بدأت محكمة “باسماني” بموسكو يوم 28 يوليو 2022 النظر في دعوى قضائية مقدمة من وزارة العدل الروسية بإغلاق وتصفية “الوكالة اليهودية للهجرة في روسيا” لدعم العلاقات مع اليهود في الشتات؛ لأنها خالفت القوانين المعمول بها في البلاد، وهو ما اعترضت عليه إسرائيل ووصفت الدعوى “بالمسيسة” وأكدت أن وقف عمل الوكالة سيكون “كارثة” نظراً إلى الترابط الوثيق بين المجتمع اليهودي الروسي وإسرائيل، بيد أن موسكو أكدت استمرار العمل بالدعوى وتنفيذ قرارات القضاء، وسمحت لوفد قضائي إسرائيلي بالحضور إلى موسكو لبحث الملف. وإذا جرى وقف عمل الوكالة فإن ذلك سيؤدي إلى اتساع الخلافات بين موسكو وتل أبيب بعد تصاعد التوتر بينهما نتيجة الدعم الإسرائيلي لأوكرانيا؛ ما يؤثر سلباً على مستقبل العلاقات الروسية الإسرائيلية.
دوافع روسية
ثمة دوافع رئيسية ترتبط بمساعي موسكو إلى إغلاق “الوكالة اليهودية” داخل روسيا، وتتمثل هذه الدوافع فيما يأتي:
1- تأكيد خرق الوكالة القانون الروسي: بدأت “الوكالة اليهودية” العمل في روسيا منذ عام 1989، وهي منظمة تُعنى بضمان العلاقات بين اليهود حول العالم، وتعمل على تهجير اليهود إلى إسرائيل. وبالرغم من وجود الوكالة داخل روسيا طوال العقود الماضية، فإن الاعتراض الروسي على عملها بدأ منذ عام 2014 عندما سنَّت الحكومة بموسكو قانوناً ينص على “حظر الاحتفاظ بمعلومات يجري جمعها عن مواطنين روس في خوادم إلكترونية موجودة خارج روسيا”، وأكدت موسكو آنذاك أنه “لا داعي لقلق الوكالة اليهودية” واستمر عملها دون اعتراض، ومنذ عام تقريباًأكدت موسكو أن الوكالة تخرق عن عمد القانون الروسي من خلال جمع معلومات عن المواطنين، وأن هناك حاجة إلى التفاهم معها حول طبيعة عملها.
2- وقف هجرة اليهود الروس إلى إسرائيل: تخشى موسكو أن ترتفع معدلات هجرة اليهود الروس إلى إسرائيل، لا سيما من ذوي الكفاءات المتميزة والعلماء وأصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال اليهود الذين يمثلون نسبة كبيرة في المجتمع الروسي ويؤثرون في اقتصاده، وحال هجرتهم إلى تل أبيب بمساعدة “الوكالة اليهودية” فإن ذلك سيؤثر اجتماعياً واقتصادياً على روسيا، خاصةً بعد فرض العقوبات الغربية عليها؛ ففي عام 2021، بحسب تقديرات الوكالة اليهودية، مثل المهاجرون من روسيا 27% من إجمالي اليهود المهاجرين إلى إسرائيل.
3- التأثير على شعبية رئيس الوزراء الإسرائيلي: تولى “يائير لابيد” رئاسة الحكومة الإسرائيلية الحالية، ولا تربطه بموسكو علاقات جيدة، وقد أوضح السفير الروسي بتل أبيب “أناتولي فكتوروف” أن “بوتين غير راضٍ عن تولي “يائير لابيد” رئاسة الحكومة الإسرائيلية، ويَعتبر أن ذلك قد يضر العلاقات الثنائية بين تل أبيب وموسكو”، وهذا يرجع إلى موقف “لابيد” من الحرب بأوكرانيا؛ ففي أبريل الماضي عندما كان وزيراً للخارجية اتهم روسيا بارتكاب “جرائم حرب بأوكرانيا” وباستهداف و”مهاجمة المدنيين عمداً”، ثم بعد توليه منصبه رئيساً للوزراء قدم مساعدات شتى لكييف؛ وهو ما دفع موسكو إلى الاعتراض بصورة متكررة على مواقف “لابيد”.
(Read more) إدارة الازمات: الارهاب نموذجا
وبعد الدعوى القضائية الحالية ضد الوكالة اليهودية في روسيا، انتقد حزب “الليكود” المُعارِض برئاسة “بنيامين نتنياهو” (يوصف بأنه صديق للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”) موقف “لابيد” واتهمه بأنه “يفقد الخبرة ويتجاهل أهمية روسيا بالنسبة إلى إسرائيل اليوم؛ لأنها “الدولة التي تحفظ مصالحنا في سوريا، وهي التي قادت الجهود لإعادة جثامين أسرى ومفقودين إسرائيليين في سوريا، وفتحت أبواب الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، ومن الجنون معاداة روسيا، أو أن نتخذ موقفاً ضدها بأوكرانيا”؛ ولذا فإن تصاعد التوتر بين موسكو وتل أبيب سيؤدي إلى تراجع شعبية “لابيد” في الانتخابات المبكرة بإسرائيل التي من المرجح أن تجرى قبل نهاية العام، وفي الوقت نفسه سترتفع حظوظ “نتنياهو” لتولي الحكومة المقبلة، وهو يتفهم جيداً طبيعة العلاقات الروسية الإسرائيلية.
محفزات التأزم
بالرغم من أن اتهامات مخالفة الوكالة اليهودية للقانون الروسي لاحقت الوكالة لسنوات عديدة، بيد أن تحريك موسكو الدعوى القضائية ضدها الآن يعكس، بشكل أو بآخر، تصاعد عوامل التوتر بينهما؛ نظراً إلى متغيرات جيوسياسية إقليمية متداخلة. وعليه، يمكن القول إن أهم محفزات التوتر بين روسيا وإسرائيل تتمثل فيما يأتي:
1- الاستياء الروسي من الدعم الإسرائيلي لأوكرانيا: اتسم الموقف الإسرائيلي من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا منذ بدايتها في 24 فبراير 2022 بالحياد، وعرضت وساطتها في الأزمة، بيد أن موسكو رفضت ذلك، وبعد شهرين تقريباً بدأت تل أبيب تنحاز إلى موقف كييف وقدمت لها دعماً مادياً ودبلوماسياً ودفاعياً؛ حيث أرسلت إسرائيل أعداداً محدودة من الخوذات إلى القوات الأوكرانية، وسمحت للرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” بإلقاء كلمة أمام مجلس النواب الإسرائيلي الكنيست، واستقبلت تل أبيب مئات من المهاجرين الأوكرانيين؛ ما آثار غضب موسكو التي اتهمت إسرائيل في أوائل مايو الماضي بدعم “النازيين الجدد” في أوكرانيا وإرسال مرتزقة إلى كييف للقتال ضد روسيا، ولم تنف تل أبيب ذلك، ثم اتهمت الأخيرة موسكو “بتسييس” قضية “الوكالة اليهودية” للرد على الموقف الإسرائيلي من الحرب بأوكرانيا؛ ما دفع المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية “ماريا زاخاروفا” إلى نفي ذلك وإلى أن تؤكد يوم 26 يوليو 2022 أن “قضية الوكالة اليهودية قانونية بحتة”، وانتقدت “المواقف غير البناءة لإسرائيل، والسياسة التي تنتهجها في الأشهر الأخيرة، بما في ذلك موقف تل أبيب من الوضع في أوكرانيا”.
2- الدعم الروسي لسوريا: شارك “بوتين” في قمة طهران يومي 19 و20 يوليو 2022، وهي القمة الرئاسية السابعة ضمن “مسار الأستانة” بين رؤساء “روسيا وإيران وتركيا” وتعد زيارته إلى طهران هي الثانية له للخارج منذ بدء العملية العسكرية في أوكرانيا؛ ما يؤكد أهمية القمة له، وصدر عنها بيان ختامي “يدين الهجمات العسكرية الإسرائيلية على سوريا”، لا سيما قصف مطار دمشق، كما أعلن في 26 يوليو 2022 عن تدريبات عسكرية روسية–سورية بطرطوس قريباً من القاعدة البحرية الروسية؛ ما يؤكد الدعم العسكري واللوجستي الروسي لسوريا ضد الهجمات الإسرائيلية المتكررة عليها.
(Read more) الثورة في العالم العربي
وقد تصاعد التوتر بين تل أبيب وموسكو في الملف السوري بعدما كشف وزير الدفاع الإسرائيلي “بيني جانتس” عن اعتراض صواريخ (إس 300) الروسية المضادة للطائرات مقاتلات إسرائيلية خلال تنفيذها هجوماً في سوريا قبل شهرين؛ وهذا للمرة الأولى منذ بدء الاستهداف الإسرائيلي لسوريا؛ حيث كان يتم التنسيق المسبق بين تل أبيب وموسكو قبل تنفيذ أي عمليات إسرائيلية في العمق السوري لتجنب حدوث أي صدامات بين موسكو وتل أبيب.
3- التأييد الروسي للقضية الفلسطينية: يثير الموقف الروسي من القضية الفلسطينية، الذي يقوم على ضرورة التوصل إلى حل الدولتين وأفق إقامة سلام شامل وعادل في المنطقة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، حفيظة تل أبيب. وفي مايو الماضي استضافت موسكو وفداً من حركة “حماس” الفلسطينية. وأشارت موسكو إلى أن “جزءاً كبيراً من المسؤولية عن الوضع الحالي في الأراضي الفلسطينية، يقع على عاتق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، اللذين يتهربان بذريعة الأحداث في أوكرانيا، من المشاركة في أنشطة الرباعية الدولية تضم (روسيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي) لبحث سبل دفع عملية السلام والحوار الفلسطيني الإسرائيلي”. وعليه، يبدو أن موسكو تقدم المزيد من الدعم للقضية الفلسطينية للرد على الموقف الإسرائيلي من كييف.
4- التقارب الأمريكي الإسرائيلي: قام الرئيس الأمريكي “جون بايدن” بزيارة إلى إسرائيل في منتصف يوليو 2022 لمدة يومين، وجدد فيها تأكيد التحالف الاستراتيجي بين البلدين الذي تبلور في “إعلان القدس” وتضمن انتقادات ضمنية لروسيا ونص على أنه “تؤكد الولايات المتحدة وإسرائيل مخاوفهما بشأن الهجمات المستمرة ضد أوكرانيا، والتزامهما بسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها، وتؤكدان أهمية استمرار المساعدة الإنسانية لشعب أوكرانيا”. وأكد “بايدن” “عدم ترك الشرق الأوسط ساحة للنفوذين الروسي والصيني”، كما طلب من “لابيد” تكثيف المساعدات العسكرية الإسرائيلية لأوكرانيا؛ مما يؤدي إلى تصعيد التوترات بين تل أبيب وموسكو، ويصعد حالة الاستقطاب الإقليمي بين كل من واشنطن وموسكو لجذب دول الشرق الأوسط إلى محورها، خاصةً أن تلك الزيارة أعقبتها مباشرة قمة طهران وزيارة “بوتين” إلى إيران؛ ما فُسر بأن إسرائيل تصنف في المحور الأمريكي وتتخلى عن علاقاتها المتميزة بروسيا.
5-الخلافات الروسية الإسرائيلية في ملفات متعددة: تتعدد الملفات التي تشهد تعارض المصالح والرؤى الروسية الإسرائيلية؛ ففي الملف النووي الإيراني تدعم موسكو طهران واستئناف المفاوضات للتوصل إلى اتفاق نووي جديد أو استكمال السابق، بينما ترى تل أبيب ضرورة استخدام الحل العسكري ضد إيران، وهو ما ترفضه موسكو، كما تدعم إسرائيل أذربيجان ضد أرمينيا حليفة موسكو، وزودت باكو بالأسلحة الأكثر تطوراً وحداثة ومنها “قنابل عنقودية” خلال حرب “كاراباخ الثانية” التي انتهت في نوفمبر 2020 بانتصار أذربيجان، كما تتقاطع مصالح موسكو وتل أبيب كثيراً في عدد من دول شرق ووسط أفريقيا حول تصدير الأسلحة واستيراد المواد الخام منها؛ ولذا فإن الخلافات بينهما لا تقتصر على الملف الأوكراني أو العلاقات الثنائية فقط.
(Read more) كتاب ما بعد الشيوخ: الإنهيار المقبل للممالك الخليجية
مسارات مستقبلية
تلقي التوترات الراهنة بين موسكو وتل أبيب بظلال كثيفة على مستقبل العلاقات الروسية الإسرائيلية، وهو المستقبل الذي سيظل محكوماً بثلاثة مسارات رئيسية متمثلة فيما يأتي:
1- احتواء الأزمة المتصاعدة: وظهر ذلك مع سعي الرئيس الإسرائيلي “يتسحاق هرتسوج” إلى احتواء الأزمة بين بلاده وموسكو نظراً إلى علاقاته الجيدة ببوتين، وطلب من أعضاء حكومته (الصمت وتقليل الحديث، والتعاون مع رئيس الوزراء بثقة تامة)، وربما يتم احتواء الأزمة حال تخفيف حدة الخطاب السياسي للحكومة الإسرائيلية الحالية، ثم يتم بحث التوصل إلى حل وسط فيما يخص عمل “الوكالة اليهودية” في روسيا.
2- إدارة الخلافات المتعددة: وهذا المسار يقضي بفتح حوار بين موسكو وتل أبيب لإدارة الخلافات وعوامل توتر العلاقات بينهما، وهو مسار أكثر شمولاً من المسار السابق؛ لأنه لا يقتصر على ملف الوكالة اليهودية، بل يتضمن التعامل مع كافة الملفات الخلافية بين الطرفين. ويكتسب هذا المسار وجاهته من كون قرار وقف عمل الوكالة اليهودية هو نتيجة للتوترات القائمة بين الدولتين، وليس سبباً لها؛ حيث يمكن التوصل إلى تكييف قانوني لوضع الوكالة عبر إلزامها بتطبيق القانون الروسي خلال عملها، وهو ما ألمح إليه المتحدث باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي بمطالبته “بعدم إسقاط الوضع حول عمل الوكالة اليهودية في روسيا على العلاقات بين البلدين”.
3- التصعيد المتبادل: وهذا التصعيد سيتم حال صدور حكم قضائي نهائي بوقف عمل “الوكالة اليهودية” بروسيا، وسيتم التصعيد من الجانبين، وربما تنضم تل أبيب آنذاك إلى منظومة العقوبات الغربية على موسكو وتكثف الدعم العسكري لأوكرانيا وتعزز تحالفها مع واشنطن وتنخرط في مناورات وتدريبات عسكرية مع حلف “الناتو”، بينما يمكن لروسيا الضغط على إسرائيل بعدة ملفات؛ منها تسليم سوريا صواريخ (إس 400) التي تمكنها من صد أي هجوم جوي إسرائيلي، ووقف التنسيق الأمني بين موسكو وتل أبيب في سوريا؛ ما يعرض الجيش الإسرائيلي لخطر المواجهة مع الجيش السوري والميليشيات الإيرانية بالجولان السورية المحتلة، وكذا دعم إيران وتكثيف التعاون العسكري معها، ويمكن لموسكو أيضاً تعطيل الهجرة والسفر إلى إسرائيل؛ حيث شكل السياح الروس نحو 10% من إجمالي السياح لتل أبيب.
خلاصة القول إن الخلاف الروسي الإسرائيلي حول عمل “الوكالة اليهودية”، هو قمة جبل الجليد؛ فخلال السنوات الأخيرة تضاعفت الخلافات بين الطرفين، لا سيما مع تبني موسكو بعض السياسات، سواء في سوريا أو في العلاقات مع إيران، التي نظرت إليها إسرائيل باعتبارها تهديداً لمصالحها وأمنها. وهكذا بات على موسكو وتل أبيب معالجة الخلافات الجذرية بينهما لاحتواء أزمة الوكالة اليهودية في روسيا والحفاظ على مصالحهما المشتركة في الشرق الأوسط