https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

تأليف: جيرار دافيت وفابريس لوم

بعد 5 سنوات من إصدار كتاب عن الرئيس الفرنسي السابق، فرونسوا هولاند، تحت عنوان “الرئيس لا يجب أن يتكلم هكذا”، و10 سنوات من كتاب “ساركو قتلني” عن نيكولا ساركوزي، عاد المراسلان الرئيسيان لصحيفة “لوموند” الفرنسية، جيرار دافيت وفابريس لوم، إلى إثارة الجدل مرة أخرى بكتابهما الجديد “الخائن والعدم” (Le Traitre et le Néant)، من إصدارات دار “فايارد” الباريسية للنشر، إذ يقدم تقييما نقديا لفترة الولاية الرئاسية لإيمانويل ماكرون.

يعتمد الكتاب الجديد في تحقيقاته -المدونة في أكثر من 600 صفحة- على شهادات 110 مسؤولين معروفين في الوسط السياسي الفرنسي والدائرة المقربة من الرئيس ماكرون قبل وبعد الإليزيه، بوجه مكشوف وصراحة مطلقة.

ويشير الصحفيان إلى أن الكتاب لا يعتبر “محاكمة”، لكنه يكشف كواليس صعود إيمانويل ماكرون إلى كرسي الرئاسة والفراغ الأيديولوجي الذي تعانيه حركة “إلى الأمام”. وهذا ما يوضح اختيار العنوان: “الخائن” هو إيمانويل ماكرون، و”العدم” هو سياسته ونزعته الكبرى

يذكر الكتاب في الجزء الأول منه أن الماكرونية (نسبة إلى ماكرون) ولدت من الخيانة لرسم مسارها، إذ كان على ماكرون قتل والده الروحي فرانسوا هولاند ليصبح رئيس الجمهورية الجديد.

ويشير الكتاب إلى أن هولاند هو الذي منح ماكرون الفرصة بتعيينه نائبا للأمين العام في قصر الإليزيه عام 2012، ثم وزيرا للاقتصاد عام 2014. أو كما وصفه وزير الاقتصاد والمالية السابق، بيير موسكوفيشي، في شهادته “المقرب من الرئيس.. الذي يتمتع بكاريزما النخبة.. لم يخن اليسار، بل قتل رئيسا وضع نفسه في وضع مميت”.

ويقول هولاند: “لقد استخدم (ماكرون) منصبه نائبا للأمين العام لبناء شبكة واسعة مكونة من رجال الأعمال والمشاهير، وهذا الأمر فتح أمامه كل الاحتمالات.. إنه خائن.. لقد خانني بشكل منهجي”.

وأكد الكتاب هذه المنهجية إذ أحاط إيمانويل ماكرون نفسه برجال أعمال مؤثرين وأثرياء، مثل هنري هيرمان وكلود بيردريل. ويذكر رفيق دربه المحامي، جان ميشال درويس، أن ماكرون أخبره أنه يريد أن يكسب المال ليصبح ثريا قبل ولوج عالم السياسة.

ويوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أعلن ماكرون ترشحه للانتخابات الرئاسية بشكل رسمي، قبل أسبوعين من إعلان هولاند عدم رغبته في الترشح لمرة ثانية.

من جهته، دافع وزير الداخلية السابق كريستوف كاستانير عن الرئيس الفرنسي مشيرا إلى أن ما حدث لا يعتبر خيانة لأن ماكرون حرص على أن يكون بديلا سياسيا محتملا لليسار، لأنه بخلاف ذلك سيكون فرانسوا فيلون رئيس الجمهورية.

المال وشبهات الفساد

وتعود إحدى أهم الشهادات التي يتضمنها الكتاب إلى عضو الجمعية الفرنسية عن حزب الجمهوريين أوليفييه مارليكس الذي أشار إلى وجود اتهامات وشبهات رشوة تحوم حول صفقة بيع المجموعة الصناعية الفرنسية “ألستروم” إلى شركة “جنرال إلكتريك” الأميركية التي تمت عندما كان ماكرون وزيرا للاقتصاد.

كما يتضمن الكتاب شهادة رئيس الأركان السابق في القوات المسلحة الفرنسية فيليب دوفيلييه الذي قال إن الرئيس الفرنسي ماكرون حاول شراء سكوته ووعده بمنصب أفضل وتقاعد مريح.

وهي محاولة صريحة للرشوة، اعتبرها دوفيلييه تجاوزا صارخا لكل الخطوط الحمراء ورد عليه قائلا: “لقد اتخذت قراري، ونحن عائلة من الفرسان الفرنسيين وما تقترحه إهانة لي”، ثمّ قدم على إثرها استقالته يوم 19 يوليو/تموز 2017.

كما يسلط رئيس الحزب الاشتراكي الفرنسي أوليفييه فور الضوء على تمويل الحملة الانتخابية لماكرون الذي لم يكن يملك شيئا حينها على عكس التشكيلات السياسية الأخرى، قائلا “نحن نعلم أن هناك من قدم المال لتمويل حملة باهظة الثمن. هناك أشخاص يدركون جيدا أين تتوجه مصالحهم”.

تأسيس سري

“هذه الانتخابات تستحق الأفضل، عودة ساركو وهولاند غير ممكنة، أريد التفكير في أشكال جديدة من الانخراط.. أريد تأسيس حركة وليس حزبا” هذا ما قاله إيمانويل ماكرون لدائرته المقربة المكونة آنذاك من أدريان تاكي، وزير الدولة لشؤون حماية الطفل، وإسماعيل إيميليان، مستشار اتصالات ماكرون وأحد مؤسسي حركة “إلى الأمام” وآخرين.

ويذكر تاكي في شهادته أن ماكرون نظم لقاءات مع شخصيات ملهمة، ونقابيين، وأصحاب شركات، وجمعيات، ومفكرين.

وبدأت المجموعة في التحدث عبر تطبيق “تليغرام” بشكل سري. وهو ما أكده غييوم لييجيه المؤسس المشارك لشركة “لييجيه مولر بون” الناشئة في الإستراتيجية الانتخابية قائلا: “كان سريا عن عمد حتى لا يكتشف هولاند ذلك. كنا نعرف ما نفعل حتى لو لم يتم إضفاء الطابع الرسمي لذلك بعد”.

وعن اسم الحركة “إلى الأمام” (En Marche)، يقول تاكي إنه أدرك في ما بعد أن الاسم أخذ من الأحرف الأولى (بالفرنسية) من اسم ماكرون (Emmanuel Macron).

ويقول مؤلفَا الكتاب إن اسم الحركة اختير في الأخير بمباركة من بريجيت ماكرون التي كانت تدعم وتحضر معظم اللقاءات.

وذكر ألكسندر بنعلا المكلف سابقا بأمن الرئيس أن ماكرون كان حذرا للغاية؛ ففي أحد الأيام، أحرق الأوراق المتعلقة بحملته الانتخابية في منطقة بروتاني، على بعد 400 كلم من باريس، لأنه لا يترك شيئا للصدفة

خطوات مدروسة

ماكرون لا يترك شيئا للصدفة بالفعل ويولي اهتماما فائقا لصورته، حتى اعتبره بعضهم كينيدي العصر الحديث مع ابتسامته المدروسة المليمترية وخطابه الهجومي. لكن الجانب الوحيد الذي لم يتمكن ماكرون من التنبؤ به هو الإشاعة التي استهدفت ميوله الجنسي مع رئيس راديو فرنسا، ماثيو جاليت، ربيع عام 2016، بحسب ما ورد في الكتاب.

والغريب أن هذه الإشاعة خدمت إيمانويل ماكرون في حملته الانتخابية عندما قرر الحديث عنها علنا وأشار إلى أنه رجل لا يحتمل الأكاذيب ويتذكر قوة علاقته الزوجية قائلا: “إنه أمر غير سار لبريجيت التي تشاركني تفاصيل حياتي، من المساء إلى الصباح”.

إلا أن اتهام ألكسندر بنعلا بالاعتداء على زوجين خلال مظاهرات عام 2018 واستخدام جوازات سفر مزورة شكلت فضيحة وحرجا كبيرا لماكرون الذي يكره التجسس على كواليس سلطته. وبالتالي، كان يجب العثور على كبش فداء مثالي، وهو محافظ شرطة باريس آنذاك، ميشيل دلبوش، بحسب مؤلفَي الكتاب

جمهورية ضعيفة

ويقول بيير موسكوفيشي، الذي تمت ترقيته إلى منصب المفوض الأوروبي في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2014: “لا يحبه الفرنسيون، ولا يعرفهم ولا يشبههم. لم نشهد مثل هذه الحكومة الضعيفة في ظل الجمهورية الخامسة”.

من جهته، أشار السكرتير العام لقصر الإليزيه أليسكي كوهلر إلى أنه كان من المبكر تولي ماكرون رئاسة الجمهورية “لديه حاشية شابة لم تعرف سوى النجاح ولديها نظرة ازدراء كبيرة.. واليوم، يصطدمون بالواقع”.

ويعتبر، وزير الزراعة الاشتراكي السابق ستيفان لو فول أن ماكرون ينتهج سياسة ليبرالية ويتحدث عن “العالم الجديد” لكن بوصفات تقليدية وبدون أي تدابير مبتكرة.

فعلى سبيل المثال، يرى أن إزالة قوى الأمن الداخلي وإلغاء ضريبة السكن من الأمور الأساسية في البلاد، ولا يختلف إصلاح التأمين ضد البطالة عما قدمه جاك شيراك من قبل.

ومن جهته، انتقد أوليفييه فور إدارة ماكرون للأزمات التي شهدتها البلاد، بما في ذلك السترات الصفراء والأزمة الصحية، واصفا إياها بـ”الارتجال الدائم”.

وبالنسبة لصراعات الإليزيه الداخلية، قال جوليان دراي -أحد رعاة ماكرون السياسيين- إن ماكرون “قضى بالكامل على الفريق الذي أوصله إلى السلطة عام 2017، إذ غادروا واحدا تلو الآخر.. يطردهم بهدوء ومنهجية حتى لا يتحولوا إلى معارضين له”.

كما انتقدت النائبة السابقة في حركة “إلى الأمام”، إيميلي كاريو، قانون الانفصالية والوزراء الذين ركزوا على تقديم “رؤية مؤيدة للأعمال التجارية التي لا تتوافق مع النموذج الفرنسي” بسبب “قلة الثقل السياسي لديهم”.

حتى أن الكاتب والسياسي إريك أورسينا شبه الرئيس الفرنسي بـ”نابليون” وحكومته بـ”الجيش العظيم”.

ويبدو أن شهادات فرانسوا هولاند كانت سخية في هذا الكتاب؛ إذ نراه يتحدث عن ماكرون في أجزاء عديدة منه، حيث ذكر أن الرئيس الفرنسي “لا يحب السياسة ويجهلها” وأنه “شخصية حالمة تمثل نفسها فقط”.

ويصف هولاند حكومة ماكرون بأنها “عذراء وغير ناضجة”. ويشاركه سلفه ساركوزي الرأي ذاته إذ قال إن ماكرون “سيسقط”، بحسب شهادة وزيرة العدل السابقة رشيدة داتي

)

وجه ماكرون الآخر

ويتزامن موعد إصدار كتاب “الخائن والعدم” قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية في فرنسا، وهي مسألة طرحها الصحفيان -جيرار دافيت وفابريس لوم- على الأشخاص الذين أدلوا بشهاداتهم في المؤلف.

وكان التساؤل الأبرز هو مكانة حركة “إلى الأمام” تحت مظلة الرئيس الفرنسي وثقلها الفعلي في الأوساط السياسية حاليا. ومالت معظم الآراء -إن لم تكن جميعها- إلى زوال الحركة فور مغادرة إيمانويل ماكرون قصر الإليزيه.

يقول رئيس الوزراء الاشتراكي السابق، مانويل فالس، في شهادته إن ماكرون يتمتع بروح القيادة، إلا أن حزبه لا يمتلك قاعدة محلية أو أيديولوجية خاصة به “إنه عبارة عن قوقعة فارغة وغير موجودة”.

ويضيف إلى ذلك رئيس المجموعة الاشتراكية في مجلس الشيوخ باتريك كانيه: “عندما يغادر ماكرون، ستنتهي الماكرونية، لأنها لا تملك عمودا فقريا أيديولوجيا أو تاريخا”.

كما يذكر الكتاب في آخر صفحاته أنه في صيف عام 2021، تمكن ماكرون من تنفيذ 86 وعدا فقط من أصل 401. من الواضح أن تفشي الوباء أعاق تنفيذ جميع الوعود الرئاسية، ولكن بالنسبة للمرشح الذي وعد بإحداث “ثورة” في برنامجه الانتخابي قبل 4 سنوات، نحن بعيدون جدا عن تحقيق ذلك.

حتى أن النائب بيير بيرسون -الذي انسحب من رئاسة الحركة عام 2020- أشار في الكتاب إلى أن الحزب “حقيبة فارغة” تأسست “لتكون آلة حرب تكسب معركة شخصية.. لتوصل مؤسسها إلى رئاسة الجمهورية، وهذه حالة فريدة في تاريخ فرنسا”.

وتابع بيرسون قائلا: “لم يتناول الحزب أي موضوع سواء عن السياسة الصناعية أو الاجتماعية، كما لم يقل ما يجب فعله بشأن كوفيد-19 أو سن المعاشات التقاعدية”. وحاول مؤلفا الكتاب تقديم خلاصة محورية للماكرونية التي أطلقا عليها اسم “الانتهازية” واعتبراها حركة لا يمكن تصنيفها لأن من يقودها “زعيم حرباء” شهم في شبابه، ومتطرف ليبرالي قبل عام 2017، مماطل وذو سيادة بعد الأزمة الصحية، مستشار ووزير الاقتصاد لرئيس اشتراكي، ثم رئيس دولة يعهدها إلى ماتينيون (مقر رئيس الوزراء) ومناصب رئيسية في حكومته المتعاقبة لشخصيات يمينية. يهنئ أنجيلا ميركل على استقبالها مليون لاجئ سوري عام 2015، ثم يدين “المشاعر الطيبة الكاذبة” بشأن قضايا الهجرة بعد ذلك بنحو 3 سنوات. حمّل فرنسا المسؤولية عن هجوم عام 2015 بتشكيل أرض خصبة للجهاديين، وأعلن العام الماضي الحرب على “الانفصالية الإسلامية” على الأراضي الفرنسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

9 − 3 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube