*وسط القلق المتنامي حول نفوذ جمهورية الصين الشعبية الآخذ في الانتشار بسرعة في أرجاء المعمورة، تتوجه أنظار بكين الآن إلى القارة الإفريقية.وهذا الاهتمام الصيني بإفريقيا ليس بالأمر الجديد.ففي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تركز اهتمام بكين على بناء جسور التضامن العقائدي مع البلدان النامية الأخرى لتعزيز الشيوعية الصينية، وعلى صد المد الاستعماري الغربي.وفي أعقاب الحرب الباردة، تطورت الاهتمامات الصينية إلى مساع ذات صيغة براجمائية كالتجارة، والاستثمار، والطاقة.وفي السنوات الأخيرة، أخذت بكين تنظر إلى القارة الإفريقية باعتبارها منطقة ذات أهمية اقتصادية واسترا تيجية كبيرة.وبدأت أمريكا تجد مع حلفائها وأصدقائها أن رؤيتها لقارة إفريقية مزدهرة تحكمها ديمقراطيات تحترم حقوق الإنسان، وحكم القانون، وتؤمن بحرية السوق، تواجه تحدياً عبر النفوذ الصيني المتزايد في إفريقيا.وتقوم جمهورية الصين الشعبية بمساعدة وتحريض الأنظمة الدكتاتورية القمعية والمعدمة في إفريقيا عبر إضفاء صفة الشرعية على سياساتها المضللة والثناء على نماذجها التنموية باعتبارها تناسب ظروفها الوطنية الخاصة.وتعرض بكين النموذج التنموي الصيني الفريد، والنمو الاقتصادي الكبير الذي تحققه تحت إشراف دولة شمولية منضبطة يحكمها حزب واحد، وتتمتع بكامل السلطة، إن لم نقل السيطرة، على جميع نواحي النشاط الاقتصادي- باعتباره مثالاً يجدر أن يحاكيه الآخرون.يضاف إلى ذلك أن الصين تكافئ أصدقاءها الأفارقة بالدعم السياسي والمساعدات الاقتصادية والعسكرية، الأمر الذي يفاقم من حالات النزوح القسري التي يتعرض لها السكان، ومن الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في البلدان المضطربة كالسودان وزمبابوي.ونتيجة لذلك، فإن الدعم الصيني لأعمال القمع السياسي والاقتصادي في إفريقيا يقف في مواجهة النفوذ التحرري لشركاء إفريقيا التقليديين من الأوروبيين والأمريكيين.وتعكس الحملة القوية التي تشنها الصين لتطوير روابط وثيقة مع بعض البلدان الإفريقية سعي بكين على الصعيد العالمي لعزل تايوان دبلوماسياً (سبع من الدول ال 26 التي لها علاقات دبلوماسية كاملة مع تايوان هي دول إفريقية).إن الأثر الأكثر ضرراً للاهتمام الصيني المتجدد بإفريقيا هو أن الصين تضفي شرعية على الأنظمة القمعية في إفريقيا وتشجعها، الأمر الذي يزداد معه احتمال وجود دول ضعيفة وفاشلة.ويجب أن تتنبه أمريكا أيضاً إلى احتمال تشوش وصولها في المدى الطويل إلى مصادر المواد الخام والطاقة المهمة لأن الشركات الصينية “تغلق”هذه الموارد وتكرسها للسوق المحلية الصينية للمحافظة على النمو الاقتصادي للصين.وتكمن المصالح القومية للولايات المتحدة في التصدي لهذه التطورات بفعالية في القارة الإفريقية عبر تشجيع العمليات الديمقراطية، والحرية الاقتصادية، واحترام حقوق الإنسان في تلك القارة.
السعي وراء الموارد الطبيعية
طيلة العقد الماضي والاقتصاد الصيني يتوسع بمعدل نمو سنوي من خانتين عشريتين.ويتطلب هذا التوسع السريع موارد هائلة، وخاصة الطاقة.دفع الطلب المحلي الصيني الذي يتزايد بحدة على الطاقة، والذي يترافق مع هبوط الإنتاج المحلي من البترول وعدم كفاية ما تنتجه الصين من الفحم، دفع بكين إلى البحث عن مصادر خارجية مستقرة للمحروقات الهيدروكربونية.وأصبحت الصين في عام 2004 ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة.ومن المتوقع أن يزداد استهلاك الصين من النفط بنسبة 10 في المائة سنوياً، بينما يتوقع أن تزداد واردات الصين من النفط والغاز من 33 في المائة حالياً من احتياجاتها الإجمالية من النفط والغاز إلى 60 في المائة في عام 2020.ولا ينمو الإنتاج الآسيوي من النفط والغاز بالسرعة الكافية لتلبية الاحتياجات الصينية، علماً بأن جزءاً كبيراً من النفط والغاز اللذين ينتجهما الشرق الأوسط يخصص في العادة إلى الأسواق الأمريكية والأوروبية.وفي محاولة منها للسيطرة على احتياجاتها الاستهلاكية من النفط والغاز في ظل ارتفاع أسعار الأسواق الفورية بشكل حاد، ركزت بكين على البلدان الإفريقية كأهداف محتملة للاستحواذ على الشركات المنتجة للمواد الهيدروكربونية فيها.وتشير التقديرات إلى أن 25 في المائة من واردات الصين الإجمالية من النفط يأتي حالياً في إفريقيا، مما حدا بالصين إلى أن تضع في أعلى سلم أولوياتها الاحتفاظ بعلاقات قوية مع موردي الطاقة الإفريقيين لها، وذلك عير الاستثمار، والزيارات التي يقوم بها كبار المسؤولين، والالتزام بسياسة “عدم التدخل في الشؤون الداخلية” لتلك البلدان، الأمر الذي يشعر معه الحكام الدكتاتوريون في إفريقيا بالراحة.استثمرت الشركات التابعة للحكومة الصينية مليارات الدولارات في العملات الأجنبية واستخدمت الموارد الهندسية والإنشائية الصينية للبنى التحتية الخاصة بتطوير موارد النفط والغاز والمعادن وغيرها من المصادر الطبيعية في عشرات البلدان الإفريقية، ومن بينها الجزائر، وانجولا، والجابون، ونيجيريا، والسودان، وزمبابوي.والهدف الواضح للاستثمارات الصينية الجديدة في الطاقة الإفريقية، هو تكملة وارداتها النفطية من الشرق الأوسط.
* حظي السودان الذي يمد الصين بنسبة 7 في المائة من وارداتها الإجمالية من النفط بالقدر الأكبر من الاستثمارات الصينية. وتعتبر الشركة الوطنية الصينية للبترول أكبر مساهم منفرد في شركة النيل الكبرى للبترول التي تسيطر على حقول النفط في السودان، كما استثمرت 3 مليارات دولار في إنشاء مصافي النفط وخطوط الأنابيب في السودان منذ عام 1999.
* في شهر آذار (مارس) 2004، قدمت بكين قرضاً قيمته مليارا دولار إلى أنجولا مقابل إبرام عقد معها لإمدادها بـ برميل100.000 من النفط الخام يومياً. وبموجب العقد، سوف يعاد استثمار القرض في أعمال البنية التحتية، على أن تذهب نسبة 70 في المائة من قيمة القرض إلى الشركات الصينية، ونسبة ال 30 في المائة المتبقية إلى مقاولي الباطن المحليين.
* في شهر تموز (يوليو) 2005، أبرمت شركة بتروتشاينا صفقة قيمتها 800 مليون دولار مع شركة النفط الوطنية النيجيرية لشراء 30.000 برميل من النفط يومياً على مدار عام واحد.
* في شهر كانون الثاني (يناير) 2006، وبعد أن فشلت شركة China National Offshore Oil في الاستحواذ على شركة يونوكول ذات الملكية الأمريكية، قامت بشراء حصة 45 في المائة في حقل النفط والغاز البحري في نيجيريا بمبلغ 2.27 مليار دولار، ووعدت باستثمار 2.25 مليار دولار أخرى في تطوير الحقل.
* شهدت صناعة النفط المتداعية في الجابون أيضاً استثماراً كبيراً من الشركة الصينية للبتروكيماويات التي تخطط للتنقيب عن احتياطيات الجابون البرية والبحرية من النفط.
* تظل جنوب إفريقيا وزمبابوي مصدرين للبلاتين وخام الحديد بالنسبة لبكين.
* في عام 2004، كانت هناك أكثر من عشر زيارات متبادلة قام بها كبار المسؤولين الحزبيين والحكوميين بين الصين والبلدان الإفريقية. وتمحور معظم تلك الزيارات حول التعاون الاقتصادي وفي مجال الطاقة. فعلى سبيل المثال:
* في شهر شباط (فبراير) 2004، قام الرئيس الصيني هو جنتاو بزيارات إلى الجزائر، والجابون، ونيجيريا، أكبر البلدان المنتجة للنفط في إفريقيا، وذلك لضمان أمن الإمدادات النفطية.
* في شهر حزيران (يونيو)، قام نائب الرئيس الصيني زينغ كينغ هونغ بزيارات إلى تونس، وتوغو، وبنين، وجنوب إفريقيا التي تتوفر فيها احتياطيات كبيرة من المعادن.
* في الفترة من تشرين الأول- تشرين الثاني (أكتوبر- نوفمبر) من عام 2004، قام رئيس المؤتمر الشعبي الصيني وو بانجوو بزيارة كل من كينيا، وزمبابوي، وزامبيا، ونيجيريا.
ركزت جميع هذه الزيارات على الفرص المشتركة لاستكشاف النفط والمعادن والمواد المتجددة في المنطقة. ورداً على تلك الزيارات، قام كبار الزعماء في كل من كينيا، وليبيريا، وجنوب إفريقيا وزمبابوي بزيارة بكين، وحصلوا على مزيد من الاستثمارات والمساعدات الاقتصادية من الصين. وفي شهر كانون الثاني (يناير)، قام وزير الخارجية الصيني، لي زهاوزينغ برحلة زار خلالها ستة من بلدان غرب إفريقيا هي الرأس الأخضر، والسنغال، ومالي، وليبيريا، ونيجيريا وليبيا، وترافقت الزيارة مع صدور بيان “السياسة الإفريقية للصين” وهو كتاب صادر عن الحكومة الصينية يهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي، وكذلك إلى مشاريع التطوير المشتركة للطاقة دون تدخل أي بلد في الشؤون الداخلية للبلد الآخر.
وكثفت الحكومة الصينية جهودها من أجل تأمين الوصول الحصري إلى الموارد الطبيعية الإفريقية، وصحب ذلك حملة قوية للفوز بحظوة الحكام الطغاة والمستبدين في إفريقيا. فعلى سبيل المثال، لطالما حرضت حكومة السودان على أعمال الإبادة الجماعية وقامت بارتكابها ضد قسم كبير من أهالي إقليم دارفور غير المسلمين. وبينما تسعى كل من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، واليابان وغيرها من الديمقراطيات الغربية إلى فرض عقوبات على النظام السوداني الحاكم بسبب تلك المذابح، تعارض الصين قيام الأمم المتحدة بفرض العقوبات على الخرطوم.
وعبر السنوات العديدة الماضية، أجبرت حكومة الخرطوم مئات الآلاف من السكان على الهروب من منازلهم في منطقة حقول النفط الكبيرة في الجنوب والمملوكة للشركة الصينية الوطنية للبترول. وفي الحقيقة، استخدمت قوات الحكومة السودانية والميليشيات المتحالفة معها طائرات هيليكوبتر صينية الصنع متمركزة في مهابط الطائرات التابعة للشركات الصينية، وذلك في غاراتها التي تسببت في تدمير مئات البلدان والقرى الواقعة حول المنشآت النفطية.
وتشكل الملاحظات التي أدلى بها نائب وزير الخارجية الصيني، زهو وينجونغ في مقابلة أجريت معه مؤخراً برهاناً على عدم اهتمام الصين بالتقلبات السياسية في إفريقيا:
العمل عمل.إننا نحاول فصل السياسة عن العمل.
وثانياً، أعتقد أن الوضع الداخلي في السودان هو شأن داخلي، ولسنا على استعداد لاستغلالهم.
مبيعات الأسلحة والتعاون العسكري
تعتبر الدكتاتوريات الإفريقية من الزبائن الدائمين الذين يواظبون على شراء الأسلحة والمعدات العسكرية الصينية التي كثيراً ما تستخدمها لقمع الأقليات السكانية، وسحق المعارضة السياسية والتحرش بالدول المجاورة، والقضاء على أي بصيص للديمقراطية. ففي عام 2004، ورغم الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على بيع الأسلحة إلى زمبابوي، باعت الصين لها طائرات مقاتلة وعربات عسكرية قيمتها 200مليون دولار. وبالإضافة إلى ذلك، زودتها الصين بمحطة إذاعة عسكرية قوية استخدمتها حكومة هراري للتشويش على بث التقارير المناهضة للحكومة من المنافذ الإعلامية المستقلة أثناء الحملة الانتخابية التشريعية في عام 2005.
وعندما تولى الرئيس روبرت موغابي زمام السلطة في عام 1980، كانت زمبابوي واحداً من أكثر البلدان ازدهاراً في إفريقيا. ولكن موجابي دأب على قمع خصومه السياسيين والقبائل المعارضة له، الأمر الذي أدى إلى حدوث انكماش كبير في اقتصاد البلد. وتواجه زمبابوي الآن نقصاً مزمناً في المواد الغذائية، ووصلت نسبة البطالة فيها إلى 70 في المائة. وفي شهر أيار (مايو) 2005، أصدر موجابي أوامره بتنفيذ برنامج إزالة القذارة الذي يرمي إلى الطرد القسري وإزالة عشرات آلاف المنازل والمباني غير المرخصة التي تعود لسكان المدن. وتقدر الأمم المتحدة أن هذه العمليات أدت إلى تشريد 700.000 شخص معظمهم من مؤيدي المعارضين السياسيين لموجابي. وفاقم موجابي تلك الكارثة بمنعه وكالات الإغاثة الدولية من تقديم المساعدات الإنسانية للمشردين.
وقد أدت الانتهاكات المتكررة لنظام موجابي إلى قيام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على المسؤولين الزمبابويين الذي شاركوا في صياغة، أو تنفيذ أو دعم السياسات التي أدت إلى تدمير المؤسسات الديمقراطية في ذلك البلد. وبسبب العزل والضغط المتزايد من الدول الغربية، لجأت زمبابوي إلى تطوير علاقات وثيقة مع الصين، عبر تبني سياسة “انظر إلى الشرق” التي تمكِّن موجابي من تجنب آثار العقوبات الغربية وتجنب الانتقادات التي توجه لسياساته. وتقدم الصين لموجابي احتياجاته العسكرية دون التدخل في شؤونه الداخلية، وتكيل المديح له باعتباره رجل الانجازات العظيمة، والذي يعمل من أجل السلام العالمي، والصديق الوفي للشعب الصيني.
وللصين سجل في بيع الأسلحة وخطوط إنتاجها عبر مشاريع تملكها الدولة والشركات الأمامية للأنظمة القمعية مثل ليبيريا والسودان.
* تستخدم حوالي 80 في المائة من إيرادات السودان السنوية من النفط في شراء الأسلحة من أجل إخضاع المتمردين في جنوب السودان. وبمساعدة صينية، قامت الحكومة السودانية مؤخراً ببناء ثلاثة مصانع للأسلحة بالقرب من الخرطوم.
* في عام 2003، تم اتهام عدة شركات في هونغ كونغ بتهريب الأسلحة غير القانونية التي تشمل رشاشات الكلاشينكوف، والرشاشات، وعربات إطلاق الصواريخ إلى ليبيريا، وسيراليون، وساحل العاج المجاورة التي شارك الثوار والمرتزقة فيها في الحروب الأهلية الدائرة هناك. وأدت تجارة الأسلحة غير المشروعة إلى قيام مجلس الأمن الدولي بإصدار قرار في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2004، يقضي بحظر جميع أشكال الاتجار بالأسلحة والأخشاب والالماس مع ليبيريا. وأشار القرار إلى العلاقة بين التجارة غير المشروعة بالموارد الطبيعية كالالماس والخشب، وبين نشر الأسلحة غير القانونية والاتجار بها، بما يؤدي إلى إشعال الصراعات وتفاقمها في غرب إفريقيا، وخاصة في ليبيريا.
* امتدت مشاركة الصين في قضايا الأمن في دول جنوب الصحراء الإفريقية إلى المشاركة في عمليات حفظ السلام، وبرامج التبادل، وفي عمليات نشر الجنود.
* في شهر نيسان (أبريل) 2003، تم إرسال قرابة 175 جنديا من جيش التحرير الشعبي، وفريق طبي مؤلف من 42 شخصاً إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية في مهمة لحفظ السلام.
* في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2003، تم إرسال 550 جندياً من قوات حفظ السلام مجهزين بحوالي 200 عربة عسكرية وشاحنات نقل المياه إلى ليبيريا، وكانت هذه أكبر عملية تشارك فيها الصين تحت لواء الأمم المتحدة منذ أن أرسلت 800 مهندس عسكري إلى كمبوديا في الفترة من 1992 إلى 1994.
* قامت الصين أيضاً بإرسال 4.000 جندي من جيش التحرير الشعبي إلى جنوب السودان لحراسة أحد خطوط أنابيب نقل النفط، وأعادت مؤخراً تأكيد عزمها على تقوية التعاون العسكري، وبرامج تبادل البعثات مع أثيوبيا، وليبيريا، ونيجيريا والسودان.
تعزيز التبادل التجاري والاستثمار ونموذج للتنمية الاقتصادية
إن علاقة الصين الآخذة بالانتشار بسرعة مع إفريقيا تدق ناقوس الخطر ليس لأنها تسببت في عقد صفقات الطاقة والأسلحة بين الصين والبلدان الإفريقية، ولكن لأنها تشكل منافسة للتجارة الأمريكية الإفريقية. وتأسس منتدى التعاون الصيني الأفريقي في عام 2000 لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية بين الصين والبلدان الإفريقية في القطاعين: الحكومي والخاص. وتمخض هذا المنتدى عن عقد اجتماعين على المستوى الوزاري وأربعة اجتماعات على مستوى كبار المسؤولين، مما أسهم في النمو السريع للتجارة والاستثمار في السنوات الخمس الماضية.
وفي عام 1999، بلغ حجم التبادل التجاري السنوي بين الصين وإفريقيا 5.6 مليار دولار. وبعد تأسيس منتدى التعاون الصيني الإفريقي، تضاعف حجم التبادل التجاري بين الصين وإفريقيا أكثر من خمس مرات حيث وصل إلى 29.5 مليار دولار في عام 2004. وفي نهاية شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2005، بلغ حجم التجارة بين الصين وإفريقيا في ذلك العام 32.2 مليار دولار، أي أكثر مما وصل إليه حجم التجارة الإجمالي لعام 2004 بكامله. وشهد حجم التجارة بين الولايات المتحدة وإفريقيا أيضاً زيادة كبيرة، حيث قفز من 26.9 مليار دولار في عام 1999 إلى 58.9 مليار دولار في عام 2004. وعموماً، فإن حجم التجارة الإفريقية مع الصين ينمو بمعدل أسرع: أكثر من 50 في المائة في المتوسط سنوياً منذ عام 2002.
وفي عام 2004، وصل حجم الاستثمار الصيني المباشر في إفريقيا إلى 135 مليون دولار، حيث انضمت 77 شركة صينية أخرى إلى ركب الشركات العاملة في المنطقة. وفي الاجتماع الرابع الذي عقده منتدى التعاون الصيني الإفريقي على مستوى كبار المسؤولين في شهر آب (أغسطس) 2005، والذي حضره مندوبون من 46 بلداً أفريقياً، ومراقبون من 6 منظمات إقليمية إفريقية، اقترحت الصين رفع مستوى الاجتماع الثالث المقرر عقده على مستوى الوزراء في عام 2006 إلى اجتماع قمة يحضره رؤساء الدول من الصين وإفريقيا، وقوبل الاقتراح بترحيب من جميع المشاركين.
وعرضت الصين أيضاً تقديم المساعدات لشركائها الأفارقة، وتراوحت المساعدة المقترحة من بناء البنى التحتية إلى معالجة الأمراض المعدية كالملاريا والإيدز. ومنذ ستينيات العقد الماضي، عمل ما يربو على 15.000 طبيب صيني في 47 دولة إفريقية، وقاموا بعلاج حوالي 180 مليون مريض. وتعمل الشركات الصينية حالياً في إنشاء الطرق والسكك الحديدية في كل من كينيا، ورواندا، ونيجيريا، ويتم تشييد شبكة للهاتف الجوال في تونس. وغالباً ما يتم التعاقد على هذه المشاريع مع شركات صينية بدلاً من الشركات المحلية، الأمر الذي لا يسهم إلا قليلاً في الاقتصاد المحلي من حيث تشغيل العمالة. وأطلق راديو الصين الدولي الذي تشرف عليه الدولة أول محطة إذاعية خارجية له في كينيا في شهر كانون الثاني (يناير) 2006، لتقديم 19 ساعة من البرامج اليومية لمليوني كيني، حيث يقدم لهم الأخبار الرئيسية عن الصين والعالم، بما فيها ما يتم من مبادلات بين الصين والبلدان الأفريقية.
وزيادة على ذلك، نشطت الصين في تشجيع البلدان الإفريقية على تبني النموذج الصيني للتنمية الاقتصادية الذي يقوم على نظام السوق المقيدة والموجهة من قبل حكومة شمولية أساسها نظام الحزب الواحد. ويبدو أن كثيراً من الأنظمة الاستبدادية الإفريقية التواقة إلى بث الروح في اقتصاداتها المتداعية والمحافظة على إحكام قبضتها الحديدية على السلطة السياسية، تفضل النموذج الصيني للتنمية والإصلاحات الاقتصادية على حرية السوق، وعلى سياسات الحكومات التمثيلية، (الممثلة لمختلف فئات الشعب) التي تروج لها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
تعزيز النفوذ الدبلوماسي
إن الدعم الدبلوماسي الصيني للأنظمة الأفريقية المستبدة يمنحها شرعية دولية ونفوذاً في الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية التي تساعد في الحد من أثر الضغوط التي تمارسها الديمقراطيات الغربية حول حقوق الإنسان، والانفتاح الاقتصادي، والحريات السياسية. وفي الوقت نفسه، تقوم بكين- إذا ما رأت أن ذلك يخدم المصالح الصينية- بدعم القادة الانقلابيين والمتمردين غير الديمقراطيين الذين يريدون الوصول إلى السلطة ويلحقون الضرر بالإصلاحات الاقتصادية التي شرعت فيها الديمقراطيات الفتية التي لم تنضج بعد. ويبدو أن هؤلاء الثوار يعتقدون أنهم إذا رغبوا في الإطاحة بحكومة شرعية، سوف تقوم الصين بدعم شرعيتهم الدولية في الأمم المتحدة، والمحافل الدولية الأخرى.
ومع تنامي قوة الصين ونفوذها، أصبحت بكين مهيأة أكثر لتحدي الولايات المتحدة، والدول الأوروبية وغيرها في الساحة الدولية، وذلك من أجل حماية مصالحها في القارة الإفريقية. ومع مرور الوقت، سوف تزداد حدة الخلافات بين الصين والدول الديمقراطية حول حقوق الإنسان، والحقوق السياسية، والمدنية الأساسية. فعلى سبيل المثال، أصدر مجلس الأمن الدولي في شهر أيلول (سبتمبر) 2004 القرار رقم 1564 الذي أدان عمليات القتل الجماعي للمدنيين في إقليم دارفور، ولكنه لم يتمكن من فرض عقوبات نفطية في حال لم تتخذ الخرطوم الإجراءات الكفيلة بوقف أعمال القتل. وامتنعت الصين عن التصويت على ذلك القرار وهددت باستخدام حق النقض (الفيتو) إذا اشتمل القرار على فرض العقوبات.
وفي شهر تموز (يوليو) 2005، قدمت بريطانيا، بدعم من الولايات المتحدة وسبعة بلدان أخرى، إيجازاً لمجلس الأمن الدولي حول عمليات هدم الأحياء الفقيرة التي قامت بها زمبابوي، وذلك في محاولة منها لتنظيم مناقشات رسمية للموضوع في الجمعية العامة، وربما الخروج بقرار يشتمل على فرض عقوبات ضد زمبابوي من قبل مجلس الأمن. وفي تلك الأثناء، قام روبرت موجابي، رئيس زمبابوي، بزيارة إلى بكين من أجل الحصول على مساعدات مالية لاقتصاده المتداعي. وبسبب دعم بكين القوي لموجابي، واعتراضها على أي إجراء يتخذه مجلس الأمن حول هذه المسألة، لم تتمكن الأمم المتحدة من التوصل إلى إجماع لإجراء مزيد من النقاشات الرسمية حول هذا الأمر.
ومن الأهداف المهمة الأخرى التي تسعى إليها الصين في إفريقيا هو عزل تايوان دبلوماسياً في محاولة للضغط على تايبيه من أجل الانضواء تحت راية الوطن الأم. وفي الوقت الحاضر، هناك سبع دول إفريقية تحتفظ بعلاقات دبلوماسية رسمية مع تايوان، وهذه الدول هي بوركينافاسو، وتشاد، وجامبيا، وملاوي، وساوتوم وبرينسيبي، والسنغال، وسوازيلاند.
ولم يكن الحد من نفوذ تايوان الدبلوماسي أولوية عليا في أجندة الصين السياسية في إفريقيا حتى أوائل تسعينيات القرن الماضي، حين ازدادت حدة المنافسة بين الصين وتايوان للحصول على اعتراف البلدان الأفريقية بهما. وبفضل المساعدات الاقتصادية الكبيرة التي تعرض الصين تقديمها، حصلت بكين على الاعتراف من ست دول إفريقية أخرى على حساب تايوان.
وقامت كل من ليسوتو والنيجر بتحويل اعترافهما الدبلوماسي إلى الصين في عامي 1994 و1996 على التوالي. وسحبت كل من جمهورية إفريقيا الوسطى، وغينيا بيساو، وجنوب إفريقيا اعترافها بتايوان، واعترفت بجمهورية الصين الشعبية في عام 1998، وفعلت ليبيريا الشيء نفسه في عام 2003 قبل أن ترسل الصين قوات جيش التحرير الشعبي للمساعدة في مشاريع إمدادات المياه في ليبيريا. وإضافة إلى جهودها المستمرة لتمزيق ما تبقى من علاقات لتايوان بإفريقيا، سعت الصين مراراً وتكراراً للحفاظ على دعم شركائها الأفارقة لسياسة “صين واحدة” التي تنتهجها. وذلك عبر الدعم الدبلوماسي، والاستثمار الاقتصادي، وغير ذلك من المساعدات.
ما الذي ينبغي أن تفعله الولايات المتحدة
تنطوي المصالح الصينية في مجالات الطاقة والتجارة، والسياسة، والمجال الدبلوماسي وحتى العسكري في إفريقيا على خطر تقويض الجهود الأمريكية والأوروبية لإيجاد مجتمعات مسالمة، ومزدهرة وتعددية في المنطقة. وفي سبيل حماية وتعزيز المصالح الأمريكية والنفوذ الأمريكي في القارة الإفريقية، ينبغي على الولايات المتحدة أن تقوم بما يلي:
* تطوير استراتيجية منسقة وشاملة. ينبغي على الوكالات الأمريكية المعنية أن تطور استراتيجية شاملة ومنسقة استناداً إلى التحديات والعقبات التي تواجهها في كل بلد، وإلى الموارد الأمريكية المتاحة. ذلك أن انخراط أمريكا في إفريقيا بشكل ثابت، ومطرد، ومتناغم سوف يساعد على مواجهة القوى غير الديمقراطية التي تقف عائقاً أمام التنمية الإفريقية.
* مضاعفة الأداء الدبلوماسي الأمريكي في إفريقيا. دللت الولايات المتحدة على التزامها القوي بتعزيز النمو الاقتصادي والتنمية، ودعم الحكومات الممثلة لمختلف فئات الشعب، ودعم الرعاية الصحية، وحقوق الإنسان في القارة الإفريقية. فمنذ عام 1960، قدمت واشنطن مبلغ 51.2 مليار دولار (حسب قيمته في عام 2003) في شكل مساعدات تنموية ثنائية رسمية إلى دول جنوب الصحراء الإفريقية. كما أن الولايات المتحدة هي أكبر المانحين للمساعدات الإنسانية (3.3 مليار دولار في عام 2003) وأكبر مصدر للدعم الثنائي ومتعدد الأطراف الذي يرمي إلى القضاء على مرض الإيدز، والملاريا، والأمراض المعدية الأخرى.
وقامت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بإعادة تنظيم وتوسعة المناصب الدبلوماسية، إضافة إلى حملة دبلوماسية عامة للترويج لجهود المساعدة الأمريكية في إفريقيا والمصالح المشتركة بين المنطقتين، الأمر الذي سوف يعمل على تغيير المفهوم المغلوط في إفريقيا من أن الولايات المتحدة لا تولي إلا اهتماماً قليلاً بالمنطقة. ولتعزيز هذه الجهود، ينبغي أن يقوم الرئيس جورج دبليو. بوش برحلة مطولة إلى إفريقيا لتعزيز العلاقات مع بلدان هذه القارة.
* تشجيع حقوق الإنسان، والمبادئ الديمقراطية والحكم الرشيد
تظل الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان في السودان، وزمبابوي، وبعض بلدان غرب إفريقيا موضوع قلق رئيسي. وينبغي على الولايات المتحدة أن تبذل جهوداً أكثر اتساقاً للتخفيف من سلوك الأنظمة القمعية في إفريقيا، ولمساعدة الديمقراطيات الأفريقية الفتية على إرساء العمل المؤسسي من أجل مجتمعات حرة، ومنفتحة، ومستقرة، ومزدهرة في بلدانها، وفي سائر أرجاء المنطقة.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية، جعلت الولايات المتحدة من الحكم الرشيد شرطاً ومطلباً لتكون البلدان أهلاً للحصول على المساعدات من حساب مخصصات مواجهة التحديات في الألفية الجديدة. ويتعين على واشنطن أن تقوم بخطوة أخرى تتمثل في رفض تقديم المساعدات الاقتصادية الثنائية للدول التي تواصل انتهاك حقوق الإنسان، أو تقاوم عملية جعل الحكم ممثلاً لمختلف فئات الشعب، وعبر تعزيز هذه السياسة في المؤسسات المالية الدولية وفي الأمم المتحدة.
زيادة العلاقات التجارية والاقتصادية مع القارة الإفريقية. رغم أن حجم التبادل التجاري بين أمريكا وإفريقيا لا يشكل إلا نسبة 1 في المائة من مجموع التجارة الأمريكية، إلا أن حجم هذا التبادل ينمو بسرعة منذ سن قانون النمو والفرص في إفريقيا في عام 2000. ويزيل هذا القانون حتى عام 2015 كثيراً من العوائق التجارية أمام السلع التي تصدرها الدول الإفريقية، شريطة أن تكون هذه الدول قد رسخت أو تحرز تقدماً نحو جعل اقتصاداتها مبنية على اقتصاد السوق، ونحو تعزيز حكم القانون، والحكم الرشيد الممثل لمختلف فئات الشعب، وتخفيف العوائق أمام التجارة والاستثمارات الأمريكية. وتحسين سجلاتها في مجال حقوق الإنسان، وغير ذلك من الأهداف.
وبينما يشكل هذا القانون خطوة إيجابية، ينبغي أن تستمر الولايات المتحدة في الضغط على المنطقة وعلى بلدانها من أجل عقد اتفاقيات دائمة للتجارة الحرة بغية تحرير تجارة السلع والخدمات، والحد من العوائق الاستثمارية، وتعزيز حقوق الملكية. ومن شأن هذه الاتفاقيات أن تشجع النمو الاقتصادي، وتعزز الروابط الاقتصادية بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين في إفريقيا. إن التبرعات والمساعدات الدولية لن تحل المشاكل التي تعاني منها إفريقيا، ولكن الإصلاح الاقتصادي والنمو يستطيعان ذلك.
* تشجيع تطوير موارد الطاقة. تتزايد أهمية إفريقيا كمورد للنفط إلى الولايات المتحدة، حيث تزودها بما نسبته 15 في المائة من وارداتها النفطية، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 25 في المائة خلال العقد المقبل. وفي ضوء رغبة أمريكا في تنويع مصادر إمداداتها النفطية، فإن عليها أن تضغط على الدول الإفريقية لفتح قطاعي النفط والغاز فيها أمام الاستثمار الأجنبي، وإزالة الحواجز التشريعية والحواجز الأخرى التي تعيق تطوير هذه الموارد.
* زيادة الانخراط في المجال الأمني. يعتبر الجيش الأمريكي أكبر قوة حربية في العالم، الأمر الذي يجعل كثيراً من البلدان تواقة إلى تدريب قواتها على يديه والوصول إلى التسهيلات والمرافق الأمريكية. إن الانخراط في المجال الأمني، لا سيما البرنامج الدولي للتربية والتدريب العسكريين، سوف يزيد من احتمال تعزيز الأهداف الأمريكية، مثل السيطرة المدنية على الجيش، ومقاومة الإرهاب، وعمليات حفظ السلام.
* إيجاد شركاء دوليين جدد. إن التعاون الدولي “عامل مضاعف للقوة”، وينبغي على واشنطن أن تبحث عن شركاء آخرين غير شركائها التقليديين في أوروبا، وذلك في البلدان الديمقراطية في آسيا وأمريكا اللاتينية، للمساعدة في تعزيز هذه الأمور المهمة.
الخلاصة
يتزايد نشاط الصين لتوسعة نفوذها في القارة الإفريقية من أجل تأمين إمداداتها من الموارد الطبيعية، ومن أجل مواجهة النفوذ السياسي والاقتصادي الغربي، وتوسعة نفوذها على الصعيد العالمي في الوقت نفسه، وكذلك من أجل فرض عزلة على تايوان. ونتيجة لذلك، فإن الدعم الصيني للقمع السياسي والاقتصادي في إفريقيا، يقف في مواجهة النفوذ التحرري للشركاء الأمريكيين والأوروبيين التقليديين لإفريقيا. وإن من المصلحة القومية للولايات المتحدة أن تعالج هذه التطورات في إفريقيا عبر تشجيع العمليات الديمقراطية، والحرية الاقتصادية، واحترام حقوق الإنسان في القارة الإفريقية