المؤلفة : كاثرين بيلتون
يكتسب كتاب عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صدَرَ منذ حوالي عامين أهمية خاصة في هذه المرحلة لكونه يلقي المزيد من الضوء على الحرب الروسية ـ الأوكرانية المستمرة ميدانياً وسياسياً، ولكون المعلومات الواردة فيه تشمُل الكثير من التفاصيل الشديدة الأهمية برغم ميل مؤلفته للانحياز غير المتحفظ ضد النظام الروسي الحالي واتهاماتها لبوتين والحلقة التي تدعمه بكونها نسخة ثانية منقحة عن حكم الاستخبارات الذي ساد في روسيا في عهد الحكم السوفييتي للبلد.
مؤلفة الكاتب تعمل مراسلة خاصة لوكالة «رويترز» العالمية وكانت المراسلة السابقة لفترة طويلة للصحيفة البريطانية الاقتصادية «فايننشال تايمز» في موسكو بعدما عملت قبل ذلك في صحف أخرى متخصصة في الشأن الروسي.
وقد رُشحت لجوائز صحافية لتحقيقها هذا الكتاب الذي أصبح أحد أكثر الكتب رواجاً في مجاله السياسي ـ الاقتصادي في لندن (حيث تقيم) وفي دول أخرى في الغرب ولدى جهات مؤيدة للسياسة الغربية في العالم. في تمهيدها للكتاب، ومنذ صفحاته الأولى، يظهر ميلها لرسم صورة عن الرئيس بوتين تتوافق مع الصورة التي يطرحها خصومه من كبار الأوليغارشيين الروس، الذين كدسوا ثرواتهم الضخمة في عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن. وبعض هؤلاء اضطروا للهجرة والعيش في بريطانيا أو فرنسا أو دول المعسكر الغربي الأخرى.
وبين هؤلاء سيرغي بوغاتشيف، الملياردير المصرفي الروسي الذي قابلته بيلتون في أكثر من مناسبة والذي كان يسكن في منزل فخم في منطقة تشلسي في لندن، ثم اضطر إلى الانتقال إلى قصر في جنوب فرنسا بعدما أدرك في عام 2015 بأن الرئيس بوتين يلاحقه. وأهم ما قاله لها آنذاك هو: «لماذا يلاحقني وأنا الذي أوصلته إلى رئاسة الجمهورية بعد يلتسن؟». المجموعة الأوليغارشية الروسية المعارضة لبوتين منهم بوغاتشيف وبوريس بيريزوفسكي (الذي عثر عليه مشنوقاً في منزله في لندن) وميخائيل خودوروكوفسكي (الذي سُجن لفترة في سيبيريا قبل قرار السلطة الروسية الإفراج عنه ونفيه إلى ألمانيا) وبنات يلتسن وأزواجهن بالإضافة إلى المالك السابق لنادي تشلسي لكرة القدم في لندن رومان آبراموفيتش الذي كان شريكاً لبيريزوفسكي في تجارة النفط ومقرباً من عائلة يلتسن ولكنه قرر لاحقاً نقل ولائه إلى بوتين.
ويوضح الكتاب انه في فترة ثمانينيات القرن الماضي وعندما شعرَ أمين عام الحزب الشيوعي السوفييتي السابق يوري اندروبوف (الذي كان قبل قيادته البلد رئيساً لاستخباراتها) بانه على الاتحاد السوفييتي الانفتاح اقتصادياً نحو الغرب لمنافسته بنجاح، بدأت الماكينة السياسية السوفييتية بإنشاء شركات تابعة لها في الغرب تحت ستار شركات تجارية وصناعية مستقلة، ولكنها كانت في الوقت عينه غطاء فعالاً لنقل ثروات النظام وأمواله واستثماراته إلى العالم الغربي، ثم الاستفادة داخلياً عبر هذه العمليات لجهات ظلت مرتبطة بالحزب الشيوعي السوفييتي واستخباراته «KGB».
وكان رئيس الوزراء السوفييتي السابق يفغيني بريماكوف أحد كبار مؤيدي هذه الخطة، علماً ان موقف يوري اندروبوف وبريماكوف شمل أيضاً الانفتاح الإيجابي على العالم العربي اقتصادياً وسياسياً.
أما فلاديمير بوتين فكان (حسب الكاتبة) في البداية لاعباً صغيراً في تلك العملية، إذ انه وبعد انتهاء مهمته في ألمانيا الشرقية كوسيط استخباري بين الـ «كي.جي.بي» (الاستخبارات السوفييتية) والـ «ستازي» (الاستخبارات الألمانية الشرقية) عاد إلى مسقط رأسه ليننغراد حيث عمل في مكتب رئيس بلديتها بعدما سميت بطرسبرغ، ومن هناك تسلق من منصب متواضع إلى مناصب أعلى رتبة بفضل دبلوماسيته وقدرته على التعامل المتوازن مع نظام يلتسن ومع خصومه في الوقت عينه.
تؤكد المؤلفة أن بوتين وبريماكوف تشاركا في تأييد منظمات المقاومة الفلسطينية والعربية فيما كان يلتسن ومجموعته أقرب إلى مواقف الولايات المتحدة وإسرائيل، خصوصاً ان بعض مؤيدي نظامه كانوا من الطائفة اليهودية المؤيدة للانفتاح الكامل على «الديمقراطية الغربية» الأمريكية الطبع والمؤيدة للهجرة السوفييتية اليهودية إلى إسرائيل، وبينهم ميخائيل خودوروكوفسكي الذي أصبح يملك ويدير شركات نفط ضخمة ومصارف صارت تهدد بنفوذها وقدراتها الصندوق الاستعماري المخفّي الذي أنشأه يوري اندروبوف وبريماكوف ومجموعتهما من أنصار «كي.جي.بي» قبل وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عبر شركات روسية مخفية الهوية في الخارج.
أما الأمر الذي أوصل بوتين إلى المناصب الرئيسية (حسب المؤلفة) فكان أن نظام يلتسن (خصوصاً بناته وأزواجهن) كانوا يخشون أن ينتخب بريماكوف بعد يلتسن رئيساً للجمهورية، بعد تنحي يلتسن بسبب المرض والإدمان على الكحول، وان يُستدعى قادة وأركان نظامه البائد إلى المحاكمة ويتم إرسالهم إلى السجن بسبب تجاوزاتهم ومخالفاتهم المالية.
وبالتالي، أعلن يلتسن يوم قراره التنحي عن الرئاسة في نهاية عام 1999 ان مرشحه المفضل لخلافته هو فلاديمير بوتين ظناً منه انه سيحمي العائلة من بريماكوف وأعوانه. بيد أن بوتين (حسب المؤلفة) لعب دور رسول السلام المعتدل بين الطرفين ظاهراً وفي وقت كان فيه أشد صرامة وقساوة من بريماكوف في التعامل مع قادة النظام السابق الذين اعتبرهم قد يشكلون خطراً على قيادته في المستقبل يعني (شلة يلتسن).
وتذكر المؤلفة ان بريماكوف عمل كمراسل لصحيفة «البرافدا» كتغطية لمنصبه في الاستخبارات السوفييتية، وخلال العمل نجح في إنشاء صداقات عربية عديدة مع كبار القادة بينهم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وكان دائماً يؤيد انفتاح روسيا على سوريا والعالم العربي. وتشير بيلتون إلى ان بوتين تأثر بهذه المواقف الإقليمية المتقدمة لبريماكوف وخصوصاً بعدما فاز برئاسة الجمهورية عن طريق الانتخاب للمرة الأولى في ربيع عام ألفين، وحظي بتأييد الحزب الذي يقوده بريماكوف وعمدة موسكو يوري لوجكوف من دون أن يملك خبرة بريماكوف السياسية العارمة. وبالتالي (ترى المؤلفة) ان الانفتاح السوفييتي الحقيقي نحو الغرب «البيريسترويكا» بدأ في عهد يوري اندروبوف وليس ميخائيل غورباتشيف، وان «كي.جي.بي» وقادتها السابقين واللاحقين بعد سقوط الاتحاد السوفييتي كانوا يرون في بوريس يلتسن شخصاً سكيراً منبطحاً أمام الغرب وغير أهلٍ للقيادة، لا هو ولا الشلة المحيطة به وبينها بعض الأوليغارشيين الروس الداعمين للكتاب الذي نراجعه هنا.
وتشير المؤلفة إلى أن موافقة نظام يلتسن وأعوانه على تعيين بوتين رئيساً للاستخبارات الروسية «اف.اس.بي» جرى بعد انفجارات نفذتها جهات تابعة للمعارضة العسكرية الشيشانية للنظام الروسي في مدينة موسكو في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. ولكن المؤلفة تشكك في ان تلك الانفجارات التي أودت بعشرات الضحايا كانت من تنفيذ الشيشانيين وحدهم، وتقول انه بالامكان ان تكون الاستخبارات الروسية نفذتها لتساهم في نجاح بوتين في الوصول إلى رئاسة الجمهورية بعدما عينه يلتسن رئيساً للاستخبارات ثم رئيساً للحكومة. كما انها تقول إنه بعدما أمر بوتين بالقصف الجوي لغروزني (العاصمة الشيشانية) ارتفعت شعبيته للرئاسة من ثلاثين إلى 75 في المئة وصار الشعب الروسي يراه كمنقذ من الإرهاب وكـ»جيمس بوند الروسي» (ص 157 ـ 158). وخصوصاً بعدما كانت القيادة الروسية بنظر شعبها قد فقدت هالتها إثر قصف حلف شمال الأطلسي لكوسوفو في الفترة السابقة من دون أي رد فعل من النظام السابق.
اعتبرت المؤلفة ان بوتين، فضلاً عن انه كان مستعداً لقصف خصومه من الشيشانيين أو غيرهم (كما فعل في أكثر من مناسبة في أماكن مختلفة) فإنه كان أيضاً دبلوماسيا محنكاً باستطاعته اللعب على أكثر من جانب واحد. فقد أقنعَ يلتسن وبناته والحلقة التي تنشط حوله بانه سينقذهم من المحاسبة القانونية من جانب خصومهم. كذلك أقنع بريماكوف وعمدة موسكو يوري لوجكوف انه إلى جانبهم في حماية مصالح مسؤولين كأمثالهم الذين استمروا في الولاء للدولة السوفييتية السابقة العميقة برغم انهم أعلنوا تأييدهم للإصلاحات الإيجابية وللدولة الروسية الجديدة علناً.
وتوضح المؤلفة بأن نظرية بوتين بالنسبة إلى مفهومه للدولة الروسية القوية وردت في مقال نشره في الصحف الروسية، وهي ان روسيا تحت قيادته تعني الدولة القوية أمنياً واقتصادياً، ولكن ليس كما رآها يلتسن وأعوانه، أي في قالب مقتبسٍ كلياً عن النظام الغربي للديمقراطية التي لا تنطبق على روسيا. (ص 169).
وقد أشاد بوتين بتأييد يلتسن له ولاختياره لرئاسة الجمهورية بعد رئاسة الحكومة ولكنه ظل متحفظاً وحذراً حول ما تنتظره الحلقة المؤيدة ليلتسن منه.
انتُخِب بوتين رئيساً في 26 آذار (مارس) 1999 للمرة الأولى بعد حصوله على تأييد معظم فئات الشعب الروسي، وجُدد له في مناسبات تالية بعدما جرى تعديل الدستور من أجل ذلك الهدف.
الفصل الخامس عشر من الكتاب حول علاقة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالرئيس الروسي بوتين وبالنظام الروسي قبل وبعد تسلم ترامب الرئاسة الأمريكية. وهذا الفصل كفصوله السابقة يندد بمواقف بوتين وأعوانه من جهة وبمواقف ترامب من جهة أخرى ويعرض محاولات ترامب خلال رئاسته للتأثير على الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي لإجراء تحقيق حول علاقات الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن ونجله هانتر في عمليات الأخير في بلده، ويحثه على اللقاء مع رئيس بلدية نيويورك السابق رودي جولياني في هذا المجال (محامي ترامب) وذلك خلال حملة ترامب ضد بايدن الرئاسية لعام 2020 قبل إجراء تلك الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي خسرها ترامب أمام بايدن.
وتعتبر المؤلفة ان هذا التدخل من جانب ترامب كان مخالفا للقوانين وللتقاليد الأمريكية وأدى إلى نتائج سلبية بالنسبة لترامب وللعلاقة الأمريكية الأوكرانية والروسية لاحقاً.
كما انها أوردت في مطلع هذا الفصل تفاصيل عن علاقات ترامب بمسؤولين روس مقربين من بوتين حاولوا إغراء ترامب للاستثمار في مشروع بناء «برج ترامبي» عقاري في موسكو على شاكلة أبراج ترامب الأمريكية، على ان يضم طوابق ومساحة خاصة لبوتين، ولكن هذا المشروع فشل بعد محاولات متعددة، كما فشلت محاولات لشركات عقارات في التعامل مع ترامب في الولايات المتحدة كشركة «بايروك غروب» التي دعمت ترامب عندما كان يحاول الخروج من أزمة مالية كادت تؤدي إلى إعلانه إفلاسه. وجرى ذلك عبر ضخ أموال في مصلحته (تقول المؤلفة) انها أتت من الصندوق الاستثماري التابع للاستخبارات الروسية بموافقة الرئيس بوتين.
وتشير أيضاً إلى احتفالات جرت بمناسبة فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية في مجلس النواب الروسي «الدوما» عام 2016 وبأن ترامب أبلغ وزير الخارجية الروسي لافروف بانه لا يكترث لأي اتهامات ضده بان روسيا الرسمية دعمته في الانتخابات الرئاسية لعام 2016 أو بانه يدعم سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم.
وتنتقد المؤلفة الدعم الروسي تحت قيادة بوتين سياسياً وعسكرياً للنظام السوري الذي كلف موسكو أكثر من ثلاثة مليارات دولار، بالإضافة إلى التزام بمليار دولار إضافي في عملية إعادة بناء سوريا وخسارات أخر
عرض: سمير ناصيف