المؤلف :توماس غومارت هو صراع اقتصادي وتجاري وتكنولوجي وعسكري وسياسي. ولهذا الصراع كرس توماس غومارت، مدير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية فصولاً عدة من كتابه الأخير الصادر حديثاً تحت عنوان «جنون العالم: التحديات الجيو – سياسة العشرة» التي من بينها «الصين الساعية لاحتلال المركز الأول في العالم» و«مجاهيل القوة الأميركية»، «الصراع من أجل السيطرة على الفضاءات المشتركة: البحار، الجو، الفضاء والرقمي». كذلك يحتوي الكتاب على فصل مهم عن روسيا والتحديات العالمية التي تطرحها، وآخر عن أوروبا ما بين الأقطاب الثلاثة. أميركا والصين وروسيا، وقبله عن الشرق الأوسط، ورابع عن الهجرات وتبعاتها. بيد أن الفصل الصادم بعنوانه «أصداء الحرب القادمة» فيه ما يثير القلق ويدعو القادة والمسؤولين إلى إعادة النظر بسياساتهم ونتائجها. وفي السياق عينه، تجدر الإشارة إلى إصدار جماعي نهاية مارس الماضي عن المعهد نفسه يتضمن تحقيقاً مطولاً وبالغ الأهمية بعنوان «المنطلقات والنتائج الاستراتيجية للمنافسة الصينية – الأميركية» للباحث كورنتان بروستلين. في بداية دراسته، يأتي توماس غومارت على مقولة شهيرة للفيلسوف اليوناني توسيديد الذي توفي في عام 395 قبل الميلاد يؤكد فيها أن بروز قوة جديدة يتم دوماً على حساب قوة قائمة ويقود غالباً إلى النزاع. لكن قد يتم ذلك سلمياً إذا كانت القوتان تتقاسمان القيم نفسها. والحال، أن بين الصين والولايات المتحدة هوة قيمية؛ ولذا، فإن «انقلاب ميزان القوى بين القوتين خلال جيل أو جيلين يشكل اليوم التحدي الأكبر للسياسة الدولية»، كما ستكون له تبعاته على الاستقرار، ومنه ستنبع إعادة تشكيل النظام العالمي. بداية، تشكل الصين القوة الصاعدة اقتصادياً في العالم وقد استخدمت العولمة للتمدد والانتشار. ويشير الكاتب إلى خطاب الزعيم الصيني شي جينبينغ في منتدى دافوس، «يناير (كانون الثاني) 2017»، أي بعد عام من وصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، حيث قدم نفسه على أنه «راعي» العولة والتبادل الحر والتعاون الدولي، وذلك في إطار «اقتصاد منفتح ومزدهر»، محذراً في الوقت عينه من أن العولمة «سلاح ذو حدين» وأن «لا أحد يمكن أن يخرج منتصراً من حرب تجارية». وما حذر منه جينبينغ تحقق سريعاً. فالحرب التجارية، بل الاقتصادية أصبحت واقعاً معاشاً، وعشرات مليارات الرسوم المفروضة على البضائع المستوردة من الجانبين والقيود المفروضة، خصوصاً أميركياً والاتهامات بسرقة البراءات، كل ذلك يدل وفق الكاتب على عمق المخاوف الأميركية من الصين ومن مستقبل التنافس معها. وصل ترمب إلى البيت الأبيض مع شعاره «أميركا أولاً». لكن إدارته تنظر بكثير من القلق إلى تغلغل الصين في أفريقيا وآسيا وأوروبا، وتعتبر أن مشاريع الصين الطموحة مثل «طرق الحرير» التي هدفها ربط الاقتصاد الصيني بقارات ثلاث، وتسريع إيصال بضائع «المصنع الأول في العالم» براً وبحراً وجواً، تمثل خطراً بالنسبة للحضور الأميركي الذي لا ينحصر فقط بالتجارة والاقتصاد. ويقول الكاتب، إن «طرق الحرير» تعني أن الصين «انتقلت من سياسة خارجية تتسم بالحذر وذات بعد إقليمي إلى سياسة متعددة الارتكازات وذات أبعاد شاملة». فمع قدراتها المالية غير المحدودة وقدراتها الديموغرافية (1.380 مليار نسمة) والتكنولوجية تسعى الصين لأن تكون «بديلاً» عن «النموذج الغربي». والأدلة على ذلك كثيرة: «البنك الآسيوي للاستثمار والبنى التحتية» و«البنك الآسيوي للتنمية» غرضه منافسة البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، حيث هيمنة واشنطن لا تحتاج إلى براهين. وتعتمد الصين على البنوك الحكومية كذراع مالية ضاربة، وعلى شركاتها الكبرى أمثال «هواوي» و«هاير» أو «لنوفو»، وعلى قدراتها الاستثمارية الضخمة لاختراق اصعب الأسواق. والأهم من ذلك وبعكس الغربيين، فإن «النموذج الصيني» لا يأخذ بعين الاعتبار الواقع السياسي؛ إذ يتبع مبدأ «عدم التدخل»، وبالتالي فإن استثماراته «غير مشروطة»، وهذا ما يلاقي تجاوباً في أفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية… ومقابل ذلك، تطلب الصين أحياناً دعماً دبلوماسياً برز ذلك في المؤسسات الدولية. فبينما انسحبت واشنطن من اليونيسكو وهددت بالانسحاب من منظمة التجارة الدولية ومن منظمة الصحة الدولية، فإن الصين تقوي حضورها فيها كما حصل العام الماضي لدى انتخاب مدير عام لمنظمة الزراعة الدولية، حيث انصبت أصوات الدول الأفريقية لصالح المرشح الصيني الذي فاز بالمنصب على حساب المرشح الذي كانت تدعمه واشنطن. تسعى الصين، وفق الكاتب، إلى «الهيمنة على محيطها الإقليمي وإلى محاصرة النفوذ الأميركي في آسيا». أربع عقد تواجه بكين: التيبت، وكشينجيانغ (الإيغور)، وهونغ كونغ وتايوان. لكن الأخيرة هي العقدة الكأداء. ففي هونغ كونغ، أخذ الحبل الصيني يلتف على رقبة «المتمردين» مع التصويت على قانون جديد يقيد هؤلاء ويطلق يد السلطات للضرب من حديد. لكن تايوان (23 مليون نسمة)، تحظى بدعم أميركي كامل، وهي حصان طروادة لواشنطن لمواجهة الصين، وستكون للسنوات المقبلة، في حال زادت العلاقات الصينية – الأميركية تدهوراً، ميدان الصراع. ولا يخفى على المراقب أن واشنطن تلعب أيضاً ورقة اليابان، والهند، وكوريا الجنوبية، وأستراليا لاحتواء التمدد الصيني الآخذ بالاتساع في بحر الصين وجنوب المحيط الهادي، حيث تدور خلافات على ملكية العديد من الجزر الصغيرة التي تريدها بكين موطئ قدم لتمددها البحري فيما تعتبره منطقة نفوذها، وللخروج منه إلى أعالي البحار والمناطق الأبعد مسافة. وتجد الصين في باكستان (197 مليون نسمة) حليفاً لها، وقد ساعدتها على التحول إلى دولة نووية. وفي خططها الاقتصادية، تشكل باكستان حلقة رئيسية؛ إذ ستتيح الإنشاءات والطرق والبنى التحتية للصين الوصول براً وسريعاً إلى بحر عمان وميناء «غودار» الباكستاني ما يمكنها من اختصار المسافات والالتفاف على مضيف مالاغا. يضاف إلى ذلك نقاط ارتكاز في سريلانكا، وبور سعيد والبيريه (اليونان) وطنجة ووالفيس (ناميبيا» إضافة إلى قاعدة عسكرية في جيبوتي. يؤكد الكاتب، أن التمدد التجاري له بعد عسكري. فالصين تسعى للهيمنة على المعابر البحرية الضرورية لانتشارها. ورغم أن الولايات المتحدة تبقى القوة البحرية الأهم والأقوى والأكبر في العالم، فإن الصين تطور بسرعة كبيرة قدراتها البحرية. وبحسب غومارت، فإن الصين «آخذة فلي تحقيق استدارة استراتيجية عن طريق التحول من قوة قارية إلى قوة بحرية، وهو شرط من شروط تحولها إلى قوة شاملة». هدف بكين يحتاج إلى آلة عسكرية قادرة على المنافسة. ويركز كورنتان بروستلين على أهمية كلمة الرئيس الصيني في 2017، بمناسبة المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي، حيث أعلن أن قوات بلاده المسلحة «ستتحول إلى قوات عالمية منتصف القرن الحالي» ما تبرزه بقوة ميزانياتها الدفاعية التي تضاعفت خلال السنوات العشر الأخيرة لتصل إلى 180 مليار دولار العام الماضي. وينعكس ذلك على سرعة إنتاج القطع البحرية المخصصة لأعالي البحار والغواصات والطائرات الحربية وآخر ما أنتجته المصانع العسكرية الصينية الطائرة القاصفة – المقاتلة الخفية (جي 20). كذلك يشير الكاتب إلى تطوير الصين لقواتها التقليدية والنووية ومنها الصواريخ العابرة للقارات التي يمكن تزويدها برؤوس نووية متعددة. ويشير الخبراء الغربيون إلى أن بكين اختبرت العام الماضي ما لا يقل عن 100 صاروخ باليستي ما يدل على طموحاتها في هذا الميدان. ويتسق ذلك كله مع تركيز الصين على اللحاق بالتنافس الفضائي وأحد عناوينه إرسال المسبار إلى المريخ. بدأ الحديث في واشنطن عن رغبة ترمب في الخروج من اتفاقية «نيو سترات» الموقّع مع الاتحاد السوفياتي (روسيا) بعد قراره الخروج من اتفاقية الصواريخ النووية قصيرة المدى في أوروبا. وإحدى حجج البيت الأبيض، أن الاتفاقيتين لا تشملان النشاطات النووية والباليستية الصينية؛ لأنها محصورة بين موسكو وواشنطن. وتعكس هذه الحجة القلق الأميركي من تنامي القوات الصينية غير التقليدية ورغبتها في تأطيرها من خلال ضم الصين التي ترفض هذا الارتباط. كذلك، دفع ترمب الحلف الأطلسي الذي وجد لاحتواء التغلغل السوفياتي في أوروبا إلى النظر إلى الصين التي تعتبرها واشنطن العدو الاستراتيجي الشامل بعكس روسيا التي لا يتعدى كونها قوة عسكرية. ولذا؛ فإن السنوات المقبلة سيحتل هذا الثنائي اهتمام العالم القادم لا محالة إلى تغييرات استراتيجية من الطراز الأول.