جاء اعتقال قادة حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للكرد في تركيا تعبيراعن وصول المسار السياسي لحل القضية الكردية في هذا البلد إلى طريق مسدود،كما جاء في لحظة أمنية خاصة على وقع المواجهات الدموية بين حزب العمالالكردستاني والجيش التركي من جهة، وتحول الصعود الكردي على الحدود مع سورياإلى شأن تركي له علاقة بالأمن الوطني والقومي لتركيا من جهة ثانية. وعليه، فإن الاعتقال لم يكن حدثا غير متوقع، بل كان طبيعيا في سياق تراكمالسلبيات في العلاقة بين حكومة حزب العدالة والتنمية وحزب الشعوب منذالانتخابات البرلمانية التي جرت في حزيران/ يونيو العام الماضي. دلالاتالاعتقال جاء اعتقال قادة حزب الشعوب ونوابه في سياق حملة “التطهير” التيتقوم بها الحكومة التركية عقب الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو/تموزالماضي، وهي حملة طالت حتى الآن عشرات آلاف من العسكريين والموظفين، معظمهممن أنصار جماعة فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بالوقوف وراء الانقلابالفاشل، ومع أن قضية اعتقال نواب حزب الشعوب مختلفة لجهة الأسباب، حيثتتعلق بصلاته بحزب العمال الكردستاني، فإن الصورة العامة التي تتركها عمليةالاعتقال هي انسداد الديمقراطية التركية أمام العقدة الكردية المزمنة منذتأسيس الجمهورية التركية، على شكل أزمة بنية نظام لا يقبل بغير المكونالتركي على مستوى الهوية والدستور. عندما تأسس حزب الشعوب عام 2012، طرحنفسه حزبا جامعا للكرد والترك والعرب والأرمن في عموم تركيا، حزبا فوقالطوائف والمذاهب والقوميات والطبقات والأيديولوجيات، وبفضل هذا الخطاب نجحفي انتخابات يونيو/حزيران العام الماضي في تجاوز العتبة البرلمانية وحصلعلى نحو تسعين مقعدا في البرلمان، كما نجح في الانتخابات المبكرة التي جرتفي أغسطس/آب من نفس العام في تجاوز العتبة البرلمانية مجددا رغم أنه حصلعلى مقاعد أقل (59 مقعدا). لكن المؤسف هنا، أنه بدلا من أن يؤسس هذاالانتصار الانتخابي لحالة من المشاركة في الحياة العامة فإن العلاقة بينهوبين حزب العدالة والتنمية شهدت المزيد من التوتر، وصل إلى حد نشوب أزمةشخصية بين رئيسه صلاح الدين ديمرداش والرئيس رجب طيب أردوغان. وجدتالحكومة التركية في حزب الشعوب جناحا سياسيا لحزب العمال الكردستاني يعملبأوامره، فيما رأى حزب الشعوب أن طموحات أردوغان السلطوية ستدفع بتركيا نحوالتأسيس لدولة الاستبداد والحزب الواحد والحاكم الواحد، وعليه اتسمتالعلاقة بالمزيد من المشكلات بعد أن كان المأمول أن يشكل حزب الشعوب جسراللسلام الكردي التركي. حرب المواقع دفعت بالطرفين إلى اختبار المواقفوالسياسات، فالحكومة طالبت مرارا حزب الشعوب بإدانة عمليات حزب العمالالكردستاني لكن الحزب تجاهل ذلك ووجد نفسه بفعل التطورات الجارية منحازالبنيته الكردية. في المقابل فإن حزب الشعوب طالب مرارا الحكومة باتخاذخطوات عملية لتحقيق السلام والإفراج عن زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان؛ وهو ما زاد من التشنج في ظل غياب الثقة، إلى أن أعلنت الحكومةالتركية أنها غير معنية بتفاهم “دولمه باهجة” للسلام الذي جرى بين حزبالشعوب والحكومة التركية، وقد كان هذا الإعلان بمثابة نقطة النهاية لعمليةالسلام وبداية مرحلة جديدة من العنف الدموي. اتهامات خطيرة شكل رفعالحصانة النيابية في البرلمان عبر تعديل المادة 83 التي كانت تمنح الحصانةللبرلمانيين خلال ولايتهم، المدخل القانوني لاعتقال النواب الكرد من حزبالشعوب، حيث يرى الحزب أن الهدف الأساسي من هذا التعديل كان استهدافه بتهمتتعلق بدعم الإرهاب والاتبارط بحزب العمال الكردستاني والتحريض ضد الدولة،خاصة وأن الحكومة التركية أعدت خلال مرحلة ما قبل رفع الحصانة ملفات العديدمن قادة حزب الشعوب، ولاسيما زعيمه صلاح الدين ديميرداش، الذي أعلن عقبرفع الحصانة أن البرلمانيين من حزبه لن يسلموا أنفسهم طوعا، وبالتالي وفقاللإجراءات القانونية والدستورية لم يبق أمام الحكومة التركية سوى اعتقالهؤلاء النواب تمهيدا لمحاكمتهم وسجنهم أو الإفراج عنهم. الموقف التركيينبع كما يقول رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم من ضرورة أن يدفع نوابحزب الشعوب “ثمن إسهامهم بالإرهاب” وتأكيده مرارا بأن “السياسة لا يمكن أنتكون درعا للإرهاب”. وانطلاقا من هذه الرؤية فإن ملف التحقيق ضد نوابالشعوب يحمل اتهامات خطيرة قد تصل عقوبتها إلى السجن المؤبد كما هو الحالبالنسبة لأوجلان بعد إلغاء عقوبة الإعدام التي صدرت بحقه عقب اعتقاله. ولعل من أهم هذه التهم كما جاء في ملف التحقيق “تأسيس منظمة بهدف الجريمة،العضوية في منظمة إرهابية، إهانة الشعب التركي والجمهورية والبرلمان وجيشالدولة وتشكيلات الأمن، الإساءة إلى رئيس الجمهورية، تحريض الشعب علىالكراهية والعداوة”، وهي تهم أعدت عقب إعلان نواب من حزب الشعوب عن رغبتهمفي حكم ذاتي وإقامة إدارة ذاتية خلال مؤتمر المجتمع الديمقراطي الذي عقد فيشهر يناير/كانون الثاني العام الماضي في مدينة دياربكر. في المحصلة وبغضالنظر عن جدلية هذه التهم يمكن التوقف عند نقطتين: الأولى، أن هناك ثمةعقدة يمكن تسميتها بعقدة القضية الكردية في الديمقراطية التركية، وهي عقدةقديمة تعود إلى الأسس التي قامت عليها الجمهورية التركية عندما أقصت الكردكما الهوية الإسلامية من هوية الدولة، وإذا كان حزب العدالة والتنمية أعادالاعتبار لبعد الهوية فإن العقدة القومية الكردية مازالت قائمة، إذ أكدتتجارب الأحزاب السياسية الكردية التي تشكلت في تركيا طوال العقود الماضيةصعوبة قدرة هذه الأحزاب على تحقيق الحل السياسي للقضية عبر الوسائلالسياسية المتاحة، فقبل حزب الشعوب تشكلت ستة أحزاب سياسية خاضت العملالسياسي وجميعها حظرت لاحقا، ولعل هذا المصير بات يهدد حزب الشعوبالديمقراطي نفسه، خاصة إذا وجه القضاء اتهامات لقادة الحزب بالتورط في “الإرهاب”. 2- صعوبة في قدرة الحركة الكردية على الفصل بين العمل السياسيوالعسكري، ففي ظل غياب الثقة والتجارب الدموية السابقة يبدو العمل السياسيالكردي مكملا للعمل العسكري، وإذا كان الأول يتطلب المزيد من الترويوالممارسة الدقيقة والتراكمية فإن الثاني له حسابات مختلفة قد تتجاوزالحدود، وفي النهاية فإن وصول المسار السياسي إلى نقطة مسدودة هي مسؤوليةالطرفين على شكل عجز في تحويل الصراع العسكري إلى مسار سياسي يحقق الهويةللكرد والاستقرار لتركيا. مخاطر وتداعيات أدخل اعتقال نواب حزب الشعوبالعلاقة بين تركيا والكرد إلى مرحلة جديدة خاصة بعد إعلان نواب الحزب تعليقنشاطهم في البرلمان، واستمرار حملة الاعتقالات التي قد تطال معظم نوابالحزب، لاسيما وأن نحو 50 نائبا من نوابه الـ59 رفعت ضدهم دعاوى وأعدت لهمملفات، معظمها لها صلة بعلاقاتهم مع حزب العمال الكردستاني ودعم الإرهابوالتحريض، أي أن معظم التهم هي سياسية وليست جنائية أو أخلاقية (الفساد)كما هو حال التهم الموجهة لنواب من أحزاب الشعب الجمهوري والحركة القوميةوحزب العدالة والتنمية، ولعل مثل هذا المسار يفتح الباب أمام تداعيات خطيرةفي اتجاهين. الأول: على مستوى الداخل يرشح الوضع إلى المزيد من الشقاقالكردي التركي، وبالتالي المزيد من العنف الدموي لا سيما في ظل احتدامالمواجهات بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني الذي تقول تركيا إنهبات يتلقى كميات كبيرة من الأسلحة، وبغض النظر عن خسائر هذه المواجهةوصعوبة انتصار الحل العسكري، فإن ما يجري يضع تركيا في دائرة نار داخليةستؤثر على استقرار البلاد ونمو اقتصادها وبنيتها التحتية والاجتماعية بعدسنوات من الأمل بحل سياسي لهذه القضية. الثاني: من شأن استمرار حملةالاعتقالات وانطلاق احتجاجات منددة بها من قبل الجاليات الكردية في الخارجولاسيما في أوروبا، توسيع الإدانات ضد للحكومة التركية وبالتالي المزيد منالتوتر معها مقابل حالة تعاطف مع القضية الكردية، بوصفها قضية شعب يتعرضللإقصاء. أمام هذه التداعيات المتوقعة، فإن النتائج السياسية المنتظرة مناعتقال قادة حزب الشعوب تنصب نحو انكفاء الحزب عن المشاركة في مؤسساتالدولة وربما التوجه نحو الصدام وهو ما يمهد لحظره لاسيما إذا ثبتتالاتهامات الموجهة لقياداته بدعم “الإرهاب”. أما على صعيد حزب العدالةوالتنمية فسيكون الرابح الأكبر برلمانيا وسياسيا من وراء ذلك، إذ أن الحزبسيملأ الشغور الذي سيتركه نواب حزب الشعوب، ولعل من شأن هذه الخطوة تأمينالنصاب القانوني الذي يمكن حزب العدالة من تمرير القوانين سواء من داخلالبرلمان بالتحالف مع حزب الحركة القومية أو بالدعوة إلى استفتاء شعبي مندون هذا التحالف، وهو ما يعني أن عملية الانتقال من النظام البرلماني إلىالرئاسي أصبحت مضمونة ومن دون عقبات. دون شك، فإن وصول الأمور إلى هذهالنقطة المسدودة في مسيرة حزب الشعوب الديمقراطي يطرح أسئلة كثيرة عن أفقالعمل السياسي الكردي في تركيا من قبيل هل تسمح البنية السياسية التركيةبوجود قوى كردية تعبر عن الهوية الكردية سياسيا في هوية تركيا؟ وما مدىقبول هذه البنية بالهوية الكردية؟ إنها أسئلة الديمقراطية التركية التيسرعان ما تتبخر عند العقدة الكردية التي تتصاعد في كل الاتجاهات وتظهركأكبر تحد في وجه تركيا في المرحلة المقبلة.
الجزيرة