كيف بدأت الأزمة بين إيران وأذربيجان؟ ولماذا تصاعدت سريعا؟ وماذا يفعل السلاح الإسرائيلي على حدود إيران؟ وهل باتت أذربيجان حقا معقلا للنفوذ الإسرائيلي؟ في مقالهما المنشور على موقع “أوراسيا نت” يُسلِّط الكاتبان “جوشوا كوتشِرا” و”حيدر عيساييف” الضوء على تفاصيل الأزمة المتصاعدة بين طهران وباكو، والدور الذي تلعبه إسرائيل في تلك الأزمة.
بينما تستمر التدريبات العسكرية على جانبَيْ الحدود بين إيران وأذربيجان، تزداد حِدَّة المعارك الكلامية بين البلدين على خلفية الأزمة المشتعلة، فقد ردَّ الأذربيجانيون ردودا قاسية على الخطاب الهجومي القادم من طهران، ودافعوا عن أنفسهم بوجه الادعاءات الإيرانية عن وجود إسرائيلي داخل أذربيجان، وبدؤوا في اتخاذ التدابير اللازمة تجاه تهديدات إيران.
في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول، رد الرئيس الأذربيجاني “إلهام علييف” ردا صريحا للمرة الأولى على ادعاء إيران الأساسي الموجَّه إلى باكو، والقائل إن أذربيجان تستضيف على أراضيها وجودا إسرائيليا بشكل ما. “إنهم يتحدَّثون وكأن أذربيجان قد جلبت إسرائيل إلى هذه المنطقة، فليفتحوا أعينهم وينظروا. أين يرون إسرائيل هنا؟ لا يعيش شخص (إسرائيلي) واحد هنا، وما من بناية واحدة (تابعة لهم) هنا. هل من دليل؟ لا”، هكذا تحدَّث علييف أثناء زيارة له إلى مدينة “جبرائيل” جنوبي أذربيجان، الواقعة على بُعد أميال قليلة من الحدود الإيرانية. ثم وجَّه علييف تهديده الخاص إلى الإيرانيين: “إنني أقول هذا الكلام هنا في جبرائيل، بمحاذاة نهر “أراس” (الذي يرسم الحد الفاصل بين أذربيجان وإيران)، إن أي اتهامات لا دليل عليها توكل إلى الشعب الأذربيجاني لن تمر دون رد مِنَّا”.
حدود مشتعلة
أشعلت التوترات بين الجانبين جولة من التصعيد في سبتمبر/أيلول المنصرم، حين ألقت الشرطة الأذربيجانية القبض على عدد من سائقي الشاحنات الإيرانيين كانوا ينقلون البضائع إلى “ناغورني قره باغ”. ومنذ ذلك الحين والتوترات في ازدياد، إذ بدأت إيران بإجراء تدريبات عسكرية غير مسبوقة على حدودها مع أذربيجان في أول أكتوبر/تشرين الأول الحالي، بالتوازي مع شن المسؤولين الإيرانيين حملة شديدة اللهجة ضد أذربيجان. وقد ركَّزت الاتهامات الإيرانية على علاقات أذربيجان الوطيدة مع إسرائيل، لكنها سلَّطت الضوء أيضا على عدة قضايا أخرى، منها استخدام باكو لمرتزقة سوريين أثناء حربها الأخيرة مع أرمينيا (وهو اتهام تُصِرُّ باكو على إنكاره)، واحتمالية حدوث “تغييرات حدودية” في القوقاز لم تُعرَف طبيعتها بعد.
في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، أفادت وسائل الإعلام الأذربيجانية أن إيران أغلقت مجالها الجوي أمام الرحلات الجوية العسكرية الأذربيجانية المتجهة إلى إقليم “نختشيوان”، وهو إقليم تابع لأذربيجان لكنه منفصل كليا عنها، فتحيط به إيران من الجنوب والغرب، وأرمينيا من الشمال والشرق. وقد اتخذت إيران قرارها ذاك أثناء تدريبات عسكرية مشتركة بين أذربيجان وتركيا في نختشيوان، إذ إن النفوذ التركي المتنامي في أذربيجان، بالنظر إلى أن تركيا غريم إقليمي لإيران في القوقاز، بات أمرا مُقلقا بالنسبة لطهران.
في اليوم نفسه، أغلقت السلطات الأذربيجانية صالة للمُصلِّين تابعة لمكتب القائد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، في العاصمة الأذرية باكو، وبرَّرت قرارها بارتفاع حاد في الإصابات بفيروس “كوفيد-19″، وإن كان القرار الأذربيجاني قد أتى بعد يومين فقط من تصريحات لخامنئي نفسه عن الصراع المحتدم الآن بين البلدين. ففي تصريحات لخامنئي أمام دُفعة جديدة من خريجي الكلية الحربية في إيران، نُشر اختصار لها باللغة الأذرية في تغريدة عبر حسابه على موقع تويتر، وجَّه خامنئي تهديدا ضمنيا إلى أذربيجان قائلا: “أولئك الذين يحفرون الحُفَر لإخوانهم سيقعون هُم فيها”.
في خضم التوتر، سارع العديد من الأذربيجانيين إلى الهجوم على إيران والدفاع عن علاقة بلدهم بإسرائيل، بما في ذلك المعارضون لنظام علييف في الداخل. فقد كتب الناشط الأذربيجاني المعروف “بختيار حاجييف” على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” قائلا: “إن خامنئي يُهدِّد أذربيجان صراحة عبر تويتر”، كما كتب المؤرخ والمفكر الأذربيجاني المعروف “ألطاي جويوشوف” إن العلاقات الجيدة مع إسرائيل هي “أحد الأشياء الجيدة القليلة التي حدثت في أذربيجان”.
في مشهد آخر، جلب أربعة من “تنظيم الشباب القومي” في أذربيجان ثلاثة أباريق تقليدية من الماء، معروفة بـ “أفتابه”، وتُستخدم تقليديا في الاغتسال بعد قضاء الحاجة، وقد لوَّنوها بالألوان الثلاثة للعلم الإيراني، ثم وضعوها على عتبة السفارة الإيرانية في باكو. وانتشرت الصورة على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن النشطاء الأربعة اعتُقِلوا وغُرِّموا ما يكافئ ستين دولارا بالعُملة المحلية. وقد صرَّح “مُشفِق والييف”، أحد النشطاء الأربعة، لموقع الأخبار المحلية “Anews.az” أن مجموعته تحرَّكت بدافع الرد على “إهانة إيران للأذربيجانيين”.
تجدر الإشارة إلى أن رُبع سكان إيران هُم أيضا من الأذريين، ويتركَّزون في الشمال الغربي للبلاد على الحدود مع أذربيجان، وأن البلدين في العموم يدينان بالمذهب الشيعي. (وإن كان الانتماء لإيران راجح في أذربيجان الإيرانية التي لم تخُض مع جمهورية أذربيجان رحلتها الطويلة تحت لواء الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتي، ورغم ذلك، فإن هنالك بعض المطالب بالحُكم الذاتي لطالما ظهرت على مرِّ تاريخ أذربيجان الإيرانية، لا سيما أنها تحتل مكانة مركزية في تاريخ إيران بعاصمتها تبريز، التي خرج منها الصفويون ليحكموا إيران ويحوِّلوها إلى المذهب الشيعي قبل 500 عام، وظهر منها أيضا رجال دين شيعة بارزون. ورُغم رسوخ القومية الأذربيجانية في جمهورية أذربيجان بوصفها هوية منفصلة عن أذربيجان الإيرانية، فإن بعض القطاعات المتديِّنة في أذربيجان تتعاطف مع إيران نظرا لاتجاهاتها الإسلامية-الشيعية وتأثُّرها بالدعاية الإيرانية منذ الثورة الإسلامية عام 1979).*
من جهة أخرى، وجَّه عدد من النساء الأذربيجانيات المتديِّنات انتقادات حادة لإسرائيل واليهود قُرب إحدى المقابر العسكرية في أذربيجان، ومن ثمَّ اعتقلتهن الشرطة، وقد انتقدت الصحافية الأذربيجانية المعروفة “خديجة إسماعيل” الشرطة على انتهاك حقهن في التعبير، لكنها أضافت أن “أُسَر الشهداء لا يجب أن تجعل من مقابر أبنائها ساحة مفتوحة للنشاط الاستخباراتي الإيراني”.
نشاط دبلوماسي
على المنوال نفسه تصاعد النشاط الدبلوماسي، فقد استضاف “حسين أمير عبد اللهيان”، وزير الخارجية الإيراني، نظيره الأرمني “أرارات ميرزويان” في طهران يوم الرابع من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، ثم سافر إلى موسكو للقاء نظيره الروسي “سيرجي لافروف” بعد يومين. ومن جهتها، التزمت أذربيجان بموقف المدافع عن نفسه، ودحضت الشكاوى الإيرانية الموجَّهة ضدها، إذ أصدرت وزارة الخارجية الأذربيجانية بيانا مطوَّلا يرد على ادعاءات أمير عبد اللهيان، ويصر على أن “العلاقات بين شعبَيْنا في أعلى مستوياتها، وأن العلاقات بين أذربيجان وإيران تستند إلى صِلات وتعاون وصداقة تاريخية متينة”.
بيد أن تهديدات أذربيجانية مضادة ظهرت إلى السطح في الوقت ذاته، فقد صرَّحت “أسميرا جعفروفا”، المحلِّلة السياسة بمركز تحليل العلاقات الدولية التابع للحكومة الأذربيجانية، في حديث لها إلى شبكة التلفاز التركية “Anews” أن “أذربيجان دولة مستقلة، وأنه إذا أظهرت أي دولة محاولة التدخُّل في شؤوننا أو استخدام القوة معنا، فإن أذربيجان بالطبع تحتفظ بحقها في الرد المناسب، لكنني أعتقد أن البراغماتية والمنطق سيسودان عاجلا غير آجل، وأن كل ذلك سيُحَل”. بعد نفيه لوجود إسرائيليين في أذربيجان، لفت علييف الأنظار إلى مصدر النفوذ الإسرائيلي الوحيد الذي لا لبس فيه على أرض أذربيجان: المخزون الضخم من الأسلحة المتطورة التي اشترتها باكو من إسرائيل على مدار السنوات الماضية، فحين زار علييف جبرائيل (المُحرَّرة حديثا من الاحتلال الأرمني) افتتح نُقطة حدودية جديدة، ووقف يلتقط الصور مبتسما مع طائرة مُسيَّرة إسرائيلية من طراز “هاروب