https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

المؤلف: بوريس أيزنبوم   2004يعرض هذا الكتاب لصراعات النفوذ في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى بين القوى الكبرى والإقليمية لاسيما بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، وهو من تأليف الفرنسي بوريس أيزنبوم المختص في الجمهوريات السوفياتية السابقة والذي سبق وعمل في العقد الماضي في برنامج الأمم المتحدة للتنمية وفي تمويل مشاريع النفط في القوقاز وأسيا الوسطى.

يعتبر المؤلف أن ما تشهده منطقة آسيا الوسطى ليس فقط صراعا بين الولايات المتحدة وروسيا، بل إنه يتجاوز الرهان النفطي إلى إطار أوسع لأنه يطرح قضية التوازن السياسي العسكري والإستراتيجي في منطقة تعرف منذ انهيار الاتحاد السوفياتي حالة عدم استقرار مزمنة وأزمة اقتصادية حادة.
أما الإسلام السياسي الذي هو سبب ونتيجة في نفس الوقت فهو متنام، وقد بلغ عدم الاستقرار درجاته القصوى مع الحرب الأهلية في طاجيكستان التي تناحر فيها الإسلاميون والشيوعيون الجدد والتي أودت بحياة أكثر من 50 ألف شخص.
كما أن الأزمة الأفغانية خاصة بعد استيلاء طالبان على الحكم قد أخلت بالاستقرار الداخلي لبلدان المنطقة.
ويلخص المؤلف مقاصد التدخل الأميركي في أفغانستان في هدفين: الأول قصير المدى وهو إسقاط نظام طالبان واستئصال شبكة القاعدة، والثاني، بعيد المدى وهو التموقع الإستراتيجي في قلب المنطقة، مما يمنح أميركا موضعا مركزيا للشروع في استغلال نفط آسيا الوسطى بعد إخراج بلدانها من دائرة نفوذ وضغط روسيا تحديدا، والصين وإيران عموما.
ويرى الكاتب أن الوضع الجيوسياسي يشبه في نقاط عديدة التنافس بين روسيا الإمبراطورية وبريطانيا في القرن التاسع عشر من أجل التحكم في نفس المنطقة، حيث أن احتلال روسيا لها أقلق بريطانيا المعنية بحماية مستعمراتها في الهند.

هذا التنافس، الذي سماه ريدار كيبلينغ بـ”اللعبة الكبرى”، يشبه لعبة شطرنج يتواجه فيها الطرفان مع الحرص على تفادي المواجهة المباشرة.

ففي عام 1907 توصلت القوتان إلى حل وسط يتمثل في أن توضع آسيا الوسطى تحت التحكم الروسي، فيما تصبح أفغانستان دولة عازلة بين الهند البريطانية وممتلكات القيصر الجديدة، بينما قسمت إيران إلى منطقتي نفوذ “روسية في الشمال وبريطانية في الجنوب”.

أما الجغرافيا فتشكل عنصر استمرارية مثيرا للغاية بين اللعبتين، الأولى والجديدة، لأن صراع النفوذ يخص المنطقة ذاتها والتي تضم اليوم خمس جمهوريات مسلمة “كزاخستان، أوزباكستان، قرغيزيا، طاجيكستان، وتركمنستان”، بينما يشكل عدم استقرار روسيا عنصر الاستمرارية الثاني.

وقد أرادت بريطانيا ملء الفراغ الناجم عن انهيار الإمبراطورية الروسية لفرض نفسها كقوة مسيطرة في آسيا الوسطى، وبعدها بـ70 سنة سعت لاستغلال الفراغ الناتج عن انهيار الاتحاد السوفياتي للغرض نفسه.

وحتى وإن كانت اللعبة الجديدة وريثة للأولى فإنها “لعبة كبرى جديدة” صقلتها التحولات التي عرفها العالم عموما وآسيا الوسطى خصوصاً.

لقد شهدت اللعبة الأولى مواجهة بين روسيا وبريطانيا، وتهميشا للصين وإيران، أما اللعبة الجديدة فتشمل أربع فاعلين: روسيا، الولايات المتحدة، الصين وإيران، وبدرجة أقل تركيا وباكستان، وبالتالي فهي أعقد من الأولى من حيث عدد اللاعبين والعلاقات القائمة بينهم في عالم معولم.

المرحلة الأولى


وقد أبدت أميركا حذرا في تعاملها مع المنطقة، فهي لم تكن راغبة في عرقلة عملية التحول الديمقراطي في روسيا، ولا في استخلافها كقوة مسيطرة في آسيا الوسطى، ولا في رؤية إيران والصين تثبتان أقدامهما في المنطقة، لذا شجعت تركيا للتموقع فيها، وما كان يهم أميركا (1991-1993) هو منع الانتشار النووي وتفكيك ترسانة كزاخستان النووية.

بدأت هذه اللعبة مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بين روسيا، أميركا، تركيا، إيران والصين، وفي البداية شهدت هذه اللعبة انسحابا جزئيا لروسيا، فيما عبرت تركيا وإيران عن مطامحهما في الوقت الذي أبدت فيه أميركا الحذر, أما حليفها الباكستاني فحاول التموقع في المنطقة.

وقد خلق الموقف الروسي فراغا إستراتيجيا حاول كل من تركيا وإيران استغلاله، فتحركت تركيا وفق سياسية تقول بالعمل بين الدول الناطقة بالتركية ويحركها النفط “لتبعيتها في مجال الطاقة”.

إلا أن مطامحها كانت تتجاوز قدراتها المادية، كما أنها من جهة أخرى اصطدمت بالصراعات في القوقاز وآسيا الوسطى، والصراعات في جورجيا وصراع ناغورنو قره باغ بين أرمينيا وأذربيجان حيث انحازت تركيا لهذه الأخيرة على حساب أرمينيا حليفة روسيا.

فكان أن صعدت روسيا عام 1993 من لهجتها ضد تركيا مما جعلها تراجع مطامحها في المنطقة، وفي نفس السنة انهزمت أذربيجان عسكريا أمام أرمينيا وكانت النتيجة -بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية- حدوث انقلاب عسكري جاء بحكم جديد قريب من روسيا، وهكذا لم تتمكن تركيا من فرض نفسها لعدم التطابق بين إمكاناتها وأهدافها الجد طموحة.

أما إيران فلم يكن لسياستها غطاء أيديولوجي لافتقار نموذجها للأنصار في الجمهوريات المسلمة، لذا جاء تحركها برغماتيا، حيث تقربت من تلك الجمهوريات لكنها أبقت على علاقات مميزة مع روسيا واعترفت لها بدورها المسيطر في آسيا الوسطى، مما سمح لها بالحصول على معدات عسكرية ومفاعل نووي من روسيا.

كما أن فوائد العلاقة مع روسيا تتجاوز بكثير ما قد تجنيه إيران من دعمها للحركات الإسلامية في آسيا الوسطى، وهو أمر عكسه وقوف الأخيرة موقفا محايدا في صراع ناغورنو قره باغ.

أما الصين فإن انهيار الاتحاد السوفياتي يطمئنها بقدرما يقلقها، فاختفاء تهديده خلف تهديدات أخرى، إذ تتخوف الصين من أن يزيد التقارب الروسي-الأميركي من عزلتها الدولية. وإقليميا، فإن ظهور خمس جمهوريات جديدة على حدودها الغربية يؤجج النزعة الانفصالية في مقاطعة سين كيانع المسلمة الغنية بالنفط.
وعليه اعترفت الصين بمركزية روسيا في آسيا الوسطى مقابل إنهائها عزلتها الدبلوماسية والحصول على معدات عسكرية ومدنية روسية ذات تكنولوجيا عالية.

المرحلة التالية
بداية من 1994 بدأت سلوكيات اللاعبين تتغير بفعل عوامل عديدة أهمهما النفط، حرب الشيشان السياسة الأميركية الجديدة، استيلاء طالبان على الحكم.

ونظراً لزيادة استهلاكها الداخلي، عملت أميركا على تنويع مصادر الإمداد لتخفيض تبعيته لنفط الخليج، وأبرمت شركاتها عقودا مع كزاخستان وأوزباكستان.

وبدت واشنطن معنية مباشرة بمنطقة آسيا الوسطى في سياق تقديرات بالغت في حجم احتياطات حوض قزوين.

لكن إضافة إلى عدم الاستقرار السياسي وصعوبة استغلال نفط قزوين، هناك مشكلة النقل، ذلك أن نفط المنطقة مجبر على المرور عبر شبكة الأنابيب الروسية التي تعبر شمال القوقاز غير المستقر بسبب الحرب في الشيشان، لذا استبعدت أميركا عبور النفط عبر الأراضي الروسية، وأصرت على خط غربي عبر جورجيا إلى تركيا.

وبداية من 1995 دافعت عن بناء خط أنابيب باكو/ سيحان لتفادي مروره عبر الأراضي الروسية أو الإيرانية، بينما تقول روسيا بمشروع خط باكو/ نوفوروسيسك على البحر الأسود.
ولازال الخلاف قائما.. لفرض وجهة نظرها، وقد عملت أميركا على تدعيم سيادة جمهوريات آسيا الوسطى لإخراجها من التبعية لروسيا وإدخالها في برنامج الشراكة من أجل السلام للحلف الأطلسي وتوقيع اتفاقات معها في مجالات الأمن والدفاع.

وفي 1997 شارك جنود أميركيون في مناورات في كزاخستان في إطار الشراكة من أجل السلام مما يشهد على تنامي النفوذ الأميركي في تخوم روسيا.

وتزامن هذا مع أفول روسيا (مشاكل اقتصادية، الحرب في الشيشان، محدودية الموارد المالية، عجزها عن تقويض الإسلام السياسي المتشدد في المنطقة…)، كل هذا خلع أي مصداقية عن مشروع الأنبوب الروسي فيما تدعم منافسه الأميركي.

صراع الأنابيب
لقد غير استيلاء طالبان على الحكم في كابل التوازن الإقليمي في المنطقة، بداية وفي ظل غموض السياسية الأميركية اتصلت شركات أميركية بطالبان من أجل مد خط أنابيب يمر بأفغانستان إلى باكستان، لكن الخيار الأفغاني سقط عقب تفجير السفارتين الأميركيتين في شرق أفريقيا.
وركزت واشنطن جهودها على خط باكو/ جورجيا/ سيحان، بيد أن روسيا تمكنت من مواجهة هذا الخط بالتوصل إلى اتفاق مع شركة أجيب الإيطالية وتركيا لمد خط غاز بحري يعبر البحر الأسود.

لكن أميركا قلبت الموازين مجددا بحصولها سنة 1999 على قرار نهائي من أذربيجان، جورجيا وتركيا بشأن خط الأنبوب الذي تدافع عنه.

إلا أن الأمور لم تفلت من يد روسيا التي سجلت عودة قوية بما في ذلك في مجال النفط (ارتفاع الأسعار جعلها تسعى لإنشاء كارتل للمنطقة الآسيوية الأوروبية، والتحكم في حوض قزوين يعطيها طبعاً الثقل اللازم للإفلات من دور الأوبك وخاصة العربية السعودية).

بينما اتضحت محدودية الاختراق الأميركي للمنطقة: فجورجيا (قاعدة نفوذها) تعاني حالة عدم استقرار مزمنة، والتقديرات بخصوص احتياطات حوض قزوين النفطية تمت مراجعتها والتدقيق فيها بشكل كبير (قزوين ليس عربية سعودية جديدة)، وكذا مغادرة العديد من الشركات النفطية لبعض دول المنطقة بعد تنقيب غير مثمر، كما فشلت أميركا في جلب الشركات النفطية لدعم خط أنبوبها الغربي.


أثر 11 سبتمبر
أدخلت هجمات 11 سبتمبر اللعبة الكبرى في مرحلة جديدة، فقد غير التدخل الأميركي في أفغانستان ونشر قواعد أميركية في آسيا الوسطى من التوازن الإقليمي وكرس الدور الأميركي فيها, لكن رغم صراع النفوذ بينهما، فإن مصالح روسيا وأميركا تتقاطع في أكثر من نقطة بفعل أحداث 11 مما جعل روسيا تلزم ضبط النفس حيال انتشار النفوذ الأميركي في المنطقة.

فروسيا شعرت بالارتياح لسقوط طالبان ولها مصلحة في استقرار أفغانستان، وقد سمح لها 11 سبتمبر بإسكات الانتقادات الدولية بشأن الحرب في الشيشان، وبالتقارب أكثر مع أميركا بعد التوتر في علاقتهما بسبب أزمة كوسوفو.

أما الصين التي ارتاحت أيضا لسقوط طالبان، فإنها لم تنجح في إحراز إقرار دولي بسياستها القمعية في سينكيانغ كجزء من الحملة العالمية ضد الإرهاب.

وسعيا لتقليل اعتمادها على النفط السعودي، تعمل أميركا على زيادة استثماراتها في آسيا الوسطى والشروع في بناء خط باكو/ تبيليسي/ سيحان، فقد نجحت في إقناع الشركات النفطية في الاستثمار في المشروع، لكنها لم تتمكن من إقناع روسيا بالمشاركة فيه.

أما الصين فترى مصالحها النفطية مهددة من قبل تنامي النفوذ الأميركي في آسيا الوسطى، خاصة وأن أنبوب كزاخستان/ سينكيانغ لازال في طور المشروع فقط.


بحكم محدودية إمكاناتهما اعترفت الصين وإيران بمنطقة نفوذ روسية في آسيا الوسطى، ولمواجهة هذا الوفاق الثلاثي عملت أميركا على تعزيز وجودها في المنطقة


وأما إيران، التي لا زالت في عزلة دولية وقابعة تحت عقوبات أميركية، فهي تعارض تقسيم أعماق بحر قزوين حسب الخط الوسيط، وتريد استغلال حصتها الخاصة من قزوين، وتعمل على تقوية تعاونها مع كزاخستان وتركمانستان، وعلى رفع قدرات أنبوب النفط التركماني الإيراني.

ختاما يقول المؤلف إن اللعبة شهدت عدة مراحل، أقصي فيها عدة لاعبين مثل تركيا وباكستان (التي قبلت بعد 11 سبتمبر نهاية نظام الطالبان، الذي كان حجر الأساس في سياستها الإقليمية)، ولم يبق إلا روسيا، أميركا، الصين وإيران.

لكن السير السريع لجمهوريات آسيا الوسطى في فلكها لا يبدو ممكنا حاليا ولا هدفا لأميركا التي تميل إلى الإدارة الثنائية للأزمات مع روسيا.

ويرى الكاتب أن أي محاولة أميركية لفرض نفسها في اللعبة الكبرى تمر عبر إحلال الاستقرار السياسي في أفغانستان وتطبيع العلاقات مع إيران، فالأمر الأول يرفع التهديد الذي تمثله الفوضى الأفغانية على دول الجوار، والثاني يمنح لأميركا منفذا مباشرا لآسيا الوسطى ويحدث ثغرة في المثلث الإستراتيجي الذي تسعى روسيا لإقامته مع الصين وإيران.

المصدر: الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة × 1 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube