https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

“كان من السهل نسيان الماضي في إندونيسيا”. وردت هذه الكلمات في كتاب باراك أوباما الصادر عام 2006 بعنوان “جرأة الأمل”. عندما كان أوباما في السادسة من عمره انتقل إلى جاكرتا مع والدته التي تزوجت من رجل إندونيسي. وصلوا إلى هناك في عام 1967، بعد فترة وجيزة مما وصفه أوباما بعد ذلك بسنوات طويلة بأنه “تطهير هائل ضد الشيوعيين والمتعاطفين معهم” حينما “ذُبح ما يُقدَّر أعدادهم بين 500 ألف إلى مليون شخص”. أكّدت والدة أوباما بعد ذلك أنهم ما كانوا ليذهبوا إلى هناك أبدا لو أنها علمت بشأن المذابح، وقال زوج أمه، الذي تجنّد في الجيش الإندونيسي، إن “بعض الأمور يكون من الأفضل نسيانها”.

لا يعي سوى قليل من الأميركيين ما حدث في إندونيسيا. تُولي سِيَر تاريخ الحرب الباردة اهتماما سطحيا بهذه الدولة (يُستثنى من هذه القاعدة كتاب قيِّم للمؤرخ النرويجي أود أرن ويستاد “الحرب الباردة: تاريخ العالم”). واليوم في عالم تُعَدُّ فيه آسيا مركزا لسياسياته، فإن ما كان يُتجَاهل باعتباره قشورا خارجية، أصبح هو الآن الجوهر والمركز. لكن معظم الأميركيين غير مهيّئين لفهم المنطقة والدور الذي لعبته بلادهم هناك.

في كتاب
“موسم القتل”
المؤلف : جيفري روبنسون
يروي الكتاب قصة موثوقة ومروعة عن المذابح في إندونيسيا وتداعياتها، يسعى المؤلف جيفري روبنسون لاستدعاء هذه الحلقة المنسية من التاريخ. يُحجِّم روبنسون، غضبه بالدقة العلمية، ويملأ الفجوات التي تواجهه بالاقتباسات الأرشيفية، ونتج عن ذلك لائحة اتهام لاذعة ومُقْنعة بحق الجيش الإندونيسي والقوى الأجنبية -خصوصا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة- التي تواطئت في الوحشية التي ارتكبت.

أصبحت إندونيسيا -رابع دولة في العالم من حيث الكثافة السكانية- خلال الحرب الباردة جائزة لا تُقاوَم في عيون الولايات المتحدة والصين والاتحاد السوفيتي. وبينما كانت هذه القوى تتنافس على النفوذ؛ عمَّقت انقسامات موجودة بالفعل داخل البلاد. فمن ناحية، كان هناك الجيش الإندونيسي الرجعي، بالإضافة إلى الأحزاب القومية والإسلامية التي غالبا ما كانت لديها مليشيات تتبعها. ومن ناحية أخرى، كان هناك كيان عملاق هو الحزب الشيوعي الإندونيسي (بي كيه آي)، الذي يتفاخر بعدد أعضائه البالغ 3.5 ملايين إندونيسي تقريبا، بالإضافة إلى 20 مليون شخص ينتمون إلى منظمات موالية للحزب. كان الحزب الشيوعي الإندونيسي ثالث أكبر حزب شيوعي في العالم، بعد الحزبين الشيوعيين الحاكمين في الصين والاتحاد السوفيتي. وبحلول منتصف الستينيات، خشيت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من أن تتحول إندونيسيا إلى دولة شيوعية.

بدأت المذبحة في الأول من أكتوبر/تشرين الأول عام 1965، حين قتل مجموعة ضباط شباب في الجيش الإندونيسي ستة جنرالات. أعلن قادة الجيش المتبقون، بقيادة اللواء سوهارتو، أن أعمال القتل كانت جزءا من محاولة انقلاب مدعومة شيوعيا، وأطلقوا بعدها ما وصفه روبنسون بأنه “طغيان رهيب من الاحتجاز التعسفي، والاستجواب، والتعذيب، والقتل الجماعي، والنفي السياسي”، وأطلقوا حملة ممنهجة للقضاء على مَن سمّوهم المتعاطفين مع الشيوعية والشيوعيين، وغالبا ما شارك معهم مليشيات يمينية، وفِرَق قتل، ومدنيون مسلحون. كان الانخراط المزعوم مع طرف خاطئ -بصرف النظر عن حقيقة الأمر- مبررا كافيا للاحتجاز أو الإعدام. أُطيح بحكومة الرئيس سوكارنو اليسارية ضمن الهجمة، واستأثر سوهارتو والجنرالات بالسلطة. يُقدِّر روبنسون بتحفُّط أنه بانتهاء الهجمة العسكرية، وبعد ستة أشهر فقط، كان عدد القتلى يُقدَّر بنصف مليون شخص، بالإضافة إلى مليون آخرين إما احتُجزوا تعسفيا، وإما شُحِنوا إلى مستعمرات عقابية ومعسكرات عمل. وخلص روبنسون إلى أن الحملة تُمثِّل “واحدة من أكبر وأسرع عمليات القتل والاحتجاز الجماعية في القرن العشرين، ومع ذلك أقلهم بحثا”.

تبديد الأساطير

بعد عام 1966، حاول نظام سوهارتو، الذي كان يُطلق عليه حينها “النظام الجديد”، تسويق المذابح على أنها انتفاضة شعبية ضد الشيوعيين، وليست اعتداءات عسكرية مُنسَّقة. ادّعى المسؤولون أن العنف كان نتاجا عفويا للنزاع الشيوعي، مؤكدين دور المليشيات وفِرَق الموت المحلية.

هجر روبنسون هذه الأسطورة كليا، وصنَّف، بالاعتماد على المصادر الإندونيسية الأساسية، الأعمال الوحشية بتفاصيلها الشنيعة، وأحبط جهودا رسمية لغسل السمعة استمرت 50 عاما، ليُثبت دور الجيش المحوري في المذابح. هذه الفصول من الصعب تحمُّل قراءتها. يُظهِر روبنسون أن الإبادة التي ارتُكبت بحق البشر، الذين وصفهم أحد ضباط الجيش الإندونيسي بأنهم “أقل من الحيوانات”، لم تكن تفاصيلها عادية أو غير مُشخصنة. كان الناس يُقتلون رميا بالرصاص، أو بقطع الرأس، أو الخنق، أو الضرب حتى الموت، أو إخراج أحشائهم برماح من البامبو، أو تُقطع أجزاء أجسامهم بالسكاكين أو المناجل أو السيوف أو معاول الجليد، وغالبا ما كانت النساء يتعرضن للاغتصاب قبل أن يُقتلن. كان التعذيب أمرا روتينيا، وكان السجانون يضربون المحتجزين بالهراوات أو أسلاك الكهرباء، أو يسحقون أصابع أقدامهم، أو يكسرون أصابع أيديهم، أو يحرقونهم بالسجائر، أو يُعرّضونهم للصدمات الكهربائية. وبعض المحتجزين كانوا يُجبرون على مشاهدة تعذيب أزواجهم أو أطفالهم.

لم تكن الفظائع المُرتكبة في إندونيسيا نتيجة حتمية للاحتقان العِرقي أو النزاعات الاجتماعية الاقتصادية، كما هو الحال في دول شهيرة انتشرت فيها الوحشية الجماعية مثل البوسنة ورواندا وسوريا، وإنما كانت حملة مُنظمة ومُمنهجة نفَّذتها السلطات السياسية. يجادل روبنسون بطريقة مُقنعة بأنه لولا تقديم الجيش الإندونيسي التدريب والتنظيم والتشجيع لما كان تسبَّب أفراد ضيّقو الأفق يملؤهم الحقد في ذلك الدمار واسع النطاق. وعلى الرغم من أن السلطات على مستوى متوسط كان لديها حرية اختيار طرقهم في التعذيب، فإن الأنماط المروعة التي لوحظت على مستوى البلاد تُظهِر مخزونا من العنف المؤسسي، ومن تلك الأنماط التي كانت شائعة: قطع الرؤوس، والإخصاء، والعرض العام لأجزاء من الجسم أو للجثث، وأشكال أخرى معينة من التعذيب. كانت تعمل المليشيات المحلية دائما تقريبا إما تحت إمرة الجيش وإما بمباركته. وأعدَّ الجيش مبررات أيديولوجية لأعمال القتل التي يرتكبها عن طريق تجريد الشيوعيين المتهمين من إنسانيتهم ووصفهم بأنهم “شياطين”، و”عاهرات”، و”إرهابيون”، و”حيوانات”، و”ملحدون”، وهذا الوصف الأخير كانت تُكرِّره المليشيات الإسلامية خصوصا.

صورة ميدان

المسؤولية الغربية

لكن الجيش الإندونيسي لم يكن الطرف الوحيد المسؤول. يُدين كتاب “موسم القتل” القوى الغربية بقسوة، يقول روبنسون في كتابه مجادلا إن “الولايات المتحدة وحلفاءها ساعدوا في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في إندونيسيا وحرّضوا عليها، ومن المحتمل أن تكون الإبادة الجماعية من ضمنها”.

لم يُقدِّم روبنسون دليلا دامغا يدعم هذا الاتهام الخطير، لسبب وحيد هو أن الكتاب يضم اقتباسات قليلة على لسان كبار مسؤولي البيت الأبيض، بينما لا يضم أي اقتباسات من الرئيس ليندون جونسون نفسه. فصمت الرئيس الثرثار كان لافتا للنظر في هذا الكتاب، خصوصا عند مقارنة ذلك بصورة جونسون التي وردت في كتب تاريخية أخرى، مثل كتاب المؤرخ فريدريك لوجفال عن التصعيد الأميركي في فيتنام بعنوان “اختيار الحرب”، الذي ورد فيه دليل دامغ مباشر على ما كان يُفكِّر فيه جونسون. لكن ما كشفه روبنسون كان بغيضا بما فيه الكفاية.

في إبريل/نيسان 1965، كتب السفير الأميركي في جاكرتا إلى جونسون يقول إنه على واشنطن تهيئة “أنسب الظروف” للجيش والقوى الأخرى المعارضة لسوكارنو لتكون لديهم القدرة على المواجهة، ومن غير الواضح كيف ردَّ الرئيس أو هل ردَّ بالأساس. عندما بدأت أعمال القتل أبلغت وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) الرئيس جونسون أنها أيَّدت قمعا واسعا ضد الشيوعيين في إندونيسيا، ويبدو أنه لم يعترض، بحسب روبنسون. وبحلول ذلك الوقت، أعطى مسؤولون بريطانيون وأميركيون، سرًّا، ضمانات لجنرال إندونيسي رفيع بأنهم لن يتدخلوا في الشؤون الداخلية للبلاد. وحتى في الوقت الذي ازدادت فيه الأعمال الوحشية سوءا لم تُبدِ إدارة جونسون أي انتقاد. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1965، قال نائب رئيس البعثة الأميركية في جاكرتا لضابط رفيع المستوى في الجيش الإندونيسي إن إدارة جونسون كانت “متعاطفة ومُقدِّرة عموما لما يقوم به الجيش”. استقبلت إدارة جونسون حملة الجيش بحماسة رغم وحشيتها، إذ قال وكيل وزارة الخارجية جورج بول لنائب الرئيس هوبرت همفري إنه إذا “مُحِيَ الحزب الشيوعي الإندونيسي… فسيكون لدينا عهد جديد في إندونيسيا”.

علاوة على ذلك، فإن فريق جونسون تلاعب بالصحافة في واشنطن، إذ قال بول للصحافي في جريدة “نيويورك تايمز” جيمس ريستون إن الجيش الإندونيسي لديه “القوة الكافية ليمسح الأرض بالحزب الشيوعي الإندونيسي، وإن لم يفعل ذلك فقد لا يجد فرصة أخرى”. كما لا يوجد دليل على أن هذه الأفعال لاقت أية معارضة من قِبَل أطراف أخرى في الإدارة.

محاربون باردون

كانت اتهامات روبنسون دقيقة وترمي إلى ما هو أبعد من الحرب الباردة. لم يجد روبنسون دليلا على أن الولايات المتحدة أو “سي آي إيه” أداروا الانقلاب العسكري أو المذابح، ويُشكِّك في قدرة مركز صغير تابع لـ “سي آي إيه” على إدارة مثل هذا الدمار، كما أنه احترس من تبرئة قيادة الجيش الإندونيسي والقتلة المحليين. علاوة على ذلك، فإن روبنسون انتقد سوكارنو ذا الشخصية الكاريزمية مرارا وغيره من القوميين المسلحين تصعيدهم الخطير للتوترات المحلية. في عام 1959، استنكر سوكارنو الديمقراطية البرلمانية واعتبرها زرعا أجنبيا غريبا على الثقافة الإندونيسية، ووضع نظاما استبداديا قائما على “الديمقراطية المُوجَّهة”. وعلى الرغم من أن البلاد كانت اسميا من دول عدم الانحياز، فإن سوكارنو انحرف ناحية اليسار تحديدا، على غرار ما فعله الزعيم الصيني ماو تسي تونغ وبلاده على شفا الثورة الثقافية، حينما استقطب الثوار من أنحاء آسيا. حشد سوكارنو، من أجل توحيد الجمهور، لسحق دولة ماليزيا الوليدة، التي تكوّنت من مناطق كانت مستعمرات بريطانية سابقة، وهو ما رآه سوكارنو على أنها محاولة للإمبريالية الجديدة لخنق إندونيسيا. وفي خطاب له عام 1965، قال معلنا: “نحن الآن نرعى محورا معاديا للإمبريالية يتكوّن من جاكرتا وبنوم بنه وهانوي وبكين وبيونغ يانغ”.

كما يُشير روبنسون، منتقدا الولايات المتحدة وحلفاءها، إلى أن ما فعلوه كان ردا على مساعدة الاتحاد السوفيتي لسوكارنو، وعلى النفوذ الصيني المتنامي. وساندت الصين تحديدا حملة سوكارنو ضد ماليزيا، وعرضت مساعدته في تطوير أسلحة نووية. كما عرض تشوان لاي، رئيس الوزراء الصيني في عهد ماو، على الحزب الشيوعي الإندونيسي 100 ألف قطعة سلاح خفيف لمساعدته في تكوين مليشيات تتمكّن من تسليح 21 مليون عامل وفلاح تقريبا. وبحسب ما خلصت إليه المؤرخة تاومو تشو، فإنه في عام 1963 عقد رئيس الوزراء الصيني اجتماعا دعا فيه الحزب الشيوعي الإندونيسي والقادة الشيوعيين من جنوب شرق آسيا، وحثهم على “التغلغل في الريف، والاستعداد لنزاع مسلح، وتدشين معسكرات”. يناقش روبنسون أن كل هذا التهديد والوعيد الصيني كان جعجعة بلا طحين، لكنه مدَّ سوكارنو والحزب الشيوعي الإندونيسي بجرأة كبيرة لتحدي الجيش.

ومع ذلك، فإن مشكلة روبنسون الأساسية هي مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحلفائهما، الذين استمروا في الضغط على الجيش الإندونيسي لسحق سوكارنو والشيوعيين لسنوات. وبعد عام 1958، حينما أمدَّ السوفييت إندونيسيا بمعونات عسكرية ضخمة، بدأ المسؤولون الأميركيون ضخ مساعدات أقل إلى الجيش الإندونيسي، الذي وصفته هيئة الأركان المشتركة الأميركية بأنه “القوة الوحيدة غير الشيوعية في إندونيسيا التي لديها القدرة على تقويض تقدُّم الحزب الشيوعي الإندونيسي ومنعه من السيطرة على البلاد”. وبينما كثّفت الصين مساعداتها لسوكارنو، كانت الولايات المتحدة بدأت سرًّا في تمويل المعارضين للشيوعية وتقديم المساعدات لهم، بما فيهم الحزب الإسلامي الذي ظهر أعضاؤه أكثر وحشية خلال أعمال القتل.

والأكثر سوءا أنه حتى بعد بدء أعمال القتل الجماعي، قدّمت الولايات المتحدة الدعم السياسي وكميات معتدلة من المساعدات السرية للجيش الإندونيسي. وبعد انقضاض سوهارتو على السلطة في مارس/آذار 1966، أسهبت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في مساعداتهم بما في ذلك الدعم العسكري

حكم بالتكرار

غالبا ما يتبع الإنكار أعمالا وحشية جماعية، وتعتبر إندونيسيا مثالا كئيبا على ذلك. وقد كرّس نظام سوهارتو نفسه بغير ندم ولا هوادة للقضاء على أي يساريين متبقين، وقمع المقاطعات الخاضعة لسيطرته: آتشيه وتيمور الشرقية وبابوا الغربية. سجنت السلطات في عهد سوهارتو عددا مهولا من السجناء السياسيين، وأضاف “النظام الجديد” مئات الآلاف من القتلى إلى سجلاته.

وحتى بعد استقالة سوهارتو عام 1998 على خلفية التظاهرات الشعبية العارمة والأزمة المالية الآسيوية، استمرت إندونيسيا في دفن ماضيها بالإنكار. وعلى عكس ما حدث في الأرجنتين والبوسنة وألمانيا وجنوب أفريقيا، لم تُجرَ محاكمات على جرائم الحرب، ولم تُشكَّل لجان تقصي حقائق، ولا حتى دُشن نصب تذكاري للقتلى. وعلى الرغم من جهود بعض مثقفي إندونيسيا ونشطائها وصحافييها الشجعان وحديثهم العلني عن المأساة، فإن المذبحة بقيت طيّ النسيان، ويعود السبب جزئيا إلى الحكومات الغربية ذات الضمائر الميتة.

يتهم روبنسون مسؤولين أميركيين، مثل السفير الأميركي في جاكرتا ومدير مركز “سي آي إيه” هناك، بنشر سجلات مُضلِّلة لتبرئة بلادهم وإعفائها من المسؤولية. كما رفضت الحكومة الأميركية أو خبّأت، لعقود متتالية، طلبات برفع السرية عن وثائق ذات صلة بموجب قانون حرية تداول المعلومات. وفي عام 2017، وتحت ضغوط من مؤرخين ونشطاء، وتوم أودال السيناتور الديمقراطي من ولاية نيو مكسيكو، نشرت الحكومة أخيرا سجلات قوامها 30 ألف صفحة تابعة للسفارة الأميركية في جاكرتا في الفترة بين 1964-1968. كانت هذه الوتيرة المتثاقلة في عملية رفع السرية بمنزلة إهانة للضحايا، وحائلا أمام الحكم الديمقراطي المستند إلى المساءلة، وهدية لأصحاب نظريات المؤامرة.

صورة ميدان

الولايات المتحدة ليست البلد الوحيد الذي يطمس آثار التاريخ. وبحسب روبنسون فإنه حان الوقت لإندونيسيا لتكشف ما لديها من أرشيف لإجراء محاكمات لهؤلاء المنفذين لجرائم الحرب. كما تُبقي الصين أيضا على الغموض الذي يلف قرارات سياستها الخارجية. وعلى الرغم من أن بكين رفعت السرية جزئيا عام 2008 وأتاحت بعض أوراق وزارة الخارجية عن هذه الفترة، فإن السلطات أعادت الجزء الأكبر من هذه الأوراق مرة أخرى للسرية في 2013. ويخشى المثقفون الصينيون من المخاطر السياسية الناتجة عن محاولات النبش في هذا الوحل.

قد تصدم نتائج دراسة روبنسون المُضنية أولئك الذين اعتادوا القراءة في انتصارات الحرب الباردة، لكن روبنسون يُقدِّم وجهة نظر أدق حول السياسة الأميركية الخارجية وإن كانت أقل إلهاما. كان سقوط الاتحاد السوفيتي انتصارا تاريخيا للحرية، لكن هذا ليس إلا سببا إضافيا للنظر بجدية إلى أفعال الولايات المتحدة الأكثر شرًّا خلال الحرب الباردة: الحروب المدمرة في كوريا وفيتنام ولاوس وكمبوديا، ودعم حكومات تلطخت أيديها بالدماء في دول مثل الأرجنتين والبرازيل وإيران وجنوب أفريقيا وزائير (الكونغو حاليا)، والدعم السري لانقلابات عسكرية في إيران وغواتيمالا، والتواطؤ في حملات عنف جماعي في إندونيسيا وباكستان الشرقية.

لم تفعل الولايات المتحدة الكثير لتخليد ذكرى هذه الفصول الشنيعة من تاريخها أو لتعديلها، ولا أمل يلوح في الأفق حول تشكيل لجنة لتقصي الحقائق عن الحرب الباردة. وبعد أكثر من 50 عاما على المذابح في إندونيسيا، تظل الولايات المتحدة دولة نادرا ما تتحمل المسؤولية عن تجاوزات الماضي، وتُولي جهدا ضئيلا لتعليم مواطنيها عن تاريخ الدول الأجنبية أو انخراطها التاريخي في الخارج، كما أن لديها نظاما سياسيا يُكافئ مرشحين يفتقرون إلى المعلومات أو مُولعين بالقتال. تجمعت كل هذه العيوب لتظهر في فترة رئاسة دونالد ترامب البائسة، الذي أظهر ازدراءه لحقوق الإنسان علانية أكثر من أي رئيس آخر منذ نيكسون، علاوة على أنه يفتقر إلى رؤية نيكسون الإستراتيجية، إذ عبَّر ترامب عن تقديره لقادة استبداديين مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. كما أنه أطرى علنا على الإجراءات السعودية “القوية” في اليمن، ولم يذكر آلاف المدنيين الذين قتلوا بقنابلها. وأثنى على رودريغو دوهيرتي الرئيس الفلبيني الوحشي، بسبب “عمله المذهل على مشكلة المخدرات”، في دعم صريح لأعمال القتل الخارجة عن القانون بحق أكثر من 7 آلاف شخص، وهي الحملة التي قالت عنها منظمة “هيومن رايتس ووتش” إنها ترقى لأن تكون جرائم ضد الإنسانية
اعداد: هدير عبد العظيم( الجزيرة ).

“كان من السهل نسيان الماضي في إندونيسيا”. وردت هذه الكلمات في كتاب باراك أوباما الصادر عام 2006 بعنوان “جرأة الأمل”. عندما كان أوباما في السادسة من عمره انتقل إلى جاكرتا مع والدته التي تزوجت من رجل إندونيسي. وصلوا إلى هناك في عام 1967، بعد فترة وجيزة مما وصفه أوباما بعد ذلك بسنوات طويلة بأنه “تطهير هائل ضد الشيوعيين والمتعاطفين معهم” حينما “ذُبح ما يُقدَّر أعدادهم بين 500 ألف إلى مليون شخص”. أكّدت والدة أوباما بعد ذلك أنهم ما كانوا ليذهبوا إلى هناك أبدا لو أنها علمت بشأن المذابح، وقال زوج أمه، الذي تجنّد في الجيش الإندونيسي، إن “بعض الأمور يكون من الأفضل نسيانها”.

لا يعي سوى قليل من الأميركيين ما حدث في إندونيسيا. تُولي سِيَر تاريخ الحرب الباردة اهتماما سطحيا بهذه الدولة (يُستثنى من هذه القاعدة كتاب قيِّم للمؤرخ النرويجي أود أرن ويستاد “الحرب الباردة: تاريخ العالم”). واليوم في عالم تُعَدُّ فيه آسيا مركزا لسياسياته، فإن ما كان يُتجَاهل باعتباره قشورا خارجية، أصبح هو الآن الجوهر والمركز. لكن معظم الأميركيين غير مهيّئين لفهم المنطقة والدور الذي لعبته بلادهم هناك.

في كتاب
“موسم القتل”
المؤلف : جيفري روبنسون
يروي الكتاب قصة موثوقة ومروعة عن المذابح في إندونيسيا وتداعياتها، يسعى المؤلف جيفري روبنسون لاستدعاء هذه الحلقة المنسية من التاريخ. يُحجِّم روبنسون، غضبه بالدقة العلمية، ويملأ الفجوات التي تواجهه بالاقتباسات الأرشيفية، ونتج عن ذلك لائحة اتهام لاذعة ومُقْنعة بحق الجيش الإندونيسي والقوى الأجنبية -خصوصا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة- التي تواطئت في الوحشية التي ارتكبت.

أصبحت إندونيسيا -رابع دولة في العالم من حيث الكثافة السكانية- خلال الحرب الباردة جائزة لا تُقاوَم في عيون الولايات المتحدة والصين والاتحاد السوفيتي. وبينما كانت هذه القوى تتنافس على النفوذ؛ عمَّقت انقسامات موجودة بالفعل داخل البلاد. فمن ناحية، كان هناك الجيش الإندونيسي الرجعي، بالإضافة إلى الأحزاب القومية والإسلامية التي غالبا ما كانت لديها مليشيات تتبعها. ومن ناحية أخرى، كان هناك كيان عملاق هو الحزب الشيوعي الإندونيسي (بي كيه آي)، الذي يتفاخر بعدد أعضائه البالغ 3.5 ملايين إندونيسي تقريبا، بالإضافة إلى 20 مليون شخص ينتمون إلى منظمات موالية للحزب. كان الحزب الشيوعي الإندونيسي ثالث أكبر حزب شيوعي في العالم، بعد الحزبين الشيوعيين الحاكمين في الصين والاتحاد السوفيتي. وبحلول منتصف الستينيات، خشيت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من أن تتحول إندونيسيا إلى دولة شيوعية.

بدأت المذبحة في الأول من أكتوبر/تشرين الأول عام 1965، حين قتل مجموعة ضباط شباب في الجيش الإندونيسي ستة جنرالات. أعلن قادة الجيش المتبقون، بقيادة اللواء سوهارتو، أن أعمال القتل كانت جزءا من محاولة انقلاب مدعومة شيوعيا، وأطلقوا بعدها ما وصفه روبنسون بأنه “طغيان رهيب من الاحتجاز التعسفي، والاستجواب، والتعذيب، والقتل الجماعي، والنفي السياسي”، وأطلقوا حملة ممنهجة للقضاء على مَن سمّوهم المتعاطفين مع الشيوعية والشيوعيين، وغالبا ما شارك معهم مليشيات يمينية، وفِرَق قتل، ومدنيون مسلحون. كان الانخراط المزعوم مع طرف خاطئ -بصرف النظر عن حقيقة الأمر- مبررا كافيا للاحتجاز أو الإعدام. أُطيح بحكومة الرئيس سوكارنو اليسارية ضمن الهجمة، واستأثر سوهارتو والجنرالات بالسلطة. يُقدِّر روبنسون بتحفُّط أنه بانتهاء الهجمة العسكرية، وبعد ستة أشهر فقط، كان عدد القتلى يُقدَّر بنصف مليون شخص، بالإضافة إلى مليون آخرين إما احتُجزوا تعسفيا، وإما شُحِنوا إلى مستعمرات عقابية ومعسكرات عمل. وخلص روبنسون إلى أن الحملة تُمثِّل “واحدة من أكبر وأسرع عمليات القتل والاحتجاز الجماعية في القرن العشرين، ومع ذلك أقلهم بحثا”.

تبديد الأساطير

بعد عام 1966، حاول نظام سوهارتو، الذي كان يُطلق عليه حينها “النظام الجديد”، تسويق المذابح على أنها انتفاضة شعبية ضد الشيوعيين، وليست اعتداءات عسكرية مُنسَّقة. ادّعى المسؤولون أن العنف كان نتاجا عفويا للنزاع الشيوعي، مؤكدين دور المليشيات وفِرَق الموت المحلية.

هجر روبنسون هذه الأسطورة كليا، وصنَّف، بالاعتماد على المصادر الإندونيسية الأساسية، الأعمال الوحشية بتفاصيلها الشنيعة، وأحبط جهودا رسمية لغسل السمعة استمرت 50 عاما، ليُثبت دور الجيش المحوري في المذابح. هذه الفصول من الصعب تحمُّل قراءتها. يُظهِر روبنسون أن الإبادة التي ارتُكبت بحق البشر، الذين وصفهم أحد ضباط الجيش الإندونيسي بأنهم “أقل من الحيوانات”، لم تكن تفاصيلها عادية أو غير مُشخصنة. كان الناس يُقتلون رميا بالرصاص، أو بقطع الرأس، أو الخنق، أو الضرب حتى الموت، أو إخراج أحشائهم برماح من البامبو، أو تُقطع أجزاء أجسامهم بالسكاكين أو المناجل أو السيوف أو معاول الجليد، وغالبا ما كانت النساء يتعرضن للاغتصاب قبل أن يُقتلن. كان التعذيب أمرا روتينيا، وكان السجانون يضربون المحتجزين بالهراوات أو أسلاك الكهرباء، أو يسحقون أصابع أقدامهم، أو يكسرون أصابع أيديهم، أو يحرقونهم بالسجائر، أو يُعرّضونهم للصدمات الكهربائية. وبعض المحتجزين كانوا يُجبرون على مشاهدة تعذيب أزواجهم أو أطفالهم.

لم تكن الفظائع المُرتكبة في إندونيسيا نتيجة حتمية للاحتقان العِرقي أو النزاعات الاجتماعية الاقتصادية، كما هو الحال في دول شهيرة انتشرت فيها الوحشية الجماعية مثل البوسنة ورواندا وسوريا، وإنما كانت حملة مُنظمة ومُمنهجة نفَّذتها السلطات السياسية. يجادل روبنسون بطريقة مُقنعة بأنه لولا تقديم الجيش الإندونيسي التدريب والتنظيم والتشجيع لما كان تسبَّب أفراد ضيّقو الأفق يملؤهم الحقد في ذلك الدمار واسع النطاق. وعلى الرغم من أن السلطات على مستوى متوسط كان لديها حرية اختيار طرقهم في التعذيب، فإن الأنماط المروعة التي لوحظت على مستوى البلاد تُظهِر مخزونا من العنف المؤسسي، ومن تلك الأنماط التي كانت شائعة: قطع الرؤوس، والإخصاء، والعرض العام لأجزاء من الجسم أو للجثث، وأشكال أخرى معينة من التعذيب. كانت تعمل المليشيات المحلية دائما تقريبا إما تحت إمرة الجيش وإما بمباركته. وأعدَّ الجيش مبررات أيديولوجية لأعمال القتل التي يرتكبها عن طريق تجريد الشيوعيين المتهمين من إنسانيتهم ووصفهم بأنهم “شياطين”، و”عاهرات”، و”إرهابيون”، و”حيوانات”، و”ملحدون”، وهذا الوصف الأخير كانت تُكرِّره المليشيات الإسلامية خصوصا.

صورة ميدان

المسؤولية الغربية

لكن الجيش الإندونيسي لم يكن الطرف الوحيد المسؤول. يُدين كتاب “موسم القتل” القوى الغربية بقسوة، يقول روبنسون في كتابه مجادلا إن “الولايات المتحدة وحلفاءها ساعدوا في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في إندونيسيا وحرّضوا عليها، ومن المحتمل أن تكون الإبادة الجماعية من ضمنها”.

لم يُقدِّم روبنسون دليلا دامغا يدعم هذا الاتهام الخطير، لسبب وحيد هو أن الكتاب يضم اقتباسات قليلة على لسان كبار مسؤولي البيت الأبيض، بينما لا يضم أي اقتباسات من الرئيس ليندون جونسون نفسه. فصمت الرئيس الثرثار كان لافتا للنظر في هذا الكتاب، خصوصا عند مقارنة ذلك بصورة جونسون التي وردت في كتب تاريخية أخرى، مثل كتاب المؤرخ فريدريك لوجفال عن التصعيد الأميركي في فيتنام بعنوان “اختيار الحرب”، الذي ورد فيه دليل دامغ مباشر على ما كان يُفكِّر فيه جونسون. لكن ما كشفه روبنسون كان بغيضا بما فيه الكفاية.

في إبريل/نيسان 1965، كتب السفير الأميركي في جاكرتا إلى جونسون يقول إنه على واشنطن تهيئة “أنسب الظروف” للجيش والقوى الأخرى المعارضة لسوكارنو لتكون لديهم القدرة على المواجهة، ومن غير الواضح كيف ردَّ الرئيس أو هل ردَّ بالأساس. عندما بدأت أعمال القتل أبلغت وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) الرئيس جونسون أنها أيَّدت قمعا واسعا ضد الشيوعيين في إندونيسيا، ويبدو أنه لم يعترض، بحسب روبنسون. وبحلول ذلك الوقت، أعطى مسؤولون بريطانيون وأميركيون، سرًّا، ضمانات لجنرال إندونيسي رفيع بأنهم لن يتدخلوا في الشؤون الداخلية للبلاد. وحتى في الوقت الذي ازدادت فيه الأعمال الوحشية سوءا لم تُبدِ إدارة جونسون أي انتقاد. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1965، قال نائب رئيس البعثة الأميركية في جاكرتا لضابط رفيع المستوى في الجيش الإندونيسي إن إدارة جونسون كانت “متعاطفة ومُقدِّرة عموما لما يقوم به الجيش”. استقبلت إدارة جونسون حملة الجيش بحماسة رغم وحشيتها، إذ قال وكيل وزارة الخارجية جورج بول لنائب الرئيس هوبرت همفري إنه إذا “مُحِيَ الحزب الشيوعي الإندونيسي… فسيكون لدينا عهد جديد في إندونيسيا”.

علاوة على ذلك، فإن فريق جونسون تلاعب بالصحافة في واشنطن، إذ قال بول للصحافي في جريدة “نيويورك تايمز” جيمس ريستون إن الجيش الإندونيسي لديه “القوة الكافية ليمسح الأرض بالحزب الشيوعي الإندونيسي، وإن لم يفعل ذلك فقد لا يجد فرصة أخرى”. كما لا يوجد دليل على أن هذه الأفعال لاقت أية معارضة من قِبَل أطراف أخرى في الإدارة.

محاربون باردون

كانت اتهامات روبنسون دقيقة وترمي إلى ما هو أبعد من الحرب الباردة. لم يجد روبنسون دليلا على أن الولايات المتحدة أو “سي آي إيه” أداروا الانقلاب العسكري أو المذابح، ويُشكِّك في قدرة مركز صغير تابع لـ “سي آي إيه” على إدارة مثل هذا الدمار، كما أنه احترس من تبرئة قيادة الجيش الإندونيسي والقتلة المحليين. علاوة على ذلك، فإن روبنسون انتقد سوكارنو ذا الشخصية الكاريزمية مرارا وغيره من القوميين المسلحين تصعيدهم الخطير للتوترات المحلية. في عام 1959، استنكر سوكارنو الديمقراطية البرلمانية واعتبرها زرعا أجنبيا غريبا على الثقافة الإندونيسية، ووضع نظاما استبداديا قائما على “الديمقراطية المُوجَّهة”. وعلى الرغم من أن البلاد كانت اسميا من دول عدم الانحياز، فإن سوكارنو انحرف ناحية اليسار تحديدا، على غرار ما فعله الزعيم الصيني ماو تسي تونغ وبلاده على شفا الثورة الثقافية، حينما استقطب الثوار من أنحاء آسيا. حشد سوكارنو، من أجل توحيد الجمهور، لسحق دولة ماليزيا الوليدة، التي تكوّنت من مناطق كانت مستعمرات بريطانية سابقة، وهو ما رآه سوكارنو على أنها محاولة للإمبريالية الجديدة لخنق إندونيسيا. وفي خطاب له عام 1965، قال معلنا: “نحن الآن نرعى محورا معاديا للإمبريالية يتكوّن من جاكرتا وبنوم بنه وهانوي وبكين وبيونغ يانغ”.

كما يُشير روبنسون، منتقدا الولايات المتحدة وحلفاءها، إلى أن ما فعلوه كان ردا على مساعدة الاتحاد السوفيتي لسوكارنو، وعلى النفوذ الصيني المتنامي. وساندت الصين تحديدا حملة سوكارنو ضد ماليزيا، وعرضت مساعدته في تطوير أسلحة نووية. كما عرض تشوان لاي، رئيس الوزراء الصيني في عهد ماو، على الحزب الشيوعي الإندونيسي 100 ألف قطعة سلاح خفيف لمساعدته في تكوين مليشيات تتمكّن من تسليح 21 مليون عامل وفلاح تقريبا. وبحسب ما خلصت إليه المؤرخة تاومو تشو، فإنه في عام 1963 عقد رئيس الوزراء الصيني اجتماعا دعا فيه الحزب الشيوعي الإندونيسي والقادة الشيوعيين من جنوب شرق آسيا، وحثهم على “التغلغل في الريف، والاستعداد لنزاع مسلح، وتدشين معسكرات”. يناقش روبنسون أن كل هذا التهديد والوعيد الصيني كان جعجعة بلا طحين، لكنه مدَّ سوكارنو والحزب الشيوعي الإندونيسي بجرأة كبيرة لتحدي الجيش.

ومع ذلك، فإن مشكلة روبنسون الأساسية هي مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحلفائهما، الذين استمروا في الضغط على الجيش الإندونيسي لسحق سوكارنو والشيوعيين لسنوات. وبعد عام 1958، حينما أمدَّ السوفييت إندونيسيا بمعونات عسكرية ضخمة، بدأ المسؤولون الأميركيون ضخ مساعدات أقل إلى الجيش الإندونيسي، الذي وصفته هيئة الأركان المشتركة الأميركية بأنه “القوة الوحيدة غير الشيوعية في إندونيسيا التي لديها القدرة على تقويض تقدُّم الحزب الشيوعي الإندونيسي ومنعه من السيطرة على البلاد”. وبينما كثّفت الصين مساعداتها لسوكارنو، كانت الولايات المتحدة بدأت سرًّا في تمويل المعارضين للشيوعية وتقديم المساعدات لهم، بما فيهم الحزب الإسلامي الذي ظهر أعضاؤه أكثر وحشية خلال أعمال القتل.

والأكثر سوءا أنه حتى بعد بدء أعمال القتل الجماعي، قدّمت الولايات المتحدة الدعم السياسي وكميات معتدلة من المساعدات السرية للجيش الإندونيسي. وبعد انقضاض سوهارتو على السلطة في مارس/آذار 1966، أسهبت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في مساعداتهم بما في ذلك الدعم العسكري

حكم بالتكرار

غالبا ما يتبع الإنكار أعمالا وحشية جماعية، وتعتبر إندونيسيا مثالا كئيبا على ذلك. وقد كرّس نظام سوهارتو نفسه بغير ندم ولا هوادة للقضاء على أي يساريين متبقين، وقمع المقاطعات الخاضعة لسيطرته: آتشيه وتيمور الشرقية وبابوا الغربية. سجنت السلطات في عهد سوهارتو عددا مهولا من السجناء السياسيين، وأضاف “النظام الجديد” مئات الآلاف من القتلى إلى سجلاته.

وحتى بعد استقالة سوهارتو عام 1998 على خلفية التظاهرات الشعبية العارمة والأزمة المالية الآسيوية، استمرت إندونيسيا في دفن ماضيها بالإنكار. وعلى عكس ما حدث في الأرجنتين والبوسنة وألمانيا وجنوب أفريقيا، لم تُجرَ محاكمات على جرائم الحرب، ولم تُشكَّل لجان تقصي حقائق، ولا حتى دُشن نصب تذكاري للقتلى. وعلى الرغم من جهود بعض مثقفي إندونيسيا ونشطائها وصحافييها الشجعان وحديثهم العلني عن المأساة، فإن المذبحة بقيت طيّ النسيان، ويعود السبب جزئيا إلى الحكومات الغربية ذات الضمائر الميتة.

يتهم روبنسون مسؤولين أميركيين، مثل السفير الأميركي في جاكرتا ومدير مركز “سي آي إيه” هناك، بنشر سجلات مُضلِّلة لتبرئة بلادهم وإعفائها من المسؤولية. كما رفضت الحكومة الأميركية أو خبّأت، لعقود متتالية، طلبات برفع السرية عن وثائق ذات صلة بموجب قانون حرية تداول المعلومات. وفي عام 2017، وتحت ضغوط من مؤرخين ونشطاء، وتوم أودال السيناتور الديمقراطي من ولاية نيو مكسيكو، نشرت الحكومة أخيرا سجلات قوامها 30 ألف صفحة تابعة للسفارة الأميركية في جاكرتا في الفترة بين 1964-1968. كانت هذه الوتيرة المتثاقلة في عملية رفع السرية بمنزلة إهانة للضحايا، وحائلا أمام الحكم الديمقراطي المستند إلى المساءلة، وهدية لأصحاب نظريات المؤامرة.

صورة ميدان

الولايات المتحدة ليست البلد الوحيد الذي يطمس آثار التاريخ. وبحسب روبنسون فإنه حان الوقت لإندونيسيا لتكشف ما لديها من أرشيف لإجراء محاكمات لهؤلاء المنفذين لجرائم الحرب. كما تُبقي الصين أيضا على الغموض الذي يلف قرارات سياستها الخارجية. وعلى الرغم من أن بكين رفعت السرية جزئيا عام 2008 وأتاحت بعض أوراق وزارة الخارجية عن هذه الفترة، فإن السلطات أعادت الجزء الأكبر من هذه الأوراق مرة أخرى للسرية في 2013. ويخشى المثقفون الصينيون من المخاطر السياسية الناتجة عن محاولات النبش في هذا الوحل.

قد تصدم نتائج دراسة روبنسون المُضنية أولئك الذين اعتادوا القراءة في انتصارات الحرب الباردة، لكن روبنسون يُقدِّم وجهة نظر أدق حول السياسة الأميركية الخارجية وإن كانت أقل إلهاما. كان سقوط الاتحاد السوفيتي انتصارا تاريخيا للحرية، لكن هذا ليس إلا سببا إضافيا للنظر بجدية إلى أفعال الولايات المتحدة الأكثر شرًّا خلال الحرب الباردة: الحروب المدمرة في كوريا وفيتنام ولاوس وكمبوديا، ودعم حكومات تلطخت أيديها بالدماء في دول مثل الأرجنتين والبرازيل وإيران وجنوب أفريقيا وزائير (الكونغو حاليا)، والدعم السري لانقلابات عسكرية في إيران وغواتيمالا، والتواطؤ في حملات عنف جماعي في إندونيسيا وباكستان الشرقية.

لم تفعل الولايات المتحدة الكثير لتخليد ذكرى هذه الفصول الشنيعة من تاريخها أو لتعديلها، ولا أمل يلوح في الأفق حول تشكيل لجنة لتقصي الحقائق عن الحرب الباردة. وبعد أكثر من 50 عاما على المذابح في إندونيسيا، تظل الولايات المتحدة دولة نادرا ما تتحمل المسؤولية عن تجاوزات الماضي، وتُولي جهدا ضئيلا لتعليم مواطنيها عن تاريخ الدول الأجنبية أو انخراطها التاريخي في الخارج، كما أن لديها نظاما سياسيا يُكافئ مرشحين يفتقرون إلى المعلومات أو مُولعين بالقتال. تجمعت كل هذه العيوب لتظهر في فترة رئاسة دونالد ترامب البائسة، الذي أظهر ازدراءه لحقوق الإنسان علانية أكثر من أي رئيس آخر منذ نيكسون، علاوة على أنه يفتقر إلى رؤية نيكسون الإستراتيجية، إذ عبَّر ترامب عن تقديره لقادة استبداديين مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. كما أنه أطرى علنا على الإجراءات السعودية “القوية” في اليمن، ولم يذكر آلاف المدنيين الذين قتلوا بقنابلها. وأثنى على رودريغو دوهيرتي الرئيس الفلبيني الوحشي، بسبب “عمله المذهل على مشكلة المخدرات”، في دعم صريح لأعمال القتل الخارجة عن القانون بحق أكثر من 7 آلاف شخص، وهي الحملة التي قالت عنها منظمة “هيومن رايتس ووتش” إنها ترقى لأن تكون جرائم ضد الإنسانية
اعداد: هدير عبد العظيم( الجزيرة ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × 1 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube