المؤلف : ديفيد معتدل
انتبهت ألمانيا لدور الحشد الديني في الحروب، ففي الحرب العظمى، وبالتحديد في خريف عام 1914، نشأ تحالف بين قادة الدولة العثمانية من حزب الاتحاد والترقي مع ألمانيا، وأُعلِن الجهاد، وطوال الحرب العالمية الأولى، كثَّفت برلين والقسطنطينية جهودهما بُغية تحريض “العالَم المحمدي أجمع على ثورة عارمة”، على حدِّ تعبير القيصر الألماني، فيلهلم الثاني.
وفي الخامس والعشرين من يوليو/تموز عام 1940، وبعد سقوط فرنسا مباشرة بيد القوات النازية وبدء معركة بريطانيا، أرسل الدبلوماسي المتقاعد “ماكس فون أوبنهايم” مذكرة من سبع صفحات إلى وزارة الخارجية الألمانية، كان موضوعها “التحريض على التمرد في الأقاليم الإسلامية التي يحوزها الأعداء”، وفصَّل القول فيها بأنه حان الوقت لإطلاق استراتيجية شاملة لتعبئة العالم الإسلامي ضد الإمبراطورية البريطانية. وقد نالت هذه المذكرة بعض ردود الفعل في وزارة الخارجية الألمانية.
ينبهنا الكتاب أنه من الناحية الاستراتيجية، لم تكُن محاولات الألمان لتعبئة المسلمين ضد أعدائهم ثمرة تخطيط طويل الأمد، بل نشأت في أثناء الحرب عندما انقلب الوضع ضد دول المحور، فبعد الهزيمة على مشارف موسكو، وانخراط الولايات المتحدة في الحرب، عام 1941، لاحظ الألمان فشل استراتيجية الحرب الخاطفة، وهنا مالت ألمانيا تدريجيًّا إلى الأهداف قصيرة المدى والضرورات العاجلة للحرب، وسعت مراكز شتى في برلين إلى بناء تحالفات عسكرية أكبر، مبدية درجة كبيرة من البراغماتية، وأصبحت العوائق الأيديولوجية أقل تأثيرًا، وغدت الحواجز العرقية -فجأة- أقلَّ صرامة كذلك. وفي أوائل عام 1937، نظَّم الدوتشي، بنيتو موسوليني، احتفالًا عامًّا في طرابلس (الغرب)، حصل فيه على “سيف الإسلام” المرصَّع بالجواهر، ليعلن نفسه -رمزيًّا- حامي حمى العالم الإسلامي، وأعلن أن إيطاليا ستُجِلُّ “شريعة النبي”، وقد علَّق غوبلز في يومياته قائلًا: “يجوب موسوليني إفريقيا مشيدًا بالإسلام، وهو تصرُّف ماكر شديد المكر، أثار -من فوره- قلق باريس ولندن”.
على الرغم من أن أطراف الحرب العالمية الثانية كانت دولًا أوروبية، لكن أوَار الحرب امتدَّ ليشمل أكثر ديار الإسلام، فقبل أن يصل الألمان إلى ستالينغراد كانوا قد احتلوا جميع أراضي أوروبا الشرقية التي تقطنها أغلبيات أو أقليات مسلمة، وصولًا إلى جزيرة القرم في البحر الأسود جنوب الاتحاد السوفيتي. تُقدَّر هذه الأعداد بنحو عشرين مليونًا. ودعمًا لحلفائهم الإيطاليين، احتل النازيون تونس لمدة وجيزة، وصولًا إلى مصر عبر ليبيا، حتى هزيمتهم الشهيرة في العَلَمين على مشارف الإسكندرية.
المفتي أمين الحسيني في برلين
رغم ما كُتب كثيرًا عن أمين الحسيني فهو حاضر في الكتاب لأنه من أبرز الرموز الدينية الإسلامية التي وظَّفتها وزارة الخارجية الألمانية، إلا أن ذِكْره يرد في فصول متفرقة، وبجمع المعلومات التي قدمها المؤلف يمكن تكوين صورة عن دور الحسيني من خلال الوثائق الألمانية.
وُلد أمين في مستهلِّ القرن العشرين لعائلة الحسيني، درَس في الأزهر لفترة وجيزة، وسطَع نجمه في فلسطين في أثناء الانتداب البريطاني. نصَّبته بريطانيا مفتيًا للقدس، وبعد عام واحد أصبح رئيسًا للمجلس الإسلامي الأعلى ورئيس لجنة الأوقاف العامة في فلسطين، وكان كل ذلك دون أن يتوقع البريطانيون أن الحسيني، “الناقم” على اليهود، سيغدو عمَّا قريب معارضًا للحكم البريطاني. وقد رأى الحسيني أن التحالف مع ألمانيا هو السبيل لضرب بريطانيا.
وصل الحسيني “المزهو” بنفسه إلى برلين، واستقبله هتلر في دار مستشارية الرايخ الجديدة، واقتصر الحوار بينهما على تبادل عبارات المجاملة الشكلية والتأكيد أنهما يحاربان العدو نفسه (الإنجليز واليهود والبلشفية). وعندما طلب الحسيني من هتلر ضمانة مكتوبة باستقلال العرب، خصوصًا استقلال فلسطين، تهرَّب هتلر من الأمر، وعندما كرر الحسيني طلبه أخبره هتلر أن الوقت لم يَحِن بعدُ لهذا النوع من المطالب. لكن هتلر أكد كفاحه ضد اليهود بلا هوادة، بمن فيهم يهود البلاد العربية.
فشلت خطة أمين الحسيني في تحقيق هدفها الرئيسي بالحصول على امتيازات وضمانات واضحة باستقلال العرب والمسلمين، وحاول المسؤولون الألمان استعماله بوصفه رمزًا دعائيًّا كلما اقتضى الأمر. وكان الحسيني يتقاضى راتبًا جيدًا مقابل خدماته؛ إذ كان يتلقى شهريًّا ما لا يقل عن 90 ألف مارك، بالإضافة إلى السكن الخاص به وبمرافقيه. وقبل ساعات من الاستسلام الألماني حطَّت طائرة كان فيها الحسيني في برن بسويسرا، وسلَّم السويسريون الحسيني للفرنسيين، خشية تحمل أية تبعة، وفي باريس حصل على استقبال دافىء من سي قدور بن غبريط، إمام مسجد باريس، وأطلق الحلفاء سراحه، خشية أن تؤدي محاكمته بوصفه مجرم حرب، إلى نشوب انتفاضات إسلامية، وعاد إلى القاهرة. ولم يتراجع أمين الحسيني عن مواقفه الفكرية عندما كتب مذكراته بعد ذلك؛ حيث أظهر في المذكرات إعجابًا بهتلر وهاينريش هملر، الذي كان يظن أنه صديقه، ولم يتراجع عن مواقفه في دعم ألمانيا(2).
النازيون في الدول الإسلامية
استخدم النازيون الدعاية الدينية في المناطق الإسلامية في القوقاز والقرم، وركزوا على منح الحريات الدينية لهؤلاء السكان، فقد عانى المسلمون من الاضطهاد السوفييتي؛ إذ فُرض عليهم منع المظاهر الدينية. ومع وصول القوات النازية إلى هذه المناطق قامت بسياسة منح المسلمين امتيازات دينية، بهدف الحصول على ولائهم وعلى متعاونين محليين لإحلال السلم في هذه المناطق، وتأمين ظهر القوات النازية في حربها ضد الروس؛ إذ أمرت بفتح المساجد مرة أخرى، بل بُنِيَت مآذن جديدة، ووافق الجيش الألماني على إعادة التعليم الديني، وأمرت الفرقة النازية بأن يصبح يوم الجمعة في المناطق الإسلامية في القوقاز يوم عطلة، وروَّجت ألمانيا في كتيبات دعائية لنفسها بوصفها صديقة للإسلام.
على طول التخوم الإسلامية في جنوب الاتحاد السوفيتي، بدأت السلطات العسكرية الألمانية في الدعاية للرايخ الثالث بوصفه محرِّر المؤمنين من قبضة البلاشفة الروس، وفضلًا عن ذلك شرعت القوات النازية في تجنيد آلاف من أسرى الحرب المسلمين بعد موافقة هتلر، في إطار ما سمته “الفيالق الشرقية”. وبحسب الكتاب، اعتبر المسلمون قدوم القوات النازية فرصة لممارسة الشعائر الدينية، وحيَّوا جنود القوات النازية بهتافات المحررين، وأرسل المسلمون في القرم فواكه ومنسوجات للقيادة الألمانية ولـ”أدولف أفندي”.
وفي عام 1944، افتتحت القوات النازية مدرسة للملالي في درسدن لتدريس الأئمة الميدانيين، حتى يساعدوا في إدارة الفِرَق المسلمة التي انضمت إلى قوات النازي. وقد صرَّح أحد المتهمين في محكمة نورمبرغ التي عُقدت لمحاسبة قادة النازية، بأن سياسة وحدات الحماية كانت تتحرك تدريجيًّا في اتجاه “تعبئة كل محمديٍّ ممكن، وتسليحه”. وانتشر في الأوراق الحكومية الألمانية مصطلح “تعبئة الإسلام”، أي حشد أي قوات مسلمة في جيوش النازيين. وفي برلين، كتب غوبلز، وزير الدعاية، مسرورًا في يومياته لعام 1942: “بعد أن سُمح للمسلمين برفع الأذان من مآذنهم مرة أخرى، تخلَّى التتار عن احترازهم السابق تجاه القوات المسلحة”، وأضاف: “من المثير الإشارة إلى أهمية الاستغلال البارع للمسألة الدينية”.
وينبهنا المؤرخ ديفيد معتدل إلى إحدى ميزات استغلال الإسلام، بدلًا من الشعارات العرقية والقومية في مناطق البلقان والقوقاز، هي أن برلين ستتجنَّب تشجيع إعلانات الاستقلال القومي للأقليات القومية المسلمة في الاتحاد السوفيتي.
مع الانسحاب الألماني من تلك المناطق، عاقبت موسكو المسلمين، واعتبرت كل من تعاون مع الألمان متهمًا بالخيانة العظمى، ورحَّلت الكثير منهم إلى معسكرات الاعتقال السوفيتية (الغولاغ). ذكر الروائي الروسي، ألكسندر سولجستين، في كتابه “أرخبيل الغولاغ” وصول دفعات من مسلمي القوقاز إلى معسكرات الاعتقال، ولم تؤثر احتجاجات الصليب الأحمر على بريطانيا والولايات المتحدة التي قامت بتسليم هؤلاء إلى الروس، حتى إن الروائي جورج أورويل الذي كان مراسلًا حربيًّا في ذلك الوقت، جاهر بالاعتراض على سياسة التسليم التي انتهجها الحلفاء، والذين توقفوا عنها عندما علموا بتعرض هؤلاء المعتقلين المسلمين للموت والسُّخرة.
النازية في البلدان العربية
لم تكن ورقة الحريات الدينية التي استخدمها النازية صالحة للاستخدام في الدول العربية؛ حيث كانت الحريات الدينية متاحة تحت حكم الحلفاء، لكنهم مع ذلك طمعوا في انضمام العرب إلى القوات النازية، وغمروا المناطق العربية بالمنشورات المكتوبة باللغة الدارجة لتشجيع العرب للانضمام إليهم، واستُخدم الدين في الدعاية، مثل منشور: “هلُمُّوا إلى الألمان، الذين لم يُؤذوا المسلمين قَطّ”، وصُدِّر منشور آخر بآيات سورة الأنفال (الآية 15): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ}. واستُهلَّ منشور آخر بقوله تعالى (المائدة 82): {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}. وكان عدد المنشورات التي وُزِّعت في تونس وحدها لا يقلُّ عن ستة ملايين نسخة، بل إنَّ الدعائيين النازيين في سوريا ولبنان نشروا أنشودة تقول: “لا مسيو ولا مستر، الله في السماء وفي الأرض هتلر”. وكُلِّف مكتب أمن الرايخ الثالث بالبحث عن آية من آيات القرآن تصلح لأن تبرهن للمسلمين على أن القرآن قد تنبأ بالفوهرر. وهكذا استمر العبث بتفسير النصوص الدينية بطريقة براغماتية لتكون أدوات سياسية في الحرب، بل إنه جرى طبع القرآن بكميات كبيرة وتوزيعها على الجنود المسلمين في الجيش النازي. وتعاملت السلطات النازية بحذر مع الأسرى المسلمين، واحترمت عديدًا من المظاهر الدينية لجذب هؤلاء الأسرى للقتال بجانب الألمان في الحرب، ويقدم الكتاب تفصيلًا عن حالة الأسرى في المعسكرات.
اهتمَّ المسؤولون الألمان بمراعاة الحساسيات العربية، وعُدِّل اسم مكتب النشاط “المُعادي للساميين” في وزارة الدعاية الألمانية إلى النشاط “المُعادي لليهود”، وفي عام 1942، كرر غوبلز وزير الدعاية توجيهاته إلى الصحافة بتجنب استعمال ألفاظ الساميَّة في دعايتهم، بل إن غوبلز حذَّر هيئات تحرير المجلات من أن أي نقد للإسلام غير مرغوب فيه، وأكد فكرة العدو المشترك بين الإسلام والنازية، أي البلاشفة الروس واليهود. وفي عام 1943، وُجِّهت الصحافة الألمانية إلى الكتابة عن اضطهاد السوفييت للمحمديين، واعتبار الولايات المتحدة عدوًّا للإسلام. ثم جرى التمادي في البحث عن أوجه شبه بين النازية والإسلام، وابتكر ناشط اسمه “زكي علي” مقولة: إن الخلافة لا تبتعد عن كونها فوهرر المؤمنين، بل إن النازية حاولت البحث عن أوجه الشبه بين الإسلام والنازية عبر الحديث عن المماثَلة بين مفهوم الأمة الجرمانية المرتكِز على العِرق، ومفهوم الأمة الإسلامية المرتكِز على الدِّين، ومن ذلك أيضًا المماثَلة بين الفوهرر والنبي.
من النقاط التي يرصدها الكتاب ردود الفعل الإسلامية على التودد الألماني للإسلام، ويستعين بقصة أنور السادات وتعاونه مع جواسيس ألمان، ويستنطق مذكرات الشيخ سلطان القاسمي أمير الشارقة “سرد الذات”، التي يحكي فيها تفاعل المستمعين في الشارقة مع الدعايات القادمة عبر المذياع، سواء من الحلفاء أو المحور. ومن الطريف أن من بين مستمعي إذاعة برلين في إيران الملا الشاب روح الله الموسوي، الذي سيُعرف لاحقًا بالخميني، والذي كان يملك مذياعًا ويستضيف عددًا من الملالي وطلاب الحوزات ويستمعون إلى البرنامج الفارسي في الإذاعة النازية، ولاحقًا نُشرت تعليقات الخميني في تلك الفترة، التي حطَّ فيها من شأن الأيديولوجيا الهتلرية بوصفها أشد ما أنتجه العقل الإنساني خطرًا وبشاعة.
من ضمن الأمثلة التي يدرسها الكتاب تلك النصوص التي كتبها عرب لتأييد الرؤية النازية مثل زكي كرام الذي تقدم بمخطوطة بالألمانية بعنوان “النبي محمد واليهود” لكنَّ نصَّه لم يُجَز في النهاية، وكذلك تقدم بمخطوطة كتاب للرقابة الألمانية بعنوان “الإيمان النوردي والإسلام وروح العصر” ورُفِضت(3).
وعلى هذا الصعيد، من النقاط التي يفتقدها الكتاب تحليل وقراءة النصوص الفكرية التي كتبتها النخبة العربية المثقفة متفاعلين مع النازية، مثل مقالات العقاد وكتابه “هتلر في الميزان”، الذي قدَّم نقدًا جريئًا للنازية، حتى هرب إلى السودان مع وصول قوات النازيين إلى حدود العَلَمين، أو دفاع بعض المفكرين الذين انبهروا بها أو أبدوا إعجابهم بهتلر، مثل عبد الرحمن بدوي في مذكراته(4)، وعمر فروخ(5) نتيجة حياتهما في ألمانيا. ولعل السبب هو تركيز الكتاب على المسألة الدينية فقط، لكن مع صدور كتاب “النازية بأقلام عربية.. من أعلام عاصروها”(6) لفيصل بن سويد مؤخرًا، فقد تكون فرصة ثمينة لتأمل كتابات الأدباء والمفكرين وتفاعلهم مع صعود النازية، وكذلك قدم كتاب “عميان عن التاريخ: العرب وألمانيا النازية واليهود”(7) تحليلًا لصورة النازية في عديد من البلدان العربية وصفحات المجلات مثل مجلة “الهلال” والصحافة المغربية، وهو سؤال يستحق التفكير فيه، لفهم كيفية تفاعل الجماهير والنخب المثقفة مع الدعاية النازية.
النخبة النازية وهتلر والإسلام
يرصد الكتاب علاقة النخبة النازية بالدين الإسلامي؛ فقد عبَّر بعض أعضاء النخبة النازية عن تعاطفهم مع الإسلام، وربما كان هينريش هملر، قائد القوات الخاصة، من أكثر المنبهرين بالدين الإسلامي، وعبَّر هملر عن “ازدرائه” للمسيحية بحضور هتلر، وكان يكرر الحديث عن الطابع البطولي للدين المحمدي، وأبدى هتلر نفسُه انبهارَه بالإسلام؛ إذ تحدَّث في “كفاحي” عن التقدم السريع للدين المحمدي في إفريقيا وآسيا. ولعل ما لفت نظره في الإسلام هو ما عبَّر عنه بأنه دين قوي وعملي، واعتبر المسيحية دين معاناة ليِّنًا وضعيفًا. وقد انبهر هتلر بمفارقة توقف الإسلام عن التقدم في أوروبا بعد معركة شارل بواتييه (بلاط الشهداء)؛ إذ هزم شارل مارتل المسلمين وتوقف المد الإسلامي، وهنا تحسَّر هتلر على عدم دخول الجرمان الإسلام، وفي إحدى المرات قال: “مِن نكَد الطالع أنْ وصل إلينا الدين الخاطىء، فالدين المحمدي أكثر توافقًا معنا من الدين المسيحي”. وهذه التصريحات لا تنفي رؤيته أن العرب أحطُّ عرقيًّا من الجرمان، لكنه ابتكر تخيلًا تاريخيًّا عن “جرمان مسلمين” كان يمكن أن يقدِّموا تجربة عظيمة لو جمعوا بين العِرق الأعلى والدين الأسمى من وجهة نظره.
أيَّد هتلر التودد الألماني إلى المسلمين تأييدًا شديدًا؛ إذ تأثر موقفه منهم بانبهاره بفكرة وحدة الدين الإسلامي، وقد حاول السياسي النمساوي النازي، هيرمان نيوباخر(8)، شرح العلاقة لهتلر بتعبيرات يسهل فهمها، فقال: “عندما تضرب مسلمًا في مقاطعات التتار، يردُّ طالب في القاهرة”، وقد أثَّرت هذه الفكرة في هتلر الذي بدا أنه انبهر بالعبارة واستعملها هو نفسه بعد ذلك، وأكد نيوباخر بعد ذلك أن مصير مسلمي البلقان خضع لمتابعة حثيثة من جانب المؤمنين في جميع أنحاء العالم.
ورغم أن هتلر ارتاب من تجنيد غير الألمان، وخصوصًا متطوعي الاتحاد السوفيتي، وبينما كان يصل إلى ذروة عدم ارتياحه حينما يتعلق الأمر بتجنيد السلاف الروس والأوكران، رأى هتلر أن المسلمين فقط هم الجنود الجديرون بالثقة، ودعم تجنيدهم بغير شروط، وقال: “المحمديون الخلَّص فقط هم من أعتقد أنه يمكن الاعتماد عليهم”. وتفسير هذه النظرة أنه رأى فيهم “أشرس أعداء البلشفية الروسية”. ومع هزيمة ألمانيا، وفي الشهور الأخيرة للحرب، تحسَّر هتلر في أثناء وجوده بمخبأ برلين على أنَّ جهود الرايخ الثالث في تعبئة العالم الإسلامي لم تكن قوية بما يكفي، وأخبر هتلر “مارتن بورمان” رئيس الحزب النازي أن “الإسلام كله اهتز لأنباء انتصاراتنا”، وأن المسلمين كانوا “مهيَّئِين للثورة”، وقال: “تصوَّرْ فقط أننا فعلنا ما بوسعنا لمساعدتهم، بل حتى تحريضهم كما كان يجب علينا وفي مصلحتنا”.
لا يمكن حسم تفسير موقف هتلر من الإسلام: هل دافعه هو ازدراؤه للمسيحية أم انبهاره بالدين الإسلامي لكي نفسر سبب تعاطفه مع المسلمين؟ لكن ذلك لم يشفع لدى الألمان لكي يجري الإفراج عن بعض المسلمين في المعتقلات النازية، فهذه الدعاية الألمانية للإسلام لا تعني أن الواقع كان قريبًا من هذه الصورة المثالية، فقد اعتدى الجنود الألمان على المسلمين، ويرصد المؤرخ الألماني، غرهرد هب، في كتابه “العرب في المحرقة النازية: ضحايا منسيُّون” حالة العرب في المعتقلات النازية، الذين بلغوا ألفًا ومئةً وثلاثين مسلمًا (1130)، بالإضافة إلى تسع عشرة مسلمة (19)، وقد جرى التفكير في إخراجهم لينضمُّوا إلى الجيش النازي، لكن جرى التراجع عن هذه الخطوة.
الاستشراق الألماني وصورة الإسلام
من النقاط التي يرصدها الكتاب ويقدم فيها قراءة مختلفة، هي صورة الاستشراق الألماني، فقد تم تقديمه دائمًا كنموذج للاستشراق العلمي غير المتورط في الاستعمار، تميَّز في غالبه بالحياد والتحرر من دائرة المصالح السياسية، وأنه اتسم بأكبر قدر من الموضوعية العلمية، وأنه لم يخضع لغايات سياسية أو استعمارية أو دينية(9). ويرجع هذا إلى غياب المشروع الاستعماري الألماني. ورغم أن ألمانيا كان لها بعض التجارب الاستعمارية في إفريقيا، جريًا على عادة جيرانها في القارة، لكنها تظل رغم كل شيء تجارب محدودة، فلم يتجاوز أقصاها ثلاثين عامًا، وبالتالي يصعب -عند البعض- القول بأن الاستشراق الألماني أو المستشرقين الألمان كانوا يعملون في خدمة مشروع استعماري محدَّد، مثل نظرائهم الإنجليز والفرنسيين ثم الأميركيين في القرن العشرين، بقدر ما كانوا يعملون في الإطار الثقافي العامِّ للرؤية الأوروبية للإسلام، بما يتضمَّنه ذلك من سلبيَّات وإيجابيَّات.
الكتاب يوضح لنا كيف لعبت الدراسات الاستشراقية الألمانية في فترة ما بين الحربين دورًا مهمًّا في تمهيد التفكير في العلاقة بين ألمانيا وعالم المسلمين، وعلى الرغم من تعقُّد هذا الخطاب فإن ديفيد معتدل ينبهنا إلى أن السرديات الاستشراقية تعاملت مع الإسلام على أساس أنه سياسي بطبيعته، وفهمت الإسلام بوصفه وحدة جغرافية تمتد من شمال إفريقيا وحتى شرق آسيا، دون كثير اهتمام بدراسة الفروق بين تجارب الإسلام في الدول المختلفة.
ويدفع كتاب “في سبيل الله والفوهرر” إلى إعادة النظر في فرضية موضوعية الاستشراق الألماني تلك والاستدراك عليها؛ إذ يستعرض لحظتَين تاريخيتَين كانت الدراسات الاستشراقية الألمانية وبعض كبار المستشرقين الألمان فيهما مجنَّدين لخدمة الأهداف الاستعمارية الألمانية، وصياغة استراتيجياتها السياسية وتكتيكاتها الدعائية. كانت اللحظة الأولى هي حملة الجهاد المشتركة بين ألمانيا والدولة العثمانية في أثناء الحرب العالمية الأولى، أمَّا الثانية فهي خطَّة الفوهرر وأجهزته لتوظيف الدين في تعبئة المسلمين وحشدهم في جميع ميادين القتال في الحرب العالمية الثانية.
استخدام الدين في الحرب العالمية الثانية
اشترك الحلفاء والنازية في استخدام أحد أهم وسائل الدعاية في ذلك الوقت، وهي الإذاعات؛ حيث قامت ألمانيا ببث موجات إذاعية ضد دول الحلفاء، وكان من أبرز أصواتها المذيع العراقي، يونس بحري، الذي كان يهوى إحاطة نفسه بالألمانيات الشابات، وكان البث يبدأ عادة بإذاعة آيات قرآنية، وهي فكرة عالم جان إدريس، الذي عمل مستشارًا في قسم الشرق بوزارة الخارجية الألمانية، وكلَّفته وزارة الخارجية بترجمة كتاب “كفاحي” إلى الفارسية.
لم يسكت الحلفاء عن قضية استخدام القرآن في الإذاعة، فقد ردَّت خدمة الـ”بي بي سي” (BBC) للبث العربي، وقال ستيوارت بيرون، أحد المسؤولين عن البرنامج العربي في المحطة: “بمجرد أن استمعت إلى البرنامج في ليلة افتتاح إذاعة برلين، اتخذت خطوات في سبيل زيادة عدد تسجيلات القرآن لدينا”. وكانت الإمبراطورية البريطانية في موقف يسمح لها بتوظيف صفوة قرَّاء العالم الإسلامي.
هكذا استخدم الحلفاء المشاعر الدينية أيضًا في الحرب، فقد بدا الإسلام تهديدًا محتملًا، كما يوضح الكاتب، فكان ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا في زمن الحرب العالمية الثانية، يشدِّد في أوائل عام 1942 على أن بريطانيا يجب ألا تقطع صلاتها بالمسلمين، أيًّا كان السبب. ودشَّنت بريطانيا برنامجًا مكثفًا لتعزيز العلاقات بين الإمبراطورية والعالم الإسلامي بعد اندلاع الحرب، وافتتحت السلطات البريطانية مسجدَ شرقِ لندن المركزي. وأدركت واشنطن أهمية الإسلام، وتساءلت جريدة يومية أميركية بقلق قائلة: “مَن سينال دعم المسلمين في الحرب الأوروبية؟”، وبمجرد وصول القوات الأميركية إلى أراضٍ إسلامية، وضعت السياسات والبروباغندا الإسلام في اعتبارها مرارًا، ففي عام 1943، وزَّع الجيش الأميركي كتيبات دينية تدعو إلى الجهاد ضد قوات روميل الألمانية، وبذلت لندن جميع ما في وسعها لتيسير الحج في سنوات الحرب، وأعلنت عن هذه الإجراءات بحماسة لا تخلو من دعاية.
وكثفت اليابان من تفاعلها السياسي والدعائي مع الإسلام في أثناء غزوها جزر الهند الشرقية الهولندية، عام 1942. وبدأ اليابانيون في فرض نصوص معدَّة على الأئمة ليضمِّنوها خطبهم للجمعة، ويحضُّوا المؤمنين على الدعاء نصرة للإمبراطور والانتصار في الحرب. وفي الختام، كما يعبِّر الناشر (“مدارات”) في مقدمة الكتاب، “التاريخ يُقرأ على خلفية الحاضر وفي معيَّته”، وهكذا نلمح أهمية استحضار علاقة الدين بالسياسة لنفهم دور الحشد الديني في العلاقات الدولية، حتى المشاهد المتناقضة تبدو لنا مفهومة في سياقها البراغماتي والسياسي. ويمكن عدُّ تاريخ سياسة الإسلام في الحرب العالمية الثانية جزءًا من قصة أوسع عن محاولات القوى غير المسلمة استخدام الدين الإسلامي لأغراض سياسية وعسكرية. والمثال الشهير هو الصراع في أفغانستان في سياق الحرب الباردة بين الروس والأميركان، وهكذا يوسِّع الكتاب من نطاق فهمنا للعلاقة المعقدة بين الإسلام والعلاقات الدولية والنظم السياسية، ويقلِّل بشكل ما من حصر حركية الإسلام في جماعات الإسلام السياسي، فالدين كان حاضرًا في السياسة الدولية منذ الحرب العالمية الأولى وقبل نشوء الحركات الإسلامية، وتجلَّى أكثر في الحرب العالمية الثانية