المؤلف :ايل وايزمان “حافة الصحراء خط المواجهة” عنوان كتاب جديد لباحث إسرائيلي ينسف الرواية التاريخية الصهيونية حول تحويل فلسطين من قفار ومستنقعات إلى حدائق غناء، ويدلل على أن الحقيقة عكس ذلك في صحراء النقب على الأقل. مؤلف الكتاب هو الدكتور إيل وايزمان، وقد صدر عن منظمة “ذاكرات” التي تعني بتعميم الرواية التاريخية الفلسطينية. يروي الكتاب كيف تعمل إسرائيل منذ احتلال النقب عام 1948 على تهويده وتغيير ملامحه العربية واقتلاع أصحابه الأصليين تحت غطاء المزاعم الصهيونية التقليدية (تطوير القفار)، ويتوقف عند مقاومة البدو الفلسطينيين للمخططات الصهيونية. يمثل هذا الكتاب عملا نادرا في المشهد الثقافي الإسرائيلي، فهو ينسف الصورة النمطية ويكشف أن هذه المفاهيم المغلوطة للصحراء تستخدمها إسرائيل لاقتلاع الفلسطينيين البدو من ديارهم في النقب. والواقع أن وايزمان نجح في كتابه المستند على رؤية بحثية وعلى صور تاريخية وأدى مهمته بشكل بارع في دحض مزاعم “التطوير” الإسرائيلية التقليدية للصحاري والقفار. سلب واستيطان يستعرض هذا الكتاب من زاوية نظر خاصة عمليات اقتلاع البدو من النقب الشمالي، وبخلاف بقية حدود فلسطين فإن خط الصحراء لم يتم ترسيمه بالجدران والأسلاك بل يتغير وفق تحولات مناخية وسياسات فلاحة الأراضي، علاوة على عمليات تمدن و”تحريش” ناجمة عن سلب واستيطان. وفيما تعتبر أوساط إسرائيلية واسعة أن تغييرات المناخ في النقب نتيجة مرافقة للتطوير الحديث؛ يدعي وايزمن أن أيديولوجية “تطوير القفار” طالما كانت هدفا معلنا حسمت مصير البدو ممن عاشوا على طول خط الصحراء طيلة قرون. ويقوم وايزمان في هذا الكتاب بمسح الصحراء من الفترة العثمانية حتى اليوم ويظهر كيف اجتهد غزاة النقب من أجل دفع أطرافها الشمالية للخلف بغية توسيع مساحات الزراعة وإخضاع سكانها لسيطرتهم. ولهذا الغرض أدار الغزاة هجمات منسقة ضد خط الصحراء وسكانها، ويتابع “فيما يدافع البدو في النقب عن أنفسهم ويتراجعون أحيانا أمام هجمات إسرائيل فإن الطبيعة بصحراء النقب ترد الصاع صاعين بالسنوات الأخيرة بحرب مضادة”. شهادات ووثائق ويعتبر الكتاب مزيجا من القصة البوليسية التحقيقية ومن وصف تاريخي وتحليل علمي. وبواسطة خرائط وشهادات ووثائق أهلية يعيد وايزمان رسم خط دار حوله نزاع بين محتل وبين من وقع تحت الاحتلال، نزاع دائم بين القوة البشرية وبين جبروت الطبيعة. وتعرّف الصحراء بأنها تلك المناطق التي تهطل فيها رواسب أقل من 200 ملم سنويا، أما حيث يهطل أقل من هذا المنسوب فتكون المناطق عادة قفارا خالية من السكن الدائم لفقدان الفرصة للزراعة. على هذه الخلفية يؤكد الباحث الإسرائيلي أن إسرائيل حولت منطقة النقب الصحراوية إلى مكبات لمهملات صناعية ملوثة ومواد مشعة ولمناطق تدريب عسكرية ومعتقلات للأسرى الفلسطينيين أو المتسللين الأفارقة من خلال سيناء المجاورة. وينبه الكاتب إلى أن نظام الحماية الإسرائيلي (القبة الحديدية) لم يستخدم للدفاع عن “الأماكن الفارغة” في النقب خلال عدوان “الجرف الصامد” على غزة في 2014؛ بيد أن الكاتب يغفل بهذا السياق عن ذكر سقوط عدد من الضحايا نتيجة الحرب المذكورة لعدم تغطية “القبة الحديدية” منطقة النقب المأهول بكثير من القرى الفلسطينية البدوية. وبواسطة وثائق وصور تاريخية وحديثة ينسف الباحث في كتابه هذا الادعاءات الإسرائيلية بأن صحراء النقب كانت خالية. يشمل الكتاب وثائق عثمانية، صورا جوية من فترة الحرب العالمية الأولى وما بعد الحرب العالمية الثانية وصورا لجرائم هدم القرى العربية “غير المعترف بها ” من قبل إسرائيل في النقب كقرية العراقيب التي هدمت مائة مرة. كل هذه المستندات والصور يستخدمها وايزمان للتدليل على كيفية استخدام الفلسطينيين البدو السلاسل الحجرية، القنوات، السدود، الآبار لاحتياجات الزراعة. نكبة البدو ويشير الكاتب أن ناشطين من الحركة الصهيونية قد اعترفوا بملكية البدو لأراضي النقب بل حاول بعضهم اقتناء عدة قسائم منهم وأحيانا نجحوا بذلك، واستنادا على ذلك وغيره يخلص الباحث الإسرائيلي لاستنتاج مفاده أن النقب لم يكن منطقة صحراوية خالية، وأن عملية تفريغه من سكانه تمت خلال “نكبة البدو” بين 1948 -1953بعد طرد الصهاينة 90% من البدو. ويقر الباحث بما تحاول إسرائيل الرسمية والكثير من مؤرخيها طمسه بالقول إن عمليات إسرائيل حينها شملت مذابح وتشريدا وتهجيرا وإبادة للكثير من المزارع والمواشي. أما الناجون من عمليات القتل والتهجير للأردن ومصر فقد تم تركيزهم في منطقة “السياج” بمساحة نحو ألف كيلومتر مربع بين بئر السبع وديمونا وعراد. كما يكشف الكتاب عن استئناف الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين البدو في النقب بعد انتهاء الحكم العسكري عام 1966، منوها لاقتلاع الكثير منهم وترحيلهم لمناطق نائية عن ديارهم وأراضيهم، بالمقابل بقي قسم آخر منهم في قراهم التي باتت تعرف بالقرى غير المعترف بها لأن إسرائيل تعتبرها غير شرعية وتحرمها من الماء والكهرباء والمدارس والعيادات وسائر الخدمات الأساسية. كذلك لم تقم الدولة ببناء ملاجئ للفلسطينيين البدو في النقب (نحو 180 ألف نسمة) ما عرضهم للموت والإصابة خلال الحرب على غزة في 2014، منوها إلى أنهم لم يجدوا سوى أيديهم لتغطية رؤوسهم أمام تساقط الصواريخ عليهم وقتها. أسطورة صهيونية وفي جوهره يحطم كتاب وايزمان أسطورة صهيونية تقليدية حول تطوير القفار وتجفيف المستنقعات في فلسطين وتحويلها لحدائق غناء. يقول الباحث الذي يغرد بعيدا عن التيار الصهيوني المركزي إن محاولات إسرائيل لـ”تطوير النقب” بواسطة اقتلاع السكان المحليين وزرع أحراش الوكالة اليهودية على أنقاض قراهم قد تسببت بنتائج معاكسة، كما تسببت بتوسيع ظاهرة التصحر في النقب. يقتبس الباحث دراسات وجدت أن أكوام التراب التي تمت مراكمتها ضمن عملية ريّ أحراش الوكالة اليهودية قد حالت دون وصول كميات كبيرة من المياه للأودية في المنطقة، وكانت النتيجة جفاف أنظمة بيئية كاملة وارتفاع ملوحة الأرض وانخفاض خصوبتها. وتظهر هذه الدراسات الواردة في الكتاب أن أشجار الأحراش المذكورة تمتص المياه المتوفرة في البيئة القريبة ما يتسبب بازدياد سخونة الأراضي المحيطة، وتستند هذه الدراسات على عدة وسائل منها قياسات درجات الحرارة السنوية والتي تدلل على تأثيرات محلية في تغيير المناخ إضافة لتوجهات عالمية. سنوات من الصمود لا يوثق الكتاب فقط تاريخ اقتلاع البدو من النقب وظاهرة تعميق تصحره نتيجة الممارسات الإسرائيلية؛ بل يتوقف عند مقاومة السكان الأصليين للمخططات الإسرائيلية. على سبيل المثال يستعرض الكتاب مسيرة الشيخ الراحل سليمان العقبي الذي ظل يرفض رصف أرضية منزله بالبلاط في البلدة التي نقل لها بعد اقتلاعه لأنه رفض التسليم باقتلاعه وقرر النضال من أجل العودة لدياره، ويكشف الكتاب أن السلطات الإسرائيلية قدمت ضد العقبي 70 لائحة اتهام على خلفية محاولاته العودة لأراضيه في قرية العراقيب التي طردت عائلته منها في 1951 بذريعة النقل المؤقت ولستة شهور فقط ريثما تنتهي إسرائيل من “تدريبات عسكرية “. صور جوية ويتقاطع وايزمان مع الباحث الجغرافي اليهودي بروفسور أورن يفتاحئيل الذي جمع أدلة قضائية تدحض مزاعم إسرائيل حول “خلو النقب” من البدو. وتضمنت دراسات يفتاحئيل شهادات رحالة أجانب زاروا النقب خلال القرن التاسع عشر وكتبوا عن سكانه. أما وايزمان فعاد لصور جوية من قبل نكبة 1948 تشمل سدودا ومزارع وكروما وحظائر في المنطقة “الخالية”. يتضمن هذا الكتاب الذي أعلنت منظمة “ذاكرات” عن صدوره في قرية العراقيب غير المعترف بها من قبل إسرائيل التي هدمتها مائة مرة بغية زرع غابة على أنقاضها؛ صورا تاريخية وحديثة تساهم في إظهار الحقيقة المنافية للدعاية الإسرائيلية. ولا شك أن الكتاب يوفر مادة وذخائر قانونية ومعنوية للسكان الأصليين في النقب ويعينهم على مواجهة مخططات الاقتلاع المتواصلة ومزاعم إسرائيل الدعائية في البلاد والعالم..