خلال التحضير لعقد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 26 مارس/آذار 1979، وقبلها منذ زيارة السادات للقدس مروراً بكامب ديفد في سبتمبر/أيلول 1978، تبلورت ثلاث نقاط أساسية في الموقف الإسرائيلي انعكست بوضوح على نصوص معاهدة السلام.
النقطة الأولى: هي أن انسحاب إسرائيل من سيناء لابد من أن تقابله ضمانات بأن سيناء لن تستخدم بعد ذلك منصة لتهديدها كما حدث عام 1967، وهو افتراض يظهر أن إسرائيل زعمت عام 1967 أنها هاجمت مصر في ذات العام كإجراء من إجراءات الدفاع الشرعي عن النفس، بعد حشد القوات المصرية وإغلاق مضايق تيران وصنافير وسحب القوات الدولية والتحدث بخطاب الحرب ضد إسرائيل.
“
إسرائيل تزعم أنها هاجمت مصر عام 1967 دفاعا عن النفس بعد حشد القوات المصرية وإغلاق مضايق تيران وصنافير وسحب القوات الدولية والتحدث بخطاب الحرب ضدها
“
ولذلك اعتبرت إسرائيل أن الاستيلاء على سيناء هو جائزة المنتصر ولم تعتبرها مطلقاً أراضي محتلة، فإسرائيل هي الضحية وهي التي تضع الضمانات لعدم تكرار العدوان!
النقطة الثانية: هي أن الضمانة الأولى هي نزع سلاح سيناء، لأن إسرائيل لا تطيق أن ترى مرة أخرى جيش مصر على بعد أمتار منها دون عائق، وكان بوسع الجيش لو توفرت النية أن يهاجم إسرائيل داخل حدودها مما يدفع اليهود إلى تفريغ فلسطين وزوال الدولة.
وهكذا أفردت المعاهدة الملحق الأول للترتيبات الأمنية، وأهمها نزع سلاح سيناء وشل قدرة الجيش على الاقتراب من حدود تبعد عن قواته 150 كيلومتراً على الأقل، فتسليح سيناء هو عين الخطر والمحظور في العقيدة الأمنية لإسرائيل.
أما الضمانة الثانية فهي وجود نظام في مصر يعمل على إضعافها، ويضمن عدم مهاجمة إسرائيل له بالاستسلام لكل طلباتها، بل إن نظام مبارك فتح مصر على مصراعيها للموساد ليضمن أن مصر لن تقوم لها قائمة بعد نظامه الذي تأبد ووضعت له كل ضمانات البقاء، ولكن العبور عام 1973 -الذي أسقط خط بارليف- تبعته ثورة 25 يناير التي اقتلعت النظام من جذوره مما أفزع إسرائيل، فأصرت على ضرورة الحفاظ من جانب مصر على معاهدة السلام بهذه الترتيبات، وهي تعلم جيداً أن الضمانة الحقيقية لها ليست نزع سلاح سيناء أو التحكم في سلاح الجيش، بل ولاء مبارك “كنز إسرائيل الإستراتيجي”، على حد تعبير بن أليعازر.
أما الضمانة الثالثة فهي ضمان واشنطن لاستمرار سياسة مصر تجاه إسرائيل، وعبرت عن ذلك بالالتزام بالمعاهدة، وذلك في مذكرة التفاهم بين إسرائيل وواشنطن، وهناك فارق كبير بين استمرار السياسة واستمرار المعاهدة، ذلك أن تغير السياسة هو الأخطر من إنهاء المعاهدة، وتظل المعاهدة هي تعبير جزئي وقانوني عن إرادة الانحناء المصري لإسرائيل.
أما الضمانة الرابعة فهي المعونة الأميركية لمصر التي قدمتها واشنطن تشجيعاً لمصر على استمرار سياستها مع إسرائيل.
النقطة الثالثة: هي استدامة الارتباط المصري الإسرائيلي، وفصم عرى العروبة مع مصر، وهو ما عبرت عنه المعاهدة في المادة السادسة الفقرة الخامسة من أن المعاهدة تسمو على أي التزامات أخرى، وتقصد الالتزامات العربية ضد إسرائيل.
“
تحولت مصر في السنوات الأخيرة من حكم مبارك إلى وسيط بين إسرائيل والفلسطينيين، ثم إلى داعم لإسرائيل والسلطة ضد حماس وغزة بحجج وذرائع مختلفة
“
وقد أكدت واشنطن لمصر أن السلام بين مصر وإسرائيل سوف يكون مقدمة لسلام شامل دائم عادل في المنطقة بأسرها، وأنه لن يتحول إلى سلام ثنائي بين البلدين فقط، في نفس الوقت الذي اتبعت فيه واشنطن سياسة مزدوجة ظاهرها تشجيع العرب على اللحاق بمصر وباطنها حث العرب على الابتعاد عن مركب مصر الغارق، وبذلك تمكنت واشنطن من توريط مصر.
فكلما ابتعد عنها العرب أمعنت مصر السادات في علاقاتها مع إسرائيل، حتى إن السادات صور قطيعة العرب لمصر بأنه لا يهم 18 دولة قاطعته ما دام العالم كله يؤيده، وهو لا يعترف بأن هذا العدد القليل هو أسرته العربية كلها، وفقدانها لا يغنيه عنه كل العالم خاصة واشنطن.
ثم تحولت مصر في عهد مبارك، بعد معركة مع العرب أسفرت عن هزيمة العرب وتسليمهم بخط مصر الخاضع لواشنطن وإسرائيل، فتمكنت إسرائيل بعد سقوط الحائط المصري الممانع من توظيف مصر للتخلل في كل الأقطار العربية، بعضها بشكل مباشر وبعضها الآخر بشكل غير مباشر، حتى عجز العرب عن تجفيف آثار التسلل الإسرائيلي، كلما بالغت إسرائيل في عدوانها على الفلسطينيين، حتى تمكنت إسرائيل من فصم طبقة الحماية العربية للحقوق الفلسطينية.
فانكشفت أعصاب القضية وصار الشقاق بين إخوة القضية أكبر خطر يحيق بها، بل تحول مضمون القضية الفلسطينية في ظل هذا الشقاق، وهو ما فاقم العجز العربي تجاهها.
هكذا ابتعد أمل السلام الشامل الدائم العادل منذ إبرام المعاهدة عام 1979، بينما بقيت مصر بعيدة عن مغامرات إسرائيل، بل تحولت مصر في السنوات الأخيرة من حكم مبارك إلى وسيط بين إسرائيل والفلسطينيين، ثم إلى داعم لإسرائيل والسلطة ضد حماس وغزة بحجج وذرائع مختلفة لا مجال لتفصيلها.
ومعنى ذلك أن إسرائيل تعاقدت مع مصر لهدف أكبر، وهو أن يكون هذا السلام جزءاً من سلام شامل، لكن تحولت العلاقة إلى تحالف ضد المصالح العربية بل والمصالح المصرية ذاتها.
وإذا كانت العقود الثلاثة الأخيرة لم تشهد صراعاً عسكرياً مع مصر فذلك لأن مصر تحالفت مع إسرائيل، كما أنها استكانت تماماً لما تريده وخضعت خضوعاً كاملا لأوامرها، مما أفقد مصر استقلالها، فصار السلام بين مصر وإسرائيل هو تسول مصر بالإذلال الإسرائيلي مقابل عدم احتكاك إسرائيل بها، لأن الحرب عادة هي صراع إرادات، فإذا غلبت إرادة وانسحبت إرادة أخرى، فلا تتوفر شروط نشوب الحرب.
“
الذين يزعمون أن عصر مبارك كان عصر سلام ووئام، لم يدركوا أن فقدان الاستقلال والتغاضي عن المصالح الوطنية كلف الكثير مما سببه فساد نظام مبارك
“
نقول ذلك رداً على من يطلق عليهم في مصر “أبناء مبارك” الذين يزعمون أن عصر مبارك كان عصر سلام ووئام، ولكنهم لم يدركوا أن فقدان الاستقلال والتغاضي عن المصالح الوطنية كلف الكثير مما سببه فساد نظام مبارك، فسقط مئات الآلاف بالأمراض والقهر والحوادث والانتحار، وهي أمور سجلتها دفاتر أحوال مصر في عهد مبارك.
حتى قيل إن ضحايا النظام الخاضع لإسرائيل هي أكثر من ألف مرة مما فقدت مصر في حروب العدوان الإسرائيلي ضدها، إذا استثنينا الآلاف من الأسرى المصريين الذين يفاخر اليهود بأنهم قتلوهم عمداً وسجلوا جرائمهم في فيلم “روح شاكيد”، ومع ذلك كان مبارك يخص بن أليعازر بحبه وقربه منه.
فما الذي يجب على مصر أن تغفله إزاء إسرائيل وقد ضربت بالمعاهدة عرض الحائط، ولا نزال نرى مصر مبارك وكأن الثورة لم تفعل شيئاً، وهذه مغالطة كبرى توشك أن تجعل الشعب في مواجهة إسرائيل والسلطة في مصر معاً.
الجزيرة