https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

منى مصطفى محمد

 

“يتحكم الأمن في مستقبل آسيا” .. تلخص هذه العبارة واحداً من أهم مشروطيات تحقق نبوءات “القرن الآسيوي” التي تفترض انحسار الحضارة الغربية الأنجلوسكسونية في الأمد المنظور، وصعود قوى بديلة آسيوية بمنظومة قيم مغايرة إلى صدارة النظام العالمي، فعلى الرغم من امتلاك القوى الرئيسية بالقارة القدرات والإمكانات التي تكفل لها تحدي الوضع الراهن في النظام الدولي، فإن انخراطها في صراعات إقليمية واستقطاب ممتد، يكبح قدرتها أو يؤخر – في أحسن التقديرات – قدرتها على المنافسة على صدارة النظام العالمي.

 

 

أولاً: علاقة الأمن الإقليمي بالنظام الدولي

 

يُعَد الارتباط بين الأمن الإقليمي وتحولات بنية النظام الدولي محوراً رئيسياً للجدل في نظريات العلاقات الدولية؛ وذلك على النحو التالي:

 

1– نظريات “انتقال القوة”: تفترض نظريات “انتقال القوة” (Power Transition) – التي تتصدرها رؤى “أورجانسكي” (A.F.K. Organski) – أن صعود قوة جديدة في النظام الدولي، عادةً ما يؤدي إلى الصدام بين القوة المتحدية الصاعدة (Challenger) والقوة المهيمنة التقليدية (Hegemon)، وهو ما يدفع نحو الحرب؛ لأسباب عديدة، من بينها استباق التغيير في النظام الدولي، أو سوء التقدير للقدرات والنوايا.

 

وتفترض الواقعية الجديدة أن الاضطراب في النظام الدولي يرتبط بالتغير في توزيع القوة. وفي هذا الصدد، يُعد وجود دول قوية غير راضية عن الوضع الراهن (Status Qou) للنظام الدولي – وفقاً لأورجانسكي – تمتلك من القدرات المادية ما يعزز التصورات لدى قيادتها بإمكانية فرض واقع عالمي جديد، في مقابل سعي القوى الكبرى التقليدية إلى منع هذه القوة المتحدية من تغيير توازن القوى؛ يؤدي – وفقاً لروبرت جلبن (Robert Gilpin) – إلى تفجُّر “حروب الهيمنة” (Hegemonic Wars) في النظام الدولي.

 

وفي سياق الأمن الإقليمي، تركز نظريات انتقال القوة على كيفية تأثير صعود القوى الإقليمية على الأمن الدولي. صعود قوة إقليمية جديدة يمكن أن يغير التوازنات الإقليمية، ويؤثر على السياسة العالمية، خصوصاً إذا كانت هذه القوة تسعى إلى تحدي النظام القائم أو تعديل قواعده.

 

2– نموذج “الدولة الحضارية”: يركز “كريستوفر كوكر” (Christopher Coker) على نموذج “الدولة الحضارية” (Civilizational State) الذي يعتبره سائداً في كلٍّ من الصين وروسيا؛ حيث يرى أنه في مقابل نموذج الدولة القومية، تدعي بعض الدول أنها تمثل حضارات منفصلة؛ ما يدعم سياساتها التوسعية على المستوى الخارجي، ويزيد دافعية عسكرة السياسات الإقليمية، والانخراط النشط في العلاقات الدولية. ويعني ذلك أن العصر الآسيوي قد يحكمه الصراع على قيادة النظام الدولي بين الدول غير الراضية عن الوضع الراهن والراغبة في استعادة الأمجاد الإمبراطورية لإرثها الحضاري.

 

3– حالة “المجمعات الأمنية الإقليمية”: بعيداً عن هذه الرؤى الصدامية، تركز نظريات أخرى على حالة الأمن الإقليمي ذاتها؛ فمثلاً يهتم باري بوذان (Barry Buzan) بما يُطلق عليه “المجمعات الأمنية الإقليمية” (Regional Security Complex) وهي مجموعات من الدول ترتبط أمنياً ببعضها البعض بطرق تجعل أمنها غير قابل للفصل. ويجادل بوذان بأن التهديدات والاضطرابات ضمن هذه المجموعات يمكن أن تؤثر بشكل كبير على النظام الدولي، من خلال إعادة تشكيل التحالفات والسياسات الدفاعية؛ ما يؤدي إلى تغيرات في التوازنات القوى العالمية.

 

ووفقاً لإيمانويل والرشتاين (Immanuel Wallerstein) فإن الأمن العالمي يُمثِّل مركباً تتفاعل خلاله عوامل متعددة، من بينها الأمن الإقليمي والاقتصاد العالمي، بحيث تؤدي تغيرات في البيئة الإقليمية – مثل صعود قوة إقليمية أو الصراعات الداخلية في دولة ما – إلى تأثيرات على بنية النظام العالمي، وتراتبية القوة في إطاره.

 

ولا يقتصر الأمر على الأمن بالمفهوم العسكري، بل يمتد إلى الأمن الاقتصادي كذلك؛ حيث يرى “روبرت جلبن” (Robbert Gilpin) أن التحولات الاقتصادية الكبرى يمكن أن تقود إلى تغييرات في التوازن العالمي للقوة؛ ما يؤدي إلى فترات من الصراع والتحول، بمعنى أن الصعود الاقتصادي لكتلة معينة قد يؤدي إلى تحولات صدامية واضطرابات تؤثر على استقرار النظام العالمي ككل.

 

الفكرة هنا هي أن الارتباط بين الأمن الإقليمي وهيكل النظام الدولي ليس مجرد معادلة ثنائية القطب، وإنما تعد منظومة متكاملة، تتضمن عوامل متعددة وشبكات للتأثير المتبادل تشمل العديد من الفاعلين، سواء الدول أو الفاعلون من غير الدول. والأهم هو “الاعتماد المتبادل المركب” (Complex Interdependence) بين الفاعلين في إطار هذه المنظومة الشبكية، بما يعني أن التهديدات الداخلية في دولة معينة تنتقل عبر الحدود لتؤثر على حالة الأمن الإقليمي ككل، ومن ثم تؤثر على الأمن العالمي.

 

4– مفهوم “شبكة الأمن الإقليمي/العالمي”: يُعَد مفهوم “شبكة الأمن الإقليمي/العالمي” (Regional/Global Security Network) مدخلاً لتفسير الترابط بين التحولات في الأمن الإقليمي والعالمي، التي تجعل الانكشاف الداخلي لدولة في إقليم رئيسي (Vulnerability) تؤثر على المشهد الأمني في الإقليم ككل والنظام الدولي كاملاً بصور تتفاوت في حدتها، وفقاً لدرجة الترابط بين الدولة والنظام الإقليمي والعالمي.

 

ووفقاً لهذه الرؤى النظرية، فإن الصعود الآسيوي في النظام الدولي هو محصلة نهائية لحالة الأمن الإقليمي التي تتصل بصورة وثيقة بالاضطرابات الداخلية والتفاعلات الإقليمية واستدامة النمو الاقتصادي وتأثير القوى الدولية الرئيسية على النظام الإقليمي ومدى فاعلية التعاون والتكامل الإقليمي وترتيبات الأمن الجماعي، وحِدَّة الاستقطاب بين القوى الآسيوية الرئيسية.

 

ثانياً: تبلور مصطلح “الصعود الآسيوي”

 

منذ النشأة، كان مصطلح “الصعود الآسيوي” سياسياً بامتياز، تعبيراً عن رؤى مختلطة بين التبشير بمستقبل “غير غربي” والتحذير من “نهاية الحضارة الغربية” الأنجلوسكسونية؛ ففي منتصف الثمانينيات، ومع ظهور “النمور الآسيوية”، بدأت لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس توظف المصطلح في جلسات استماع، وهو ما تواكب مع ظهوره خلال اجتماع الزعيم الصيني دينج شياو بينج ورئيس الوزراء راجيف غاندي من الهند؛ حينما أشار الزعيم الصيني إلى أن التبشير بأن القرن القادم سيكون قرن آسيا والمحيط الهادئ ليس دقيقاً تماماً.

 

ووفقاً لـ”باراج خانا” (Parag Khanna) في كتابه “المستقبل آسيوياً: النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين” فإن “القرن الأمريكي” بدأ ينحسر فعلياً تاركاً المجال لـ”قرن آسيوي جديد” يقوم على مركزية القوى الصاعدة بالقارة، وفي صدارتها الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، من صياغة قواعد جديدة لنظام عالمي قيد التشكل.

 

وتستند هذه المقولات إلى مؤشرات تجميعية تتعامل مع القارة الضخمة ككتلة واحدة، مثل تفوق القارة في المساحة على جميع قارات العالم بما يقدر بنحو 30 % من إجمالي مساحة اليابسة في كوكب الأرض، وتصدرها من حيث عدد السكان في العالم بإجمالي 4.77 مليار نسمة بما يعادل نحو 60 % من إجمالي سكان العالم. العدد الضخم من السكان يعني سوقاً استهلاكية ضخمة، وقوة عاملة كبيرة.

 

يضاف إلى ما سبق، النمو السريع في الناتج المحلي الإجمالي للقوى الآسيوية الكبرى، مثل الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، واعتبارها “مصنع العالم”، والمركز الرئيسي لعمليات التصنيع والتجارة في العالم، بالإضافة إلى التحضر السريع لدول القارة، والطلب المتزايد على الخدمات والبنية التحتية والاستثمار الضخم في البحث والتطوير والتكنولوجيا المتقدمة.

 

وعلى الرغم من هذه الصورة المشرقة، فإن مصطلح “الصعود الآسيوي” يعبر عن رؤى تتفاوت بين “التفكير بالتمني” و”الفزاعات السياسية”؛ نظراً إلى عدة اعتبارات، أهمها تجاهل التفاوتات الكبيرة داخل القارة نفسها من حيث الاقتصاد، والتنمية، والسياسة. دول مثل اليابان وسنغافورة تتمتع بمستويات عالية من الدخل والتطور التكنولوجي، بينما تواجه دول أخرى مثل أفغانستان وميانمار تحديات تنموية وسياسية جمة.

 

وبينما يركز مصطلح “القرن الآسيوي” على معايير النمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي، فإنه يتجاهل أبعاداً أخرى مثل الاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية وجودة الحياة وما يترتب على النمو الاقتصادي السريع من تكلفة بيئية باهظة.

 

إن آسيا ليست كياناً واحداً؛ فالتوترات الجيوسياسية قد عمَّقت الانقسامات والاستقطاب المحتدم في القارة والتنافس على الموارد، والنفوذ الإقليمي والصراعات الحدودية المتعددة والتحالفات المتعارضة. ومن ثم يصبح الصعود الآسيوي، وفقاً لهذا التيار النقدي، رهناً بالتكامل الإقليمي والتعاون المتعدد الأطراف.

 

وفي المجمل، فإن الرؤية الأقرب إلى التحقق هي صعود بعض القوى الآسيوية، ودفعها باتجاه تغيير النظام الدولي الراهن ليصبح أكثر تمثيلاً لمصالحها وقيمها ورؤيتها لمستقبل العالم، وفي صدارة هذه القوى الصين والهند واليابان، وفقاً للترجيحات السائدة.

 

ثالثاً: تهديدات الأمن الإقليمي في آسيا

 

يعد المشهد الأمني في آسيا نموذجاً على اضطرابات نظام إقليمي يحكمه الاستقطاب المحتدم بين القوى الرئيسية المكونة له، كما أن اتساع القارة الآسيوية يفتح المجال لتفاوتات كبيرة بين الدول في مستويات ومدركات التهديد؛ ما يؤثر على احتمالات حدوث انتقال إقليمي للقوة من الكتلة الأطلسية إلى التكتل الآسيوي. وفي هذه الصدد، تتمثل أبرز تهديدات الأمن الإقليمي الآسيوي في الآتي:

 

1– الانجراف إلى مواجهة أمريكية – صينية: يُعَد هذا الصراع المحرك الأساسي لتحول القوة في النظام الدولي؛ فالتحذيرات من “فخ ثيوسيديدس” (Thucydides Trap) لم تنقطع منذ بداية الصعود الصيني اقتصادياً. والمقصود به تفجُّر صدام عسكري محتمل بين واشنطن وبكين في قلب آسيا؛ ما يؤدي إلى حرب شاملة بين القوتين العُظميَين.

 

وتسعى الولايات المتحدة إلى محاصرة الصعود الصيني من خلال استراتيجية الاحتواء عبر شبكة تحالفات أمنية مع القوى الآسيوية التقليدية، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، ودفع حلفائها من خارج القارة إلى الانخراط في ترتيبات الأمن المضادة للصين، على غرار اتفاقية “أوكوس” (AUKUS) بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا التي تضع الأساس الأمني والعسكري لمواجهة طويلة الأمد مع الصين في “الهندوباسيفيك”.

 

وتعزز الولايات المتحدة أيضاً الشراكات الإقليمية مع دول القارة، مثل الهند وفيتنام والفلبين وتايلاند، لمواجهة التمدد الصيني في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي، وحصار تحركات الأسطول الصيني في الجوار الجغرافي المباشر لعرقلة محاولات السيطرة على المنطقة، من خلال بناء الجزر الصناعية وتعزيز الوجود العسكري في المنطقة.

 

ولا يتوقف الصراع بين الدولتين عند حدود التحالفات والتحركات العسكرية، بل يشمل حرباً تجارية واقتصادية محتدمة، ومحاولات للتدخل في التفاعلات الداخلية، وقيوداً تكنولوجية لمنع حصول الصين على تكنولوجيا متقدمة في مجال أشباه الموصلات، وتهديدات صينية بمنع تصدير “العناصر الأرضية النادرة”.

 

2– توسُّع بؤر الصراعات الإقليمية: تعد القارة الآسيوية على اتساعها ساحة للعديد من بؤر التوترات والصراعات الإقليمية والمحلية، ويتصدرها النزاع الهندي الباكستاني على إقليم كشمير المستمر منذ عقود باعتباره الصراع الإقليمي الأبرز في جنوب آسيا؛ حيث تتكرر الاشتباكات بين الطرفين على طول خط السيطرة من آن إلى آخر، بالإضافة إلى نشاط الفاعلين المسلحين من غير الدول.

 

وعلى مستوى آخر، تشتعل الصراعات الحدودية بين الصين ودول الجوار على مستويين؛ أولهما النزاعات البحرية التي تشمل مواجهات عسكرية متقطعة مع الفلبين في بحر الصين الجنوبي؛ بسبب النزاع على جزر سبراتلي التي تقوم الصين ببناء جزر اصطناعية وقواعد عسكرية بها لإثبات سيادتها عليها، كما تتنازع الصين مع فيتنام وتايوان وماليزيا وبروناي على هذه الجزر ونطاقات السيطرة في بحر الصين الجنوبي.

 

وفي بحر الصين الشرقي، تتنازع الصين واليابان على سينكاكو/دياويو؛ ما يثير توترات متكررة بين البلدين. وقد شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً في الاستفزازات العسكرية والدبلوماسية من الجانبين، مع إصرار كل طرف على أحقيته في السيطرة على الجزر.

 

وعلى المستوى البري، لا يزال النزاع الحدودي بين الهند والصين في منطقة لاداخ يشكل مصدر قلق كبير؛ فقد شهدت المنطقة اشتباكات عنيفة بين القوات الهندية والصينية في يونيو 2020، أسفرت عن سقوط قتلى من الجانبين، وأثارت مخاوف من تصعيد عسكري واسع النطاق؛ حيث تتكرر الاشتباكات بين قوات الطرفين في المنطقة المنزوعة السلاح.

 

وعلى مستوى آخر، تعد كوريا الشمالية مصدراً مباشراً لتهديدات الأمن الإقليمي، في ظل تطويرها المتواصل لبرامج التسلح النووي والصواريخ الباليستية المتوسطة والبعيدة المدى، وعمليات اختبار الصواريخ التي تهدد أمن واستقرار دول الجوار، وفي صدارتها كوريا الجنوبية واليابان، بالإضافة إلى النزاع على المياه الإقليمية واستغلال موارد الثروة السمكية بين الكوريتين.

 

3– ارتدادات الصراعات في الشرق الأوسط: يؤدي الاتصال الجغرافي إلى انتقال تأثيرات الصراعات في الشرق الأوسط إلى آسيا عبر مسارات متعددة، ليس أقلها تأثر إمدادات الطاقة الحيوية من المنطقة إلى آسيا؛ حيث تؤدي تهديدات ميليشيا الحوثيين للملاحة في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، والتهديدات الإيرانية للملاحة في مضيق هرمز، إلى اضطراب تدفقات الطاقة إلى دول آسيا الرئيسية، وخاصةً الصين والهند، وهو ما يمثل تهديداً جيوسياسياً ضاغطاً على هذه الدول، وهو ما يتصل بالحرب الدائرة في قطاع غزة، والصراع الإقليمي بالوكالة المستعر بين إيران وحلفائها الإقليميين في لبنان واليمن والعراق وسوريا وإسرائيل.

 

وقد أظهرت الضربات المتبادلة بين إيران وباكستان، في مطلع عام 2024، مدى هشاشة الأمن على الحدود بين البلدين، وإمكانية تصعيد التوترات بسبب النزاعات العرقية والطائفية في المنطقة؛ فقد استهدفت الضربات الإيرانية ما قالت طهران إنها مقرات لجماعة “جيش العدل” البلوشية المسلحة، بينما ردت باكستان باستهداف ما وصفته بمواقع لـ”جيش تحرير بلوشستان” و”جبهة تحرير بلوشستان” على الأراضي الإيرانية.

 

ينطبق الأمر ذاته على التصعيد بين أفغانستان وباكستان؛ حيث استهدفت القوات الجوية الباكستانية، في منتصف مارس 2024، مناطق تمركز مسلحين تابعين لحركة “تحريك طالبان باكستان” في امتداد للتوترات الحدودية منذ تولي حكومة طالبان السلطة في باكستان عام 2021 التي تتهمها إسلام أباد بإيواء ورعاية الجماعات المسلحة المناهضة لها، وهو ما يتصل بالخلافات حول اللاجئين الأفغان في باكستان الذين يُستخدَمون كورقة ضغط على طالبان.

 

4– معضلة التهديدات الإرهابية والتطرف العنيف: على الرغم من الانتكاسات التي مُنيت بها التنظيمات الإرهابية الكبرى، مثل تنظيمَي القاعدة وداعش في السنوات الأخيرة، لا تزال آسيا تواجه تهديدات متزايدة من الجماعات المتطرفة المحلية والإقليمية؛ ففي أفغانستان، أدى الانسحاب الأمريكي وسيطرة حركة طالبان على الحكم إلى توفير ملاذ آمن للقاعدة وغيرها من الجماعات الإرهابية.

 

وفي جنوب آسيا، تُشكِّل جماعات مثل “تحريك طالبان باكستان” (TTP) وجماعة الدولة الإسلامية–ولاية خراسان (ISKP) تحديات أمنية خطيرة، وخاصةً في ظل قدرتها على استقطاب المقاتلين الأجانب، وشن هجمات إرهابية واسعة النطاق. وقد تصاعدت هجمات “تحريك طالبان” ضد القوات الباكستانية في عام 2023، مع توسع نطاق عملياتها لتشمل المناطق الحضرية الكبرى مثل بيشاور.

 

وتُواجِه دول جنوب شرق آسيا تهديدات من جماعات إرهابية محلية، مثل جماعة أبو سياف في الفلبين، وجماعة أنصار الدولة في إندونيسيا، وهي الجماعات التي تسعى إلى استغلال الاضطرابات السياسية والاجتماعية في المنطقة لتوسيع نفوذها وشن هجمات ضد المصالح الحكومية والأجنبية.

 

5– تصاعد تهديدات الأمن غير التقليدي: يتصدر هذه التهديدات التغير المناخي، وارتفاع مستويات سطح البحر، وتزايد تواتر وشدة الكوارث الطبيعية، وتفاقم مشكلات مثل ندرة المياه وتدهور الأراضي الزراعية. وقد يؤدي ذلك إلى نزوح السكان على نطاق واسع، وتأجيج الصراعات حول الموارد النادرة.

 

ومن أبرز أمثلة تأثير التهديدات البيئية على الأمن الإقليمي، التوترات المتزايدة عقب قرار اليابان تصريف المياه من مفاعل “فوكوشيما” النووي في المحيط الهادئ في أغسطس 2023؛ حيث تصاعدت الاحتجاجات داخل اليابان وفي دول الجوار مثل كوريا الجنوبية؛ لثنيها عن القيام بهذا الإجراء، وانتقدت الصين طوكيو رسمياً باعتبار أنها تهدد السلامة البيئية للجوار الإقليمي.

 

وتشكل الهجمات الإلكترونية والتجسس الصناعي والتدخل في الانتخابات، تحديات متزايدة للأمن السيبراني في آسيا، خاصةً في ظل التنافس التكنولوجي المحتدم بين القوى الكبرى؛ فقد أصبح الفضاء الإلكتروني ساحة جديدة للصراع بين الدول، مع تزايد استخدام أدوات مثل برامج الفدية، وهجمات حجب الخدمة الموزعة (DDoS) والتضليل المعلوماتي لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية.

 

وترعى بعض الحكومات، مثل كوريا الشمالية، عمليات متكاملة للجريمة السيبرانية لأهداف تحقيق مكاسب مالية تُقدَّر بمليارات الدولارات لتمويل برامج التطوير العسكري؛ فنشاط الوحدة 180 للاختراقات السيبرانية في بيونج يانج يكشف عن تفاقم تهديدات الأمن السيبراني المدعوم من الدول.

 

كما أظهرت جائحة كورونا (COVID–19) مدى هشاشة الدول والنظم الصحية في مواجهة الأوبئة العالمية، وضرورة تعزيز التعاون الإقليمي والدولي في مجال الأمن الصحي؛ فقد كشفت الجائحة عن أوجه القصور في أنظمة الإنذار المبكر والاستجابة للطوارئ الصحية، وأبرزت الحاجة إلى زيادة الاستثمار في البنية التحتية الصحية والبحث العلمي وتبادل المعلومات بين الدول.

 

وفي ضوء هذه التهديدات المتعددة والمتداخلة، يبدو المشهد الأمني في آسيا شديد التعقيد والاضطراب، يحكمه التدافع بين الاضطرابات الداخلية والنزاعات الإقليمية وتدخلات القوى الدولية والتهديدات الأمنية الجديدة؛ ما يكبح جماح “الصعود الآسيوي” المفترض، ويعزز الانقسامات عبر القارة والتناحر الإقليمي واستنزاف الموارد المتاحة في أكبر قارة في العالم.

 

رابعاً: التداعيات على “الصعود الآسيوي”

 

إن “معضلة الأمن” (Security Paradox) التي تحكم الأوضاع في القارة الآسيوية، تجعل مقولات “الصعود القاري” غير قابلة للتحقق؛ نتيجةً للصراعات والاستقطاب عبر القارة، والانقسامات التي تشطر القارة بين العديد من مراكز القوى، وتؤدي حالة “اللاأمن” التي تمر بها قارة آسيا إلى العديد من الارتدادات التي تتمثل فيما يلي:

 

1– عرقلة النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة: تستنزف الصراعات والتوترات الإقليمية الموارد المالية والبشرية للدول، وتُضعِف الاستثمارات الأجنبية، وتُعطِّل سلاسل الإمداد والتجارة البينية؛ فعلى سبيل المثال، أدت التوترات المتصاعدة في بحر الصين الجنوبي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي في دول جنوب شرق آسيا، مع تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتعطُّل حركة الشحن البحري في المنطقة، التي تعد شرياناً حيوياً للتجارة العالمية.

 

كما أن تصاعد المنافسة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين، يثير مخاوف من تحول المنطقة إلى ساحة للصراع بين القوتين العظميَين؛ ما قد يدفع الدول الآسيوية نحو الانحياز إلى أحد الطرفين على حساب مصالحها الاقتصادية والتنموية.

 

2– تقويض الاستقرار السياسي والاجتماعي: تسهم الصراعات الإقليمية والتهديدات الأمنية في زعزعة الاستقرار السياسي في العديد من الدول الآسيوية؛ ما يُضعِف شرعية الحكومات، ويُغذِّي الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية؛ فقد أدى الانقلاب العسكري في ميانمار، والصراعات الداخلية، على سبيل المثال، إلى موجة من العنف والفوضى، وأثار مخاوف من انهيار الدولة وتفكُّك النسيج الاجتماعي.

 

وفي جنوب آسيا، تهدد التوترات المستمرة بين الهند وباكستان بتأجيج النزعات القومية والطائفية، وإضعاف الجهود الرامية إلى تحقيق المصالحة والتكامل الإقليمي، كما أن تنامي التطرف والإرهاب في دول مثل أفغانستان وبنجلاديش، يُقوِّض الاستقرار السياسي، ويُغذِّي دوامة العنف والتهميش.

 

وفي شرق آسيا، تثير التوترات حول تايوان وشبه الجزيرة الكورية مخاوف من اندلاع صراع مسلح واسع النطاق؛ ما قد يدفع المنطقة إلى حافة الهاوية، ويُقوِّض عقوداً من التقدم الاقتصادي والاجتماعي.

 

3– تنامي سباق التسلح الإقليمي: وفقاً لتقرير التوازن العسكري الصادر في عام 2024، فإن الصين زادت ميزانيتها العسكرية لتصل إلى نحو 219.5 مليار دولار، وكشفت الأخيرة في مارس 2024 عن خطط لزيادة إنفاقها الدفاعي بنسبة 7.2 % ليصل إلى 233 مليار دولار. وتوازى ذلك مع زيادات متتالية في ميزانيات الدفاع التايوانية واليابانية والكورية الجنوبية خلال الفترة نفسها.

 

ووفقاً لتقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، ارتفع الإنفاق العسكري في آسيا والمحيط الهادي بنسبة 47 % بين عامي 2010 و2021، ليصل إلى 586 مليار دولار. وتعد الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية من أكبر الدول الآسيوية إنفاقاً على التسلح؛ حيث تستحوذ هذه الدول الأربع مجتمعةً على ما يقرب من 80 % من إجمالي الإنفاق العسكري في المنطقة. وفي حين أن هذه الزيادة في الإنفاق العسكري تعكس جزئياً مخاوف أمنية مشروعة، فإنها تأتي على حساب تمويل أولويات التنمية الملحة، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية.

 

ويغذي سباق التسلح في آسيا حلقة مفرغة من انعدام الثقة بين الدول، ويدفعها نحو تبني سياسات متشددة ومواقف متصلبة في التعامل مع الخلافات الإقليمية، بدلاً من السعي نحو الحلول السلمية والدبلوماسية.

 

4– إضعاف مبادرات التعاون المتعدد الأطراف: تشكل البيئة الأمنية المضطربة تحدياً كبيراً أمام جهود التكامل الإقليمي والتعاون المتعدد الأطراف في آسيا؛ حيث تُقوِّض الصراعات والتوترات الثقة المتبادلة بين الدول، وتعيق بناء المؤسسات والآليات الإقليمية الفعالة.

 

فعلى الرغم من التقدم الذي أحرزته رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) في تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني، فإن الخلافات الإقليمية، ولا سيما تلك المتعلقة ببحر الصين الجنوبي، تظل عقبة أمام تحقيق التكامل الكامل والتماسك السياسي داخل المنظمة.

 

وفي جنوب آسيا، تُعرِقل الخلافات الثنائية، وخاصةً بين الهند وباكستان، جهود تعزيز التعاون الإقليمي في إطار جمعية جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (سارك)؛ ما يحد قدرة المنظمة على معالجة التحديات الأمنية والاقتصادية المشتركة.

 

كما أن المنافسة الجيوسياسية بين القوى الكبرى في آسيا، وخاصةً بين الولايات المتحدة والصين، تضع ضغوطاً متزايدة على الدول الآسيوية لتبني مواقف متباينة وتحالفات متعارضة؛ ما يُضعِف توافق الآراء الإقليمي، ويُقوِّض جهود التعاون المتعدد الأطراف

 

5– التأثير سلباً على جاذبية الاستثمار: تشكل الاضطرابات الأمنية بيئة طاردة للاستثمارات الأجنبية في آسيا؛ حيث تُفضِّل الشركات المتعددة الجنسيات والمستثمرون الأجانب، الأسواق المستقرة والآمنة التي توفر بيئة مواتية للأعمال، وتقلل المخاطر السياسية والأمنية.

 

ووفقاً لتقرير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، تراجعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى آسيا بنسبة 4 % في عام 2020، لتصل إلى 476 مليار دولار، وهو أدنى مستوى لها منذ عام 2013. ويُعزَى هذا التراجع جزئياً إلى تصاعد التوترات الجيوسياسية، وعدم اليقين السياسي في المنطقة، وتداعيات جائحة كورونا.

 

كما أن التهديدات الأمنية غير التقليدية، مثل الهجمات الإلكترونية والتجسس الصناعي، تثير مخاوف الشركات الأجنبية بشأن سلامة بياناتها وحماية ملكيتها الفكرية؛ ما قد يردعها عن الاستثمار في الأسواق الآسيوية.

 

وتواجه العديد من الدول الآسيوية، مثل الهند وإندونيسيا، تحديات في جذب الاستثمارات الأجنبية بسبب الهواجس الأمنية والمخاطر الجيوسياسية.

 

وفي ضوء هذه التأثيرات المتعددة والمتشابكة، يبدو واضحاً أن الاضطراب الأمني في آسيا ينطوي على تكلفة باهظة؛ ليس فقط من حيث الخسائر، بل أيضاً من حيث الفرص الاقتصادية الضائعة، والتنمية البشرية المتعثرة، والتكامل الإقليمي المتباطئ. وإذا لم تنجح دول المنطقة في احتواء هذه التهديدات والتغلب عليها، فإن الطموحات الآسيوية في قيادة العالم خلال القرن الحادي والعشرين قد تتعثر، بل تتلاشى.

 

في الختام، يتضح أن الاضطرابات الأمنية في آسيا تُشكِّل تهديداً جدياً لمسيرة الصعود الآسيوي وتطلعات المنطقة في لعب دور قيادي على الساحة العالمية؛ فالتكلفة الباهظة للصراعات والتوترات الإقليمية لا تقتصر على الخسائر المباشرة في الأرواح والممتلكات فقط، بل تمتد لتشمل تقويض الجهود الإنمائية، وإعاقة التكامل الاقتصادي، وتثبيط الاستثمارات الأجنبية، وزعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي.

 

ولكي تتمكن آسيا من تجاوز هذه التحديات والانطلاق نحو صدارة النظام العالمي، فإن الأمر يتطلب مشروطيات متعددة؛ فعلى المستوى الوطني، يتعين على الدول الآسيوية تبني استراتيجيات شاملة تركز على معالجة الأسباب الجذرية للصراعات، وتعزيز الحكم الرشيد، وتمكين المجتمعات المحلية، وتسخير الموارد في خدمة التنمية المستدامة.

 

أما على المستوى الإقليمي، فإن تعزيز التعاون والتكامل بين دول المنطقة، يمثل ضرورة حتمية لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة، والاستفادة من الفرص الاقتصادية الواعدة. ويتطلب ذلك تفعيل دور المنظمات الإقليمية، مثل آسيان وسارك، وتطوير آليات فعَّالة لبناء الثقة وتسوية النزاعات، وتنسيق السياسات في مجالات حيوية مثل التجارة، والاستثمار، والطاقة، والبيئة. وعلى المستوى الدولي، فإن وجود سياقات دولية غير معادية للصعود الآسيوي ومُتقبِّلة لفكرة انتقال القوة سلمياً، وتقاسم أعباء مواجهة التهديدات الدولية تعد مشروطية مهمة لحدوث هذا السيناريو المفترض.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة + 5 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube