تأليف كريس جرات، باتريك بروجان
تمكنت (الولايات المتحدة) في أثناء الحرب العالمية وكذلك الحرب الباردة أن تُثبت أنها قوة عالمية جديدة سيصعب على الكثير من الإمبراطوريات القديمة والراسخة منافستها على موقعها، وأصبحت (الولايات المتحدة) أهم دولة عالميًا وتؤثر قرارتها وتدخلاتها في كثير من الدول حول العالم على المستويات السياسية والاقتصادية وغيرها، وقد أصبح من الضروري معرفة التاريخ السياسي الداخلي لذلك الكيان الذي أصبحت سياساته الخارجية تؤثر على العالم بأسره.
1- كيف ظهرت (الولايات المتحدة) إلى الوجود؟
كانت أراضي (الولايات المتحدة) منذ اكتشافها عبارة عن مناطق متفرقة يأتي المستعمرون إليها ويستقرون بها في شكل جماعات وقد تحولت تلك الجماعات شيئًا فشيئًا إلى مستعمرات تابعة إلى الحكومة الإنجليزية، التي كانت تفرض ضرائب باهظة للغاية على الشعب هناك؛ مما دفعهم إلى الاتحاد معًا والثورة على تلك التبعية وإعلان استقلالهم عام 1776 م لتتحول حينها المستعمرات المتحدة إلى ولايات متحدة والولايات إلى دولة ترغب في تكوين نظام حكم على أساس جمهوري وحكومة جديدة على أساس ديمقراطي، وكانت الأزمة حينها هو عدم وجود نموذج لدستور جمهوري أو نظام حكم جمهوري في ذلك الوقت يمكن أن يحتذى به، وهكذا انعقد أول مؤتمر يناقش بنود وقوانين ذلك الاتحاد الوليد عام 1774 م.
وقد تم في ذلك المؤتمر وضع مواد أول دستور أمريكي في التاريخ والتي تم إقرارها عام 1777 م. أما في المؤتمر الثاني، فقد تم اختيار (جورج واشنطن) قائدًا للقوات المسلحة وذلك لتوحيد صفوف قوات المستعمرات الأمريكية أثناء مواجهتها للجيش الإنجليزي الذي أرسلته (إنجلترا) لاستعادة السيطرة على المستعمرات الثائرة، وقد كان لذلك الدور الذي لعبه (واشنطن) في أثناء الحرب وذلك المنصب الذي حصل عليه كقائد للقوات المسلحة كبير الأثر على التاريخ القادم لـ (الولايات المتحدة) بأكملها؛ حيث سيتم اختيار (جورج واشنطن) فيما بعد كي يصبح أول رئيس لـ (الولايات المتحدة) الأمر الذي سيمنح كافة الرؤساء الأمريكين بعد ذلك سلطات مطلقة على القوات المسحلة بوصفهم خلفاء له.
ومع انتهاء الحرب بين (إنجلترا) والمستعمرات الأمريكية عام 1783 م، ظهرت مشكلة أخرى بخلاف تلك المشكلة السابقة التي كانت تتعلق بوجود نموذج لدستور جمهوري. كانت المشكلة هذه المرة تتعلق بأن نمط الحكومة التي تم تكوينها بعد الاستقلال مباشرة لم تكن مؤهلة للتعامل مع السياسات والمشكلات الخارجية، بالإضافة إلى عدم قدرة تلك الحكومة على إيجاد حل لمشكلة الديون التي نجمت عن الحرب. كان من الضروري حينها وضع دستور جديد أكثر فاعلية ويمنح الحكومة صلاحيات وقواعد أكبر تمكنها من التعامل مع مختلف المشكلات والقضايا التي تواجه تلك الدولة الوليدة في إطار المبادئ التي نص عليها إعلان الاستقلال.
وقد نجح الدستور في التنسيق بين الاختلاف الواقع بين القوى والسلطات المختلفة؛ فقد كان لكل ولاية حكومتها التي تمتلك سلطة خاصة بها، لكن كان من الضروري ألا يتعارض ذلك مع قوة وسلطة الحكومة المركزية للاتحاد الفيدرالي الذي يضم كافة تلك الولايات مع بعضها البعض، وقد تمكن ذلك الدستور الجديد من التنسيق بين تلك السلطات حيث ترك للمحاكم مهمة الفصل في النزاعات التي تنشب بين السلطات المتضاربة، كذلك تم تقسيم السلطات إلى سلطة تنفيذية وأخرى تشريعية وأخرى قضائية لضمان عدم وقوع السلطة في يد فرد أو حاكم واحد. تصبح كافة أركان الدولة حينها وحتى المحاكم والقضاء في قبضة يده.
هكذا كان هناك (الكونجرس) الذي لا يستطيع السيطرة على الرئيس أو التشكيك في قدراته، كما أن ذلك الرئيس لا يستطيع أن يسيطر على القرارات والقوانين التي يشرَعها (الكونجرس)، وفي النهاية هناك المحاكم العليا التي تقرر أي من تلك القوانين يمكن أن يدخل حيز التنفيذ أو الدستورية، بالإضافة إلى ذلك كان هناك مجلس النواب ومجلس الشيوخ للولايات. وقد كان الهدف منهما ضمان تمثيل كافة الولايات وتوصيل أصواتها وأهدافها ومصالحها دون أن تقع الولايات الصغرى فريسة للولايات الكبرى؛ فقد كان مجلس الشيوخ يتألف من عضوين من كل ولاية بغض النظر عن حجم الولاية أو تعداد سكانها للحفاظ على اهتمامات ومصالح الولايات الصغرى.
كان الرئيس يفتقر إلى ممارسة سلطة مباشرة على الولايات وحكومتها الإقليمية، لكن بمرور الزمن تم توسيع نطاق الصلاحيات الفيدرالية ورئيس الجمهورية وسلطاتهما على حساب الولايات؛ فسلطات البوليس والمدارس على سبيل المثال تخضع للعمدة أو حاكم الولاية لا لرئيس الجمهورية لكن في الوقت نفسه يتمتع رئيس الجمهورية بسلطات غير مباشرة منقطعة النظير. على سبيل المثال، تحدد (واشنطن) أوجه إنفاق الأموال المجباة من الضرائب وهذه في حد ذاتها من أعظم السلطات، مما يعني أن أهم القرارات يتم صياغتها في (واشنطن)، وقد كان هناك في عام 1980 م تحرك نحو إعادة إحياء سلطات الولايات لكن ذلك التحرك لم يأتِ بثماره المنشودة، فقد كان التحول الأعظم في السلطة من الولايات إلى (واشنطن) الذي حدث في فترة الكساد الكبير والصفقة الجديدة على يد الرئيس (فرانكلين روزفلت) من الصعب زعزعته.
2- الأحزاب السياسية الأمريكية؛ الديمقراطيون والجمهوريون
لم يكن لدى الآباء المؤسسين لـ (الولايات المتحدة) رؤية شاملة لما يجب أن تكون عليه الممارسات الديمقراطية والانتخابية والتي ينبثق عنها الأحزاب السياسية، لكنهم اعتقدوا أنه إذا ظهرت تلك الأحزاب إلى الوجود فإنها ستكون عبارة عن مجموعة من الأشخاص الفاسدين الذين يرغبون في تحقيق أغراض شخصية على حساب الصالح العام، لذا فقد حذروا من تواجدها لكن ذلك التحذير ذهب أدراج الرياح فقد ظهرت الأحزاب السياسية الأمريكية بقوة عام 1789 م، وكانوا في الأساس حزبين لم يستطع أي حزب آخر طوال التاريخ الديمقراطي لـ (الولايات المتحدة) منافستهما لمدة طويلة وهما: الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري.
تأسس الحزب الديمقراطي في العشرينيات من القرن التاسع عشر، بينما تأسس الحزب الجمهوري عام 1856 م وقد كان يمثل حزب المعارضة الذي يختلف كثيرًا مع مبادئ وأفكار الحزب الديمقراطي؛ حيث كان الحزب الجمهوري يناهض العبودية والرق ويشجع إلغاءهما، وتخفيض التعريفة الجمركية على الصناعات المحلية أثناء تنقلها بين الولايات لمنحها ميزة نسبية وتنافسية وحمايتها من إغراق السوق بالصادرات الإنجليزية، وقد كانت مناهضتهم للرق تحديدًا هي التي مكنّت مرشحهم (إبراهام لينكولن) من الفوز بانتخابات الرئاسة عام 1860 م. وحين قام (لنكولن) بإلغاء الرق، اندلعت الحرب الأهلية بين الولايات الشمالية المؤيدة لهذا القرار والولايات الجنوبية المناهضة له لأنه ضد مصالحها الاقتصادية التي تعتمد كثيرًا على العمالة من العبيد، وقد كانت تلك الولايات تعتنق المذهب الديمقراطي وتتبنى اتجاهات محافظة وعنصرية، ومع انتصار (لنكولن) وحزبه في تلك الحرب تمكن الحزب الجمهوري من السيطرة على السياسة القومية حتى عام 1929 م حين اندلع الكساد في البلاد وفشل الحزب في السيطرة على الأزمة وعلاجها. ومن هنا عاد الحزب الديمقراطي مرة أخرى للسيطرة على السلطة ومنافذ القوى بالتناوب مع الحزب الجمهوري، حتى أصبح من الصعب على الأمريكيين التفكير في دعم حزب آخر أو وجود حكومة تتبنى اتجاه آخر غيرهما