجربة بوتين في زعامة روسيا الاتحادية لفترتين رئاسيتين مستمدا استمراره من قوة الدوغما التي يحاول أن يحقق إجماعا شعبيا عليها بهدف دعم سلطته واستمرار طبقته الحاكمة في إعادة إحياء الإمبراطورية “ وفي ضوء هذه الدوغماتية السائدة فإن مناقشة مستقبل روسيا لن تكتمل دون الإدراك أن روسيا تحمل تحت جناحيها مهمة “مسيحية” يجب اتمامها وحمايتها والدفاع عن بقائها. وهذه المهمة ستكون المرجعية والمستند العقائدي لتبرير السياسة الخارجية وسلطة الدولة، بل وتشكل أيضا جامعا قويا يلتف حوله أفراد الشعب بوصفها أيديولوجية تربطهم بقوة بدولتهم وتمنع الخروج عن صراطها. يخلص وولتر لاكيور في نهاية المطاف في قراءته لعقيدة القيصر الجديد -فلاديمر بوتين- إلى أنه ليس من المحتمل أن نرى تقاربا جديا بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة على المدى القريب، بل إن العلاقات لن تكون ودية أو سلسلة بين الدولتين الكبريين في أغلب الأحيان. فبوتين يرى في روسيا النموذج الأخير في العالم الذي يحمل القيم التقليدية ويدافع عنها من غزو الفساد القادم من أميركا والغرب بوجه عام. وهكذا، وبعد مرور ربع قرن على انهيار الاتحاد السوفياتي يبدو أن الصدام بين قيم الغرب وثوابت العقيدة الروسية يعود إلى الواجهة من جديد، أكثر سخونة والتهابا، ولا سيما في مواقع تضارب المصالح في القلب من الشرق الأوسط الذي يصب في غليانه السياسي الزيت على النار المستعرة أصلا. “البوتينية” كتاب يقرأ ما وراء سطور تجربة بوتين في زعامة روسيا الاتحادية لفترتين رئاسيتين مستمدا استمراره من قوة الدوغما التي يحاول أن يحقق إجماعا شعبيا عليها بهدف دعم سلطته واستمرار طبقته الحاكمة في إعادة إحياء الإمبراطورية والتسليم للإمبراطور الجديد بغير منازع أو معترض أو مجادل