https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

لكاتب :هيلاري كلينتون

إن قراءة مذكرات وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون “الخيارات الصعبة”، تجعلنا نجزم بأن ما روَّجه بعض الجهات وبعض المؤسسات الإعلامية، ومنه القول بأنها فضحت مسؤولية الولايات المتحدة الأميركية عن إنشاء تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، لا وجود له في الكتاب).

ومن الواضح أن من روَّج لهذه الإشاعات وغيرها لم يقرأ الكتاب المكون من 600 صفحة، ومع أن الكتاب لا يكشف جديدًا إلا أنه عملية توثيق مهمة جدًا لأربع سنوات من الدبلوماسية الأميركية 2009-2013 في فترة من أهم فترات التاريخ العربي شهدت -ولا تزال- عمليات التحول الكبرى في العالم العربي، وستترك بصماتها ليس على الحيز العربي، وإنما على الحيز العالمي ككل.

عين على الماضي وأخرى على البيت الأبيض

دَرَج كل القادة الأميركيين على كتابة مذكراتهم حال خروجهم من مناصبهم، وهو تقليد لم تشذَّ عنه كلينتون (66 عامًا)، لكن وبغضِّ النظر عن هذا التقليد فقد أمَّلَتْ كلينتون على ما يبدو من خلاله أن يكون تدشينًا لحملتها الانتخابية الرئاسية المتوقع أن تخوضها في 2016، بعد أن خرجت من حلبة المنافسة الرئاسية أمام أوباما 2008 بالتوصل لصفقة تُمنح بموجبها وزارة الخارجية مقابل الانسحاب من المنافسة. حين تُسأل عن نيتها دخول انتخابات الرئاسة المقبلة تقول بالكتاب: “لم أقرر بعد”، وفيما إذا قررت إيجابيًا فستكون أول سيدة أميركية تحكم البيت الأبيض.

ما يُرجح عزم كلينتون الترشح للرئاسة سعيها في الكتاب إلى النأي بالنفس عما جرى بمصر وتداعياته لاحقًا؛ إذ إنها مع الجيل التقليدي للمسؤولين الأميركيين الذين كانوا يحضون أوباما -كما ذكرت- على “الانتقال المنتظم” للسلطة في مصر وعدم التسرع بالتخلي عن مبارك، ولكن أوباما انحاز إلى جيل الشباب في التغيير السريع.

قد يكون ما كتبته عن سوريا يعزز هذا الرأي؛ إذ تكتب -ومن بعدها أيدها وزير الدفاع ومدير المخابرات المركزية الأميركية السابق ليون بانيتا في كتابه “حروب جديرة”- أن المذكرة التي تقدم بها مدير المخابرات المركزية الجنرال ديفيد بترايوس 2012 الحاضَّة على تدريب المعارضة السورية المسلحة وتسليحها قد دعمها الاثنان، بينما عارضها أوباما، لكن التفسير الذي قد يكون منطقيًا وراء تحاشيها الكشف عن أسرار كبيرة هو عزمها العودة إلى البيت الأبيض.

أميركا بين محورين

في الفصول الأولى من الكتاب تتحدث كلينتون عن دخولها الانتخابات ثم اختيارها كوزيرة للخارجية وديونها المتراكمة ثم تسويتها مقابل الخطابات التي كانت تلقيها وتتقاضى عليها مبالغ ضخمة، لتنتقل بعد ذلك إلى أهمية القوة الناعمة في التغيير، ومحورية آسيا في السياسة الأميركية العالمية، وأهمية الصين والخلاف التجاري والسياسي معها، وتحديدًا فيما يتعلق ببحر الصين. وجاء ذلك كله قبل أن يستدير أوباما مجددًا ويعود إلى المنطقة العربية التي قرر الانسحاب منها في العراق، ومهَّد لها بخطابه الشهير في القاهرة، لكن الربيع العربي وأحداث العراق والشام تحديدًا أرغمته على العودة.

تواصل كلينتون الحديث هنا عن سيدة المعارضة البورمية وكيف بدأت كيمياء العلاقة بين الأخيرة والضباط البورميين الرافضين للتغيير، وهنا يظهر جدية ومثابرة الأميركيين في الضغط على خصوم الديمقراطية البورمية وإرغام العسكر على الرضوخ للمعارضة، بينما لا نجد شيئًا من هذا كله في الربيع العربي الذي غسل الأميركيون أيديهم بعد سنة تقريبًا على فوز مرسي بتحميله وحكومته كل أوزار مصر والمنطقة ونفس الشيء ينطبق على دول الربيع العربي الأخرى.

وحين تتحول كلينتون إلى باكستان وأفغانستان تُحمِّل ضباطًا في الاستخبارات الباكستانية مسؤولية ما يجري في أفغانستان وتخريب الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، دون أن تحمِّل نفسها أو إدارتها مسؤولية خديعة المخابرات الباكستانية وعدم ثقتها بها وقتل أسامة بن لادن الذي تمر عليه مرور الكرام دون كشف لملابساته إلا ما بات معروفًا للعامة، وهنا تظهر تمامًا الرغبة الأميركية بالتعامل مع العسكر والاستخبارات فهي الطريق المختصر للوصول إلى الغايات الأميركية دون المرور إلى المؤسسات الديمقراطية المكلفة بالنسبة لهم.

تسرح كلينتون في الكتاب بشؤون أوربا وروسيا ناعتة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالطاغية والسفاح، ومعرِّجة على دول إفريقيا وأميركا اللاتينية وهي التي كانت من ضمن 112 دولة زارتها كلينتون قاطعة مسافة بلغت مليون ميل خلال تسنُّمها رئاسة الدبلوماسية الأميركية، وهو حديث من أجل تحميله تقاعس أو خذلان الأميركيين لشعوب ودول مثل سوريا وأوكرانيا وغيرهما.

الغليان

في الفصل الخامس تصل كلينتون إلى ما يهمنا كعالم عربي وتطلق عليه صفة “الغليان”، وربما هي استعارة لكتاب أستاذها وسلفها كيسنجر “سنوات الغليان” فتصف خطواتها فيه بـ”الطريق الصعب إلى السلام”، وحين تصل كلينتون إلى قصة أسطول الحرية ومهاجمته من قبل إسرائيل تقول التقيت وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو والذي كان بلده الشريك الوحيد لإسرائيل في المنطقة؛ فقد بدا عاطفيًّا جدًّا إزاء ما جرى من قتل الأتراك وشبَّه لي ما جرى للسفينة بأحداث 11 سبتمبر/أيلول، وهدد أوغلو حينها بإعلان الحرب على إسرائيل، لكن سعيت إلى تهدئته.

وحين تصل كلينتون للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، تقول: أبلغت الرئيس محمود عباس تفهمي لانزعاجه الكبير من التصرف الإسرائيلي بعدم التقدم على صعيد المحادثات؛ حيث خيَّر عباس نتنياهو “إما التسوية وإما الاستيطان”، لكن نتنياهو أخبرني -كما تقول كلينتون- بأن على الفلسطينيين ألا يلعبوا لعبة حافة الهاوية، مشيرًا بذلك إلى تهديد الفلسطينيين بالتوجه إلى الأمم المتحدة لانتزاع اعتراف بدولة فلسطينية.

وهنا يبرز القديم/الجديد في السياسة الأميركية إزاء فلسطين والصراع العربي-الإسرائيلي وهو التفاوض من أجل التفاوض، ضمن عملية سياسية لا سقف لها ولا أمد، فطبخ الحصى يتواصل دون أن تلزم الإدارة الأميركية نفسها بشيء، بينما على الأرض يقتات الاستيطان على ما تبقى من الأرض الفلسطينية التي من المفترض أن يتم التفاوض عليها.

وتركز رئيسة الدبلوماسية الأميركية في كتابها على ما تصفه بالمشهد الاستراتيجي غير المتنبأ به إثر سقوط الرئيس حسني مبارك، وتنقل هنا عمن وصفته بصديقها إسحاق رابين عبارته: “السلام الأبرد أفضل من الحرب الأسخن”. وتَلِج كلينتون بعد هذا إلى دول الربيع العربي فتصف الربيع بـ “الثورة”، وتسعى إلى التأكيد على أنها كانت تشدِّد على ضرورة الإصلاحات وتذكِّر بخطاب وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس في القاهرة 2005 حين اعترفت: لنصف قرن “فضَّلت أميركا الاستقرار على حساب الديمقراطية”(2).

تستحضر كلينتون ردة فعل الرئيس اليمني علي عبد الله صالح حين كانت تضغط عليه بخصوص حقوق الإنسان وإجراء الإصلاحات الاقتصادية لكنه كان مشغولاً بعرضه عليها بنادق قديمة بعضها هدايا من قائد حرب الخليج الأولى الجنرال نورمان تشوارزكوف، مشدِّدًا (أي: صالح) أن عليَّ أن أرى صنعاء القديمة، في محاولة لحرف الموضوع(3).

حين تصل كلينتون إلى الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك تصفه بأنه حكم البلاد لثلاثة عقود كفرعون وبسلطات مطلقة، وتضيف: إن مصر التي وصفها المؤرخون بـ”سلة غذاء، أصبحت أكبر مستورد للقمح في العالم، فضلاً عن إدارة سيئة للاقتصاد وسجل سيء في مجال حقوق الإنسان وانتهاك للحريات الأساسية”(4).

ليبيا: كل الإجراءات الضرورية

تقدم كلينتون في هذا الفصل انتقادات الإدارات الأميركية السابقة للرئيس الليبي المخلوع معمر القذافي؛ حيث تقول: إن مجلة النيوزويك وصفته عام 1981 بـ”أخطر شخصية في الشرق الأوسط”، ووصفه الرئيس الأميركي رونالد ريغان بـ”الكلب الضال في الشرق الأوسط”، وحين تصل كلينتون للحديث عن تعاونها وتنسيقها مع جامعة الدول العربية بشأن ليبيا للإطاحة بالقذافي عقب ثورة فبراير/شباط 2011 تصف وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد بالشخصية القوية من خلف ستار في الجامعة العربية، وتعبِّر عن دهشتها حين استمعت له وهو يوافق على السماح للطائرات الأميركية بقصف مواقع القذافي، وتزيح الستار عن جدل بشأن ما تُردده روسيا عن خديعتها من قبل أميركا وحلفائها في تمرير قرار مجلس الأمن الدولي الذي استُخدم لاحقًا كمبرر لإسقاط القذافي، ومخاوف روسيا غير المبررة من تكرار ذلك؛ فتقول كلينتون: “إن لافروف كان ممثلاً لبلاده في الأمم المتحدة لفترة طويلة وهو يعرف تمامًا ماذا يعنيه اتخاذ كل الإجراءات الضرورية في قرارات مجلس الأمن”.

وفي إشارة إلى متانة علاقتها مع وزير خارجية الإمارات تذكر أن أول من اتصلت به لمعرفة حقيقة التحركات العسكرية لمجلس التعاون الخليجي لدعم البحرين كان عبد الله بن زايد الذي هدَّد لاحقًا بالانسحاب من عمليات ليبيا إن انتقدت أميركا تحركاتهم العسكرية بالبحرين.

اللافت أن كلينتون تذكر أنها حذرت حكام الشرق الأوسط إن لم يبدؤوا بالإصلاحات فإنهم سيغرقون في الرمال(5)، لكن الظاهر أن كلينتون وغيرها من المسؤولين الأميركيين أخطأوا العنوان فدول الرمال لم تتعرض لثورات بينما كان المفترض أن تُحذر الدول التي كانت أميركا منشغلة معها على مدى أكثر من نصف قرن بتحقيق سلام سرابي.

إيران: عقوبات وأسرار

تسترجع كلينتون عرض وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، لما اقترحت عام 2000 على إيران الاعتذار الرسمي عن الدور الأميركي في انقلاب 1953 الذي أطاح بمصدق، وتخفيف عقوبات اقتصادية معينة، لكن إيران لم تتحمس لذلك حيث حدَّ المتشددون قدرة الرئيس الإيراني حينها محمد خاتمي، وتعترف كلينتون بأنه مع مطلع 2009 بدأت إيران تبرز على خريطة الشرق الأوسط مع إسقاط أميركا لخصمها صدام حسين ووصول حكومة شيعية موالية لها، وهو ما تسبب في مخاوف “الملكيات السنية” في المنطقة من تنامي قوة إيران العسكرية.

محاولة كلينتون إقناع روسيا والصين بفرض عقوبات على إيران ورفضهما بذرائع مختلفة يعكس حجم تعقيدات أي ملف عالمي حتى ولو كان داخليًا، فتنقل عن وزير خارجية الصين رفضه الموافقة على معاقبة إيران وقوله: “حين تفرضين عقوبات ويصبح هو النظام اليومي سيكون من الصعب استئناف المحادثات لفترة طويلة نسبيًا”(6). ثم تغرق في العلاقات بين روسيا والصين وإيران وحتى الهند واعتماد كثير منهم على الطاقة الإيرانية.

اللافت هنا هو تحول عُمان إلى صندوق بريد بين أميركا وإيران، لتتحول بعده إلى مكان للقاءات سرية بين مسؤولي البلدين وسط ثقة الطرفين بسلطان عمان، وهو ما قد يفسر كثيرًا من سياسات عُمان الخليجية لاحقًا، وتتطرق كلينتون هنا إلى تأثير الملف النووي على الوضع الاقتصادي الإيراني حيث تكشف أنه قبل الثورة الإيرانية كان الاقتصاد الإيراني أقوى بـ 40% من الاقتصاد التركي لكن الوضع الآن انعكس تمامًا؛ إذ إن الاقتصاد التركي المفتقد إلى ثروات النفط والغاز هو الأكبر بـ 40% من نظيره الإيراني، وهنا يفاجأ المرء بأن هذه المفاوضات التي تدور بين أميركا والغرب من جهة وإيران من جهة أخرى ربما من أطول مفاوضات الدبلوماسية تاريخيًا إذ مضى عليها عشر سنوات تقريبًا، بينما المهل والإنذارات هي التي تميز السياسة الأميركية مع دول أخرى في المنطقة العربية.

سوريا: الأزمة الشريرة

هكذا تصفها كلينتون في مذكراتها، فأكثر ما لفت انتباهها في الأزمة السورية حجم التنافس الدولي وقضية الأقليات، أما الحديث عن ثورة شعب ضد نظام مستبد جثم لعقود على أنفاس السوريين فهي تفاصيل ليست مهمة في عالم المصالح السياسية المعقد. تتحدث كلينتون عن ولع الروس بنظام الأسد بقولها: “ثمة أهمية بحرية للمتوسط تكمن في وجود الأسطول الروسي وكذلك أهمية دينية نظرًا للروابط الكاثوليكية بين كنائس روسيا وسوريا، وهما يفسران احتفاظ روسيا بتأثير ثابت تمامًا في دعم نظام الأسد”. وتواصل منه سجالاتها مع نظيرها الروسي لافروف لرفضه أية إدانة لنظام الأسد بينما لم يكترث الروس -كما تقول- لسيادة الدول حين اجتاحوا جورجيا وأوكرانيا، وحين تتحدث عن تسليح الثوار في سوريا تبدي المخاوف التقليدية والنمطية من وقوع أسلحة كهذه بأيدي “المتطرفين” لكنها لا تعترف أبدًا بأن الأسلحة وصلت عمليًّا فقط لهؤلاء من خلال ما جرى في العراق وأن المحروم من هذه الأسلحة هم الذين تصنِّفهم أميركا بالقوى المعتدلة.

وتفاجئ كلينتون قرَّاءها بالقول بأنها سألت أميرًا سعوديًا فيما إذا نجحنا في إقناع الروس بتسوية سلمية بسوريا هل يرضخ لها الأسد؟ فقال لي الأمير: إن الأسد يُدار من أمه وإنه مثل أبيه حافظ الأسد وحشي، وسيواصل نهجه الوحشي في إشارة إلى مذبحة حماة 1982(7).

ومع قرب اتفاق جنيف تقول كلينتون بأن كلاًّ من وزير خارجية تركيا أوغلو ووزير خارجية قطر حمد بن جاسم طلَبَا منِّي دراسة تقديم دعم عسكري للثوار بغض النظر عن محادثات جنيف(8)، وتُشدِّد بعدها على أن القيادات العسكرية الأميركية لم تكن معنية بالعمل العسكري في سوريا وأنهم غير راغبين في التورط، معللين ذلك بأن مثل هذا التدخل بحاجة لقوة عسكرية ضخمة، وهو ما يفضح كل التدخلات الإنسانية التي أجازتها الأمم المتحدة نظريًّا ولم تُنفَّذ في سوريا وسط بحور الدماء، ويفضح أيضًا عمليات الأمل في الصومال مقابل التقاعس الدولي في سوريا، فضلاً عن قرار مسلوق وبغضون أيام لمقاتلة داعش ضم أكثر من ستين دولة ويتم بموجبه إسقاط أسلحة وذخائر على الأكراد في عين العرب ويسقط بعضه في أيدي “داعش” بينما كانت أميركا تحذِّر من وقوعه بالأيدي الخطأ؛ وهو الأمر الذي يؤكد ألا أخلاقيات في عالم السياسة، وأكدته تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من أن العالم لم يأبه لمقتل 300 ألف سوري بينما استنفرته كوباني(9).

حين تصل كلينتون إلى الأسلحة الكيمائية في سوريا، واستخدام النظام لهذه السلاح، تعبِّر عن استغرابها لتراجع الرئيس الأميركي أوباما في خطوة أدهشت الجميع كما تصفها لمَّا توجه إلى الكونغرس لأخذ الموافقة والتي لم يكن بحاجة إليها، ولكن كلينتون هنا كالعادة في كثير من الجوانب المظلمة والمغيبة في الشرق الأوسط لا تكشف لنا الكثير عن أسرار هذه الخطوة وأسرار صمتها وصمت إدارتها لاستخدام الكيماوي لأكثر من مرة وفي أكثر من موقع قبل هجوم الغوطة وبعده.

غزة: تشريح وقف إطلاق النار

كانت حرب غزة 2012 أحد التحديات لحكومة الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، وتسهب كلينتون هنا في أول تماس لها مع مرسي الذي كان يرفض التواصل مع نتنياهو ولا تخفي إعجابها بدبلوماسية مرسي خلال تلك الفترة، وتتذكر أول تماس لها مع مرسي حين سألته: كيف ستتعاملون مع القاعدة في سيناء الذين يعملون على زعزعة حكومتكم؟ فرد عليَّ: ولماذا يزعزعونها وهي حكومة إسلامية! وبرأي كلينتون إما أن يكون هذا تقييمًا ساذجًا أو صادمًا وشريرًا، وتضيف: لكنني قلت له: عليكم أن تحموا حكومتكم وبلادكم، ربما لتتفاجأ كلينتون بعد أشهر بأن من زعزع وأسقط حكومة مرسي لم يكن من تخشاهم كلينتون وإنما من كانت واشنطن على علاقة مميزة وحصرية معهم على مدى عقود ولا تزال.

وهنا تتعرض للحديث عن الدور القطري والإماراتي في حرب غزة وكذلك دور قناة الجزيرة التي تصفها “قناة الجزيرة أصبحت أهم مصدر إخباري مؤثر في الشرق الأوسط ووسيلة للتأثير القطري في كل المنطقة”(10). وقد سعى الأمير برأيها حينها إلى دعم مرسي وحماس وتنفيذ منطقة حظر جوي في ليبيا، حيث كانت اليد القطرية موجودة أينما اتجهت بالشرق الأوسط.

وتغوص كلينتون في حرب غزة 2012 حين تلقَّى وزير الدفاع الأميركي خلال لقاء مع نظيره الاسترالي نوفمبر/تشرين الثاني 2012 رسالة من وزير الدفاع الإسرائيلي يبلغه بالرد على صواريخ حماس التي تصفها كلينتون بخلاف ما وصفها الرئيس الفلسطيني محمود عباس من أنها عبارة عن مفرقعات تصفها: “هذه الصواريخ غدت أكثر تطورًا وأكثر دقة ووصلت إلى نقطة التهديد، وهو ما أطلق صافرات الإنذار لأول مرة منذ حرب الخليج 1991 وبدأت بتهديد تل أبيب”(11). وتتذكر ساعات الرعب التي عاشها وزير خارجية ألمانيا الذي كان في القدس من أجل التوسط لوقف إطلاق النار الذي نقلت عنه قوله: “تخيلي الوضع العصبي الذي نعيشه مع صافرات الإنذار هنا”، وتتطرق إلى المفاوضات الحرجة بين نتنياهو ومرسي حيث نقلت عن مسؤول إسرائيلي بأن أصعب قرار اتخذه نتنياهو هو التعامل مع حكومة إسلامية بزعامة مرسي عن طريق واشنطن؛ فقد أيد مرسي اتفاق كامب ديفيد والذي هو حجر الزاوية في الاستقرار بالمنطقة. ولا تألو كلينتون هنا جهدًا في النيل من مرسي حين تقول: إن التاريخ قذف به من “غرف خلفية إلى كرسي كبير”؛ مما يعكس النظرة إلى أغلبية أصوات المصريين المصوِّتة لمرسي بصورة تحمل الكثير من الاستخفاف بخيارات الشعب المصري.

ومع هذا تُشدِّد على أن مرسي بدا “أكثر اهتمامًا بالتعامل الواقعي منه بالخطاب الديماغوجي”، لكن خلال عملية التوصل لاتفاق إطلاق النار تقول كلينتون: “كان المصريون على تواصل دائم ومستمر مع قادة حماس والمجموعات المتشددة الأخرى”. وظل التواصل بين مرسي ونتنياهو من خلالها عبر مفاوضات الهاتف، فتخلص كلينتون للقول: إن حكومة الإخوان المسلمين الجديدة بزعامة مرسي لم تكن واقعية ومتماسكة كواقعيتها في مثل ذلك اليوم شاكرة مرسي على جهوده تلك.

كيف تسرَّبت ويكيليكس؟

تخلص في الفصل ما قبل الأخير إلى الحديث عن مميزات الدولة في القرن 21 والمتمثلة في الدبلوماسية الرقمية، وتكشف عن حضها السفير الأميركي في روسيا آنئذٍ على التحايل على مراقبة السلطات الروسية له بفتح حسابات له على مواقع التواصل الاجتماعي بغية التواصل المباشر مع الناس، وتلخِّص نصيحتها له: “كن قويًّا وانخرط بعيدًا عن النخبة، ولا تخشى التكنولوجيا الجديدة بهدف الوصول إلى الناس”. لكنها بالمقابل تعكس مخاوفها من الوافد التقني الجديد وخطره على الدبلوماسية الأميركية حين نجح -كما تقول- ضابط صغير في الاستخبارات العسكرية الأميركية المتمركز في العراق في تحميل وثائق البرقيات السرية من كومبيوتر تابع لوزارة الدفاع الأميركية وتسلميها إلى ويكيليكس وصاحبها جوليان أسانج. وقد وصل عدد هذه البرقيات إلى 250 ألف وثيقة كبرقيات للخارجية الأميركية وهو ما سبَّب قلقًا وإشكاليات كبيرة لعمل موظفي الخارجية والسفارات وعلاقاتهم مع قادة ومسؤولي تلك الدول؛ ففي برقية أميركية تصف الرئيس الزامبي الزيمبابوي موغابي بالقول: “جهله العميق بقضايا الاقتصاد يضاف إليه حيازته لـ18 شهادة دكتوراه منحته السلطة لتعليق قوانين الاقتصاد”.

كتاب : الخيارات الصعبة
الكاتب :هيلاري كلينتون

إن قراءة مذكرات وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون “الخيارات الصعبة”، تجعلنا نجزم بأن ما روَّجه بعض الجهات وبعض المؤسسات الإعلامية، ومنه القول بأنها فضحت مسؤولية الولايات المتحدة الأميركية عن إنشاء تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، لا وجود له في الكتاب).

ومن الواضح أن من روَّج لهذه الإشاعات وغيرها لم يقرأ الكتاب المكون من 600 صفحة، ومع أن الكتاب لا يكشف جديدًا إلا أنه عملية توثيق مهمة جدًا لأربع سنوات من الدبلوماسية الأميركية 2009-2013 في فترة من أهم فترات التاريخ العربي شهدت -ولا تزال- عمليات التحول الكبرى في العالم العربي، وستترك بصماتها ليس على الحيز العربي، وإنما على الحيز العالمي ككل.

عين على الماضي وأخرى على البيت الأبيض

دَرَج كل القادة الأميركيين على كتابة مذكراتهم حال خروجهم من مناصبهم، وهو تقليد لم تشذَّ عنه كلينتون (66 عامًا)، لكن وبغضِّ النظر عن هذا التقليد فقد أمَّلَتْ كلينتون على ما يبدو من خلاله أن يكون تدشينًا لحملتها الانتخابية الرئاسية المتوقع أن تخوضها في 2016، بعد أن خرجت من حلبة المنافسة الرئاسية أمام أوباما 2008 بالتوصل لصفقة تُمنح بموجبها وزارة الخارجية مقابل الانسحاب من المنافسة. حين تُسأل عن نيتها دخول انتخابات الرئاسة المقبلة تقول بالكتاب: “لم أقرر بعد”، وفيما إذا قررت إيجابيًا فستكون أول سيدة أميركية تحكم البيت الأبيض.

ما يُرجح عزم كلينتون الترشح للرئاسة سعيها في الكتاب إلى النأي بالنفس عما جرى بمصر وتداعياته لاحقًا؛ إذ إنها مع الجيل التقليدي للمسؤولين الأميركيين الذين كانوا يحضون أوباما -كما ذكرت- على “الانتقال المنتظم” للسلطة في مصر وعدم التسرع بالتخلي عن مبارك، ولكن أوباما انحاز إلى جيل الشباب في التغيير السريع.

قد يكون ما كتبته عن سوريا يعزز هذا الرأي؛ إذ تكتب -ومن بعدها أيدها وزير الدفاع ومدير المخابرات المركزية الأميركية السابق ليون بانيتا في كتابه “حروب جديرة”- أن المذكرة التي تقدم بها مدير المخابرات المركزية الجنرال ديفيد بترايوس 2012 الحاضَّة على تدريب المعارضة السورية المسلحة وتسليحها قد دعمها الاثنان، بينما عارضها أوباما، لكن التفسير الذي قد يكون منطقيًا وراء تحاشيها الكشف عن أسرار كبيرة هو عزمها العودة إلى البيت الأبيض.

أميركا بين محورين

في الفصول الأولى من الكتاب تتحدث كلينتون عن دخولها الانتخابات ثم اختيارها كوزيرة للخارجية وديونها المتراكمة ثم تسويتها مقابل الخطابات التي كانت تلقيها وتتقاضى عليها مبالغ ضخمة، لتنتقل بعد ذلك إلى أهمية القوة الناعمة في التغيير، ومحورية آسيا في السياسة الأميركية العالمية، وأهمية الصين والخلاف التجاري والسياسي معها، وتحديدًا فيما يتعلق ببحر الصين. وجاء ذلك كله قبل أن يستدير أوباما مجددًا ويعود إلى المنطقة العربية التي قرر الانسحاب منها في العراق، ومهَّد لها بخطابه الشهير في القاهرة، لكن الربيع العربي وأحداث العراق والشام تحديدًا أرغمته على العودة.

تواصل كلينتون الحديث هنا عن سيدة المعارضة البورمية وكيف بدأت كيمياء العلاقة بين الأخيرة والضباط البورميين الرافضين للتغيير، وهنا يظهر جدية ومثابرة الأميركيين في الضغط على خصوم الديمقراطية البورمية وإرغام العسكر على الرضوخ للمعارضة، بينما لا نجد شيئًا من هذا كله في الربيع العربي الذي غسل الأميركيون أيديهم بعد سنة تقريبًا على فوز مرسي بتحميله وحكومته كل أوزار مصر والمنطقة ونفس الشيء ينطبق على دول الربيع العربي الأخرى.

وحين تتحول كلينتون إلى باكستان وأفغانستان تُحمِّل ضباطًا في الاستخبارات الباكستانية مسؤولية ما يجري في أفغانستان وتخريب الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، دون أن تحمِّل نفسها أو إدارتها مسؤولية خديعة المخابرات الباكستانية وعدم ثقتها بها وقتل أسامة بن لادن الذي تمر عليه مرور الكرام دون كشف لملابساته إلا ما بات معروفًا للعامة، وهنا تظهر تمامًا الرغبة الأميركية بالتعامل مع العسكر والاستخبارات فهي الطريق المختصر للوصول إلى الغايات الأميركية دون المرور إلى المؤسسات الديمقراطية المكلفة بالنسبة لهم.

تسرح كلينتون في الكتاب بشؤون أوربا وروسيا ناعتة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالطاغية والسفاح، ومعرِّجة على دول إفريقيا وأميركا اللاتينية وهي التي كانت من ضمن 112 دولة زارتها كلينتون قاطعة مسافة بلغت مليون ميل خلال تسنُّمها رئاسة الدبلوماسية الأميركية، وهو حديث من أجل تحميله تقاعس أو خذلان الأميركيين لشعوب ودول مثل سوريا وأوكرانيا وغيرهما.

الغليان

في الفصل الخامس تصل كلينتون إلى ما يهمنا كعالم عربي وتطلق عليه صفة “الغليان”، وربما هي استعارة لكتاب أستاذها وسلفها كيسنجر “سنوات الغليان” فتصف خطواتها فيه بـ”الطريق الصعب إلى السلام”، وحين تصل كلينتون إلى قصة أسطول الحرية ومهاجمته من قبل إسرائيل تقول التقيت وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو والذي كان بلده الشريك الوحيد لإسرائيل في المنطقة؛ فقد بدا عاطفيًّا جدًّا إزاء ما جرى من قتل الأتراك وشبَّه لي ما جرى للسفينة بأحداث 11 سبتمبر/أيلول، وهدد أوغلو حينها بإعلان الحرب على إسرائيل، لكن سعيت إلى تهدئته.

وحين تصل كلينتون للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، تقول: أبلغت الرئيس محمود عباس تفهمي لانزعاجه الكبير من التصرف الإسرائيلي بعدم التقدم على صعيد المحادثات؛ حيث خيَّر عباس نتنياهو “إما التسوية وإما الاستيطان”، لكن نتنياهو أخبرني -كما تقول كلينتون- بأن على الفلسطينيين ألا يلعبوا لعبة حافة الهاوية، مشيرًا بذلك إلى تهديد الفلسطينيين بالتوجه إلى الأمم المتحدة لانتزاع اعتراف بدولة فلسطينية.

وهنا يبرز القديم/الجديد في السياسة الأميركية إزاء فلسطين والصراع العربي-الإسرائيلي وهو التفاوض من أجل التفاوض، ضمن عملية سياسية لا سقف لها ولا أمد، فطبخ الحصى يتواصل دون أن تلزم الإدارة الأميركية نفسها بشيء، بينما على الأرض يقتات الاستيطان على ما تبقى من الأرض الفلسطينية التي من المفترض أن يتم التفاوض عليها.

وتركز رئيسة الدبلوماسية الأميركية في كتابها على ما تصفه بالمشهد الاستراتيجي غير المتنبأ به إثر سقوط الرئيس حسني مبارك، وتنقل هنا عمن وصفته بصديقها إسحاق رابين عبارته: “السلام الأبرد أفضل من الحرب الأسخن”. وتَلِج كلينتون بعد هذا إلى دول الربيع العربي فتصف الربيع بـ “الثورة”، وتسعى إلى التأكيد على أنها كانت تشدِّد على ضرورة الإصلاحات وتذكِّر بخطاب وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس في القاهرة 2005 حين اعترفت: لنصف قرن “فضَّلت أميركا الاستقرار على حساب الديمقراطية”(2).

تستحضر كلينتون ردة فعل الرئيس اليمني علي عبد الله صالح حين كانت تضغط عليه بخصوص حقوق الإنسان وإجراء الإصلاحات الاقتصادية لكنه كان مشغولاً بعرضه عليها بنادق قديمة بعضها هدايا من قائد حرب الخليج الأولى الجنرال نورمان تشوارزكوف، مشدِّدًا (أي: صالح) أن عليَّ أن أرى صنعاء القديمة، في محاولة لحرف الموضوع(3).

حين تصل كلينتون إلى الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك تصفه بأنه حكم البلاد لثلاثة عقود كفرعون وبسلطات مطلقة، وتضيف: إن مصر التي وصفها المؤرخون بـ”سلة غذاء، أصبحت أكبر مستورد للقمح في العالم، فضلاً عن إدارة سيئة للاقتصاد وسجل سيء في مجال حقوق الإنسان وانتهاك للحريات الأساسية”(4).

ليبيا: كل الإجراءات الضرورية

تقدم كلينتون في هذا الفصل انتقادات الإدارات الأميركية السابقة للرئيس الليبي المخلوع معمر القذافي؛ حيث تقول: إن مجلة النيوزويك وصفته عام 1981 بـ”أخطر شخصية في الشرق الأوسط”، ووصفه الرئيس الأميركي رونالد ريغان بـ”الكلب الضال في الشرق الأوسط”، وحين تصل كلينتون للحديث عن تعاونها وتنسيقها مع جامعة الدول العربية بشأن ليبيا للإطاحة بالقذافي عقب ثورة فبراير/شباط 2011 تصف وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد بالشخصية القوية من خلف ستار في الجامعة العربية، وتعبِّر عن دهشتها حين استمعت له وهو يوافق على السماح للطائرات الأميركية بقصف مواقع القذافي، وتزيح الستار عن جدل بشأن ما تُردده روسيا عن خديعتها من قبل أميركا وحلفائها في تمرير قرار مجلس الأمن الدولي الذي استُخدم لاحقًا كمبرر لإسقاط القذافي، ومخاوف روسيا غير المبررة من تكرار ذلك؛ فتقول كلينتون: “إن لافروف كان ممثلاً لبلاده في الأمم المتحدة لفترة طويلة وهو يعرف تمامًا ماذا يعنيه اتخاذ كل الإجراءات الضرورية في قرارات مجلس الأمن”.

وفي إشارة إلى متانة علاقتها مع وزير خارجية الإمارات تذكر أن أول من اتصلت به لمعرفة حقيقة التحركات العسكرية لمجلس التعاون الخليجي لدعم البحرين كان عبد الله بن زايد الذي هدَّد لاحقًا بالانسحاب من عمليات ليبيا إن انتقدت أميركا تحركاتهم العسكرية بالبحرين.

اللافت أن كلينتون تذكر أنها حذرت حكام الشرق الأوسط إن لم يبدؤوا بالإصلاحات فإنهم سيغرقون في الرمال(5)، لكن الظاهر أن كلينتون وغيرها من المسؤولين الأميركيين أخطأوا العنوان فدول الرمال لم تتعرض لثورات بينما كان المفترض أن تُحذر الدول التي كانت أميركا منشغلة معها على مدى أكثر من نصف قرن بتحقيق سلام سرابي.

إيران: عقوبات وأسرار

تسترجع كلينتون عرض وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، لما اقترحت عام 2000 على إيران الاعتذار الرسمي عن الدور الأميركي في انقلاب 1953 الذي أطاح بمصدق، وتخفيف عقوبات اقتصادية معينة، لكن إيران لم تتحمس لذلك حيث حدَّ المتشددون قدرة الرئيس الإيراني حينها محمد خاتمي، وتعترف كلينتون بأنه مع مطلع 2009 بدأت إيران تبرز على خريطة الشرق الأوسط مع إسقاط أميركا لخصمها صدام حسين ووصول حكومة شيعية موالية لها، وهو ما تسبب في مخاوف “الملكيات السنية” في المنطقة من تنامي قوة إيران العسكرية.

محاولة كلينتون إقناع روسيا والصين بفرض عقوبات على إيران ورفضهما بذرائع مختلفة يعكس حجم تعقيدات أي ملف عالمي حتى ولو كان داخليًا، فتنقل عن وزير خارجية الصين رفضه الموافقة على معاقبة إيران وقوله: “حين تفرضين عقوبات ويصبح هو النظام اليومي سيكون من الصعب استئناف المحادثات لفترة طويلة نسبيًا”(6). ثم تغرق في العلاقات بين روسيا والصين وإيران وحتى الهند واعتماد كثير منهم على الطاقة الإيرانية.

اللافت هنا هو تحول عُمان إلى صندوق بريد بين أميركا وإيران، لتتحول بعده إلى مكان للقاءات سرية بين مسؤولي البلدين وسط ثقة الطرفين بسلطان عمان، وهو ما قد يفسر كثيرًا من سياسات عُمان الخليجية لاحقًا، وتتطرق كلينتون هنا إلى تأثير الملف النووي على الوضع الاقتصادي الإيراني حيث تكشف أنه قبل الثورة الإيرانية كان الاقتصاد الإيراني أقوى بـ 40% من الاقتصاد التركي لكن الوضع الآن انعكس تمامًا؛ إذ إن الاقتصاد التركي المفتقد إلى ثروات النفط والغاز هو الأكبر بـ 40% من نظيره الإيراني، وهنا يفاجأ المرء بأن هذه المفاوضات التي تدور بين أميركا والغرب من جهة وإيران من جهة أخرى ربما من أطول مفاوضات الدبلوماسية تاريخيًا إذ مضى عليها عشر سنوات تقريبًا، بينما المهل والإنذارات هي التي تميز السياسة الأميركية مع دول أخرى في المنطقة العربية.

سوريا: الأزمة الشريرة

هكذا تصفها كلينتون في مذكراتها، فأكثر ما لفت انتباهها في الأزمة السورية حجم التنافس الدولي وقضية الأقليات، أما الحديث عن ثورة شعب ضد نظام مستبد جثم لعقود على أنفاس السوريين فهي تفاصيل ليست مهمة في عالم المصالح السياسية المعقد. تتحدث كلينتون عن ولع الروس بنظام الأسد بقولها: “ثمة أهمية بحرية للمتوسط تكمن في وجود الأسطول الروسي وكذلك أهمية دينية نظرًا للروابط الكاثوليكية بين كنائس روسيا وسوريا، وهما يفسران احتفاظ روسيا بتأثير ثابت تمامًا في دعم نظام الأسد”. وتواصل منه سجالاتها مع نظيرها الروسي لافروف لرفضه أية إدانة لنظام الأسد بينما لم يكترث الروس -كما تقول- لسيادة الدول حين اجتاحوا جورجيا وأوكرانيا، وحين تتحدث عن تسليح الثوار في سوريا تبدي المخاوف التقليدية والنمطية من وقوع أسلحة كهذه بأيدي “المتطرفين” لكنها لا تعترف أبدًا بأن الأسلحة وصلت عمليًّا فقط لهؤلاء من خلال ما جرى في العراق وأن المحروم من هذه الأسلحة هم الذين تصنِّفهم أميركا بالقوى المعتدلة.

وتفاجئ كلينتون قرَّاءها بالقول بأنها سألت أميرًا سعوديًا فيما إذا نجحنا في إقناع الروس بتسوية سلمية بسوريا هل يرضخ لها الأسد؟ فقال لي الأمير: إن الأسد يُدار من أمه وإنه مثل أبيه حافظ الأسد وحشي، وسيواصل نهجه الوحشي في إشارة إلى مذبحة حماة 1982(7).

ومع قرب اتفاق جنيف تقول كلينتون بأن كلاًّ من وزير خارجية تركيا أوغلو ووزير خارجية قطر حمد بن جاسم طلَبَا منِّي دراسة تقديم دعم عسكري للثوار بغض النظر عن محادثات جنيف(8)، وتُشدِّد بعدها على أن القيادات العسكرية الأميركية لم تكن معنية بالعمل العسكري في سوريا وأنهم غير راغبين في التورط، معللين ذلك بأن مثل هذا التدخل بحاجة لقوة عسكرية ضخمة، وهو ما يفضح كل التدخلات الإنسانية التي أجازتها الأمم المتحدة نظريًّا ولم تُنفَّذ في سوريا وسط بحور الدماء، ويفضح أيضًا عمليات الأمل في الصومال مقابل التقاعس الدولي في سوريا، فضلاً عن قرار مسلوق وبغضون أيام لمقاتلة داعش ضم أكثر من ستين دولة ويتم بموجبه إسقاط أسلحة وذخائر على الأكراد في عين العرب ويسقط بعضه في أيدي “داعش” بينما كانت أميركا تحذِّر من وقوعه بالأيدي الخطأ؛ وهو الأمر الذي يؤكد ألا أخلاقيات في عالم السياسة، وأكدته تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من أن العالم لم يأبه لمقتل 300 ألف سوري بينما استنفرته كوباني(9).

حين تصل كلينتون إلى الأسلحة الكيمائية في سوريا، واستخدام النظام لهذه السلاح، تعبِّر عن استغرابها لتراجع الرئيس الأميركي أوباما في خطوة أدهشت الجميع كما تصفها لمَّا توجه إلى الكونغرس لأخذ الموافقة والتي لم يكن بحاجة إليها، ولكن كلينتون هنا كالعادة في كثير من الجوانب المظلمة والمغيبة في الشرق الأوسط لا تكشف لنا الكثير عن أسرار هذه الخطوة وأسرار صمتها وصمت إدارتها لاستخدام الكيماوي لأكثر من مرة وفي أكثر من موقع قبل هجوم الغوطة وبعده.

غزة: تشريح وقف إطلاق النار

كانت حرب غزة 2012 أحد التحديات لحكومة الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، وتسهب كلينتون هنا في أول تماس لها مع مرسي الذي كان يرفض التواصل مع نتنياهو ولا تخفي إعجابها بدبلوماسية مرسي خلال تلك الفترة، وتتذكر أول تماس لها مع مرسي حين سألته: كيف ستتعاملون مع القاعدة في سيناء الذين يعملون على زعزعة حكومتكم؟ فرد عليَّ: ولماذا يزعزعونها وهي حكومة إسلامية! وبرأي كلينتون إما أن يكون هذا تقييمًا ساذجًا أو صادمًا وشريرًا، وتضيف: لكنني قلت له: عليكم أن تحموا حكومتكم وبلادكم، ربما لتتفاجأ كلينتون بعد أشهر بأن من زعزع وأسقط حكومة مرسي لم يكن من تخشاهم كلينتون وإنما من كانت واشنطن على علاقة مميزة وحصرية معهم على مدى عقود ولا تزال.

وهنا تتعرض للحديث عن الدور القطري والإماراتي في حرب غزة وكذلك دور قناة الجزيرة التي تصفها “قناة الجزيرة أصبحت أهم مصدر إخباري مؤثر في الشرق الأوسط ووسيلة للتأثير القطري في كل المنطقة”(10). وقد سعى الأمير برأيها حينها إلى دعم مرسي وحماس وتنفيذ منطقة حظر جوي في ليبيا، حيث كانت اليد القطرية موجودة أينما اتجهت بالشرق الأوسط.

وتغوص كلينتون في حرب غزة 2012 حين تلقَّى وزير الدفاع الأميركي خلال لقاء مع نظيره الاسترالي نوفمبر/تشرين الثاني 2012 رسالة من وزير الدفاع الإسرائيلي يبلغه بالرد على صواريخ حماس التي تصفها كلينتون بخلاف ما وصفها الرئيس الفلسطيني محمود عباس من أنها عبارة عن مفرقعات تصفها: “هذه الصواريخ غدت أكثر تطورًا وأكثر دقة ووصلت إلى نقطة التهديد، وهو ما أطلق صافرات الإنذار لأول مرة منذ حرب الخليج 1991 وبدأت بتهديد تل أبيب”(11). وتتذكر ساعات الرعب التي عاشها وزير خارجية ألمانيا الذي كان في القدس من أجل التوسط لوقف إطلاق النار الذي نقلت عنه قوله: “تخيلي الوضع العصبي الذي نعيشه مع صافرات الإنذار هنا”، وتتطرق إلى المفاوضات الحرجة بين نتنياهو ومرسي حيث نقلت عن مسؤول إسرائيلي بأن أصعب قرار اتخذه نتنياهو هو التعامل مع حكومة إسلامية بزعامة مرسي عن طريق واشنطن؛ فقد أيد مرسي اتفاق كامب ديفيد والذي هو حجر الزاوية في الاستقرار بالمنطقة. ولا تألو كلينتون هنا جهدًا في النيل من مرسي حين تقول: إن التاريخ قذف به من “غرف خلفية إلى كرسي كبير”؛ مما يعكس النظرة إلى أغلبية أصوات المصريين المصوِّتة لمرسي بصورة تحمل الكثير من الاستخفاف بخيارات الشعب المصري.

ومع هذا تُشدِّد على أن مرسي بدا “أكثر اهتمامًا بالتعامل الواقعي منه بالخطاب الديماغوجي”، لكن خلال عملية التوصل لاتفاق إطلاق النار تقول كلينتون: “كان المصريون على تواصل دائم ومستمر مع قادة حماس والمجموعات المتشددة الأخرى”. وظل التواصل بين مرسي ونتنياهو من خلالها عبر مفاوضات الهاتف، فتخلص كلينتون للقول: إن حكومة الإخوان المسلمين الجديدة بزعامة مرسي لم تكن واقعية ومتماسكة كواقعيتها في مثل ذلك اليوم شاكرة مرسي على جهوده تلك.

كيف تسرَّبت ويكيليكس؟

تخلص في الفصل ما قبل الأخير إلى الحديث عن مميزات الدولة في القرن 21 والمتمثلة في الدبلوماسية الرقمية، وتكشف عن حضها السفير الأميركي في روسيا آنئذٍ على التحايل على مراقبة السلطات الروسية له بفتح حسابات له على مواقع التواصل الاجتماعي بغية التواصل المباشر مع الناس، وتلخِّص نصيحتها له: “كن قويًّا وانخرط بعيدًا عن النخبة، ولا تخشى التكنولوجيا الجديدة بهدف الوصول إلى الناس”. لكنها بالمقابل تعكس مخاوفها من الوافد التقني الجديد وخطره على الدبلوماسية الأميركية حين نجح -كما تقول- ضابط صغير في الاستخبارات العسكرية الأميركية المتمركز في العراق في تحميل وثائق البرقيات السرية من كومبيوتر تابع لوزارة الدفاع الأميركية وتسلميها إلى ويكيليكس وصاحبها جوليان أسانج. وقد وصل عدد هذه البرقيات إلى 250 ألف وثيقة كبرقيات للخارجية الأميركية وهو ما سبَّب قلقًا وإشكاليات كبيرة لعمل موظفي الخارجية والسفارات وعلاقاتهم مع قادة ومسؤولي تلك الدول؛ ففي برقية أميركية تصف الرئيس الزامبي الزيمبابوي موغابي بالقول: “جهله العميق بقضايا الاقتصاد يضاف إليه حيازته لـ18 شهادة دكتوراه منحته السلطة لتعليق قوانين الاقتصاد”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

13 + 1 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube