https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

 

كتب ممد خير الوادي:

ذكرني الفيس بوك مشكورا ، بهذه المقالة التي نشرتها قبل سبع سنين ، والتي ضمنتها فيما بعد في كتابي الذي اسميته ” لقاءات مع قادة من آسيا ” صدر قبل سنتين عن دار دلمون الجديدة في دمشق .

 وفيما يلي نص المقالة.

لمن لا يعرف ، يعيش معظم احفاد جنكيز خان الذي غزا العالم  القديم واسس اكبر امبراطورية في التاريخ الان في منطقة  شطرت الى جزئين ، الاول  ، يسمى  دولة منغوليا ، والثاني اطلق عليه الصينيون تسمية  منغوليا الداخلية ، والتي باتت احدي مقاطعات الصين . وبحكم ظروف عملي ، فقد زرت شطري المنطقة التي يعيش فيها المنغول ، والتقيت مع قادتهما .وكان هاجسي الاول  من تلك الزيارات  ان اجد اجوبة – من المصادر الاولى – على اسئلة حيرتني كثيرا حول تاريخ المغول ، الذي مسٌنا كثيرا  في فترات تاريخية حالكة .

كانت زيارتي الاولى لدولة منغوليا عام 2002 من أجل تقديم اوراق اعتمادي سفيرا غير مقيم لسورية في هذا البلد.وتضمنت  الاجراءات الرسمية ، لقاءات مع الرئيس المنغولي -آنذاك –  ناتساغين باغاباندي ، ومع رئيس الوزراء نامبارين انخاباير وغيرهما من المسؤولين .

عند وصولي الى العاصمة أولان باتر ، لفت انتباهي ان معظم الاماكن المهمة  في المدينة عليها  اطلق عليها اسم جنكيز خان ، تعظيما للرجل .  فاهم فندق في العاصمة المنغولية يحمل اسم هذا القائد التاريخي ،وكذلك الشارع الرئيسي وغيره من معالم المدينة .وهكذا ، اذا كان قادة المغول بمن فيهم جنكيز وهولاكو وتيمورلنك ، ينظر عليهم في تاريخنا على انهم اشرار محتلون و قتلة قساة القلوب ، فان هؤلاء  يعتبرون لدى شعوبهم  ابطالا وطنيين وقادة تاريخيين !.

في اليوم التالي ، التقيت  رئيس الجمهورية . ومن حسن حظي ، انني عرفت – خلال اللقاء – ان الرئيس قد تخرج من الجامعة نفسها التي تخرجت انا منها وهي  جامعة موسكو، وفي السنة نفسها وهي عام 1974، وانه انهى كلية الفلسفة . وزد على ذلك كله ، اننا خلال سنوات  الدراسة  ، التقينا أكثر من مرة بحكم انشطتنا في اتحادات الطلاب .اضفت هذه الوقائع نكهة خاصة على اللقاء . فلم يعد الجو رسميا ، بل بات اقرب الى روح الزمالة والصداقة . وهذا شجعني اكثر على الخروج عن اطار الحديث الرسمي ، ووجدتها فرصة لطرح الاسئلة  التاريخية التي حيرتني كثيرا عن تاريخ المغول ، بعد ان انهينا القسم الرسمي من اللقاء ، طرحت على الرئس المنغولي هذه الاسئلة وهي  : كيف تمكن المغول – بعددهم الضئيل هذا – من السيطرة على نحو 26 مليون كيلو متر مربع من الارض ، امتدت من اوربا  والمنطقة العربية الى اليابان والصين والهند وروسيا ، ولماذا كان تعامل المغول  مختلفا مع الشعوب التي حكموها، فبينما كان جنكيز خان واحفاده حمٌالي حضارة و بناء واعمار في الصين والهند ، قدموا انفسهم قوة تدمير في وسط آسيا والمنطقة العربية وروسيا . وغيرها من الاسئلة . رمقني الرئيس المنغولي بنظرة ودية  وقال ، ان وقتي الان لا يسمح للاجابة على هذه الاسئلة المهمة ، ولذلك اقترح ان نلتقي – كزملاء – في احدى المطاعم لمتابعة الحديث . اصدقكم القول ، ان سروري لم يكن يوصف  بهذا الاقتراح  . ودعته حسب المراسم المعتادة  وقلت له : انني بانتظار موعد اللقاء . بعد يومين قضيتهما في اجراء مقابلات  ذات طابع رسمي  ، اخبرتني المراسم بان عشاء العمل سيجري  في مطعم جنكيز خان بالقرب من العاصمة . حضرت في الموعد المحدد . كان المكان يحفل حقا بالتاريخ . عند المدخل الخارجي للمطعم ، وقفت ثلة من  الرجال الذين ارتدوا ملابس جنود جنكيز خان  المدججين بالسيوف والخناجروالرماح . في البداية حسبتهم تماثيل. والشيء الوحيد الذي كان يشير الى انهم احياء، كانت نظراتهم الحادة التي تتابعك  وتوخزك كاسنة الرماح ، و ملامح وجوهم الصارمة التي تبث الخوف والرعب. في المدخل الداخلي للمطعم  كان الجو الٌطف وأرٌطب ، فقد رحبت بي فتيات جميلات فارعات الطول  بسحن منغولية ، يرتدين ثيابا طويلة فضفاضة  من العهد المغولي نُسجت من الحرير  الاصفر والازرق المزركش ، ويعتمرن قبعات كبيرة من الريش الزخرف . في البهو انتصب تمثال هائل لجنكيز خان فوق حصانه الابيض .كان المطعم عبارة عن خيمة منغولية دائرية هائلة، وفي ركن بعيد منه ،جلس  شخص مربوع القامة  خلف طاولة.عرفت انه الرئيس . بادرني بالتحية قائلا : لقد اخترت هذا   المطعم لانه مشبع بعبق التاريخ ، ولانه يقدم الوجبات التي كانت دارجة  قديما .جلسنا وحدنا دون مترجم ، وكانت لغة التواصل هي الروسية التي يجيدها كل منا .

شكرته على هذه اللفتة ، وبادرته بالقول: ألا تبالغون قليلا بتمجيد جنكيز ؟ فرغم انه رحل قبل نحو ثمانية قرون ،الا ان  ذكراه وبصماته موجودة في كل مكان .اجاب الرئيس المنغولي وقد علت وجهه بعض علامات الاستغراب : تيموجين ( جنكيز خان ) هو ابٌ الامة المنغولية . فهو الذي فرض الوحدة على كل القبائل ، وانهى الحروب الداخلية  ووضع اسسا لدولة قوية . وهو الذي قال بحرمة القتال بين المنغوليين، وجرم بالاعدام كل من يخرج عن هذه القاعدة او يخونها .وهو الذي أوجد  عناصر القوة لجيش كبير مرهوب الجانب . وأخيرا ، هو الذي  اشاع الاحترام والعزة بالنفس لدى كل منغولي .

سألته :كيف وفٌر  جنكيز، وهو الذي ترعرع في بلاد فقيرة قليلة السكان  والثروات  ووسط ظروف جوية صعبة  ، الموارد  البشرية والمالية الهائلة  لتأسيس امبراطوريته الكبيرة ؟ .  اجاب ، قبل ان نبدأ الحديث لا بد ان نوصي على الطعام .وحضر نادل يرتدي الزي المنغولي التقليدي مع حزام جلدي عريض  في وسطه وقبعة كبيرة. وتحدث معه الرئيس باللغة المنغولية ولما فرغ قال : اوصيت على لحم الخاروف المسلوق ، والخبز التقليدي اضافة للدهن المقلي المساخ مع البهارات كمقبلات ، مع الكبد المشوي .واضاف : انت تلاحظ ان المطبخ المنغولي التقليدي يكاد يخلو من الخضروات والفواكه .فالطبيعة فرضت نفسها ، لان لدينا طقس صارم يتسم ببرودة شديدة وصيف قصير مع ربيع اقصر . وعلق مازحا : رغم  اقتصار اجدادنا في الطعام على اللحم والخبز ، لكنهم لم يعانوا من الامراض المنتشرة الآن ! ونظر الي بودٍ وقال : سأحاول الاجابة على سؤالك ، رغم انني لست مختصا بالتاريخ .لقد وفٌر جنكيزخان الظروف لانبعاث مشاعر العزة والكرامة لدى المنغوليين . وانهى الى الابد التصورات التى سادت لفترة طويلة من انهم قبائل رحل  متخلفون متوحشون متعطشون للدماء .لقد تمكن جنكيز اولا  من تجنيد كل فصائل المنغوليين وانهى الخلافات الدموية  التي استعرت بينهم واستفاد منها خصومهم.وخلق منهم كتلة صلبة متجانسة يصعب سحقها ، وثانيا عمد ( تيموجين ) الى دبلوماسية الترغيب والترهيب لاستقطاب  الملايين من المناطق المجاورة  . وهكذا ، فان عبقرية جنكيز تجلت في قدرته  على  حسن القيادة والتوحيد وجذب الكفاءات من الجوار .لقد خلق جنكيز- كما اسلفت – النواة الصلبة للقوة المنغولية واستخدم بمهارة وسائل الحرب النفسية التي كانت تبث الرعب والخوف في نفوس اعدائه ومنافسيه.وعامل ثالث لعب دورا كبيرا في بناء سلطة الرجل ، تمثل في شخصية جنكيز الطاغية والصارمة والعادلة . صحيح انه لم يتخذ القرارات المهمة الا بعد الرجوع الى رؤوساء القبائل وقادة الجند ، لكنه كان حادا كالسيف في مسألة الالتزام بهذه القرارات ، ولم يستثني احدا ،بمن فيهم اقرب الناس اليه ، من العقاب القاسي الذي وصل الى حد جز الرأس   .

سألته :ولكن لماذا عامل جنكيز خان الصينيين والهنود بالحسنى ، بينما استخدم وسائل التدمير والقتل كلها في تعامله مع جيرانه في الغرب ، واقصد شعوب آسيا الوسطى والمنطقة العربية وروسيا ؟ في هذه الاثناء كان النادل قد احضر الطعام ، وعلق الرئيس بقوله : ” في العادات المنغولية نقول عندما يحضر الطعام يبطل الكلام . ولذلك اهلا بك صديقا وزميلا في منغوليا ، واتمنى ان تعجبك بلادنا “. كان الطعام لذيذ فعلا ،لا سيما الدهن المساخ مع الملح والفلفل والذي يدهنون به الخبز عوضا عن الزبدة .

استأنف الرئيس الكلام :انا لا أريد ان انبش عداوت التاريخ ، فنحن بغنى عن ذلك . وقد ترددت – والكلام للرئيس المنغولي  – بالاجابة على هذه السؤال ذي الشجون الكثيرة ، لكنني حزمت أمري اخيرا للعثور على الجواب لسببين ، أولهما ان صديقا وزميلا قديما – هو انت – طلب مني ذلك ، وثانيهما اننا لا نعيش وقائع التاريخ مثلكم ، اي لا نخلط التاريخ بالحاضر .فنحن ننظر الى الاحداث التاريخية من باب انها حدثت وانتهت ولا يمكن اعادتها ،  ولكن تكمن اهميتها في انها نبع  لاستقاء  العبر منها ، وحشد المشاعر الوطنية حول المضيء وغير المؤذي منها . واستأنف الرئيس كلامه قائلا: مثل كل القادة الكبار ، بدأ جنكيز خان – بعد ان رتب البيت المنغولي الداخلي – يتطلع الى توسيع نفوذه في الخارج . ولذلك ارسل  مبعوثيه الى دول الجوار وقبائلها عارضا عليهم السلام والتعاون وحسن الجوار . وقد ادرك الصينيون ، انه من الافضل لهم التعاون  مع هذه الدولة الفتية الصاعدة والقوية وعدم مجابهتها ، والسعي لاقامة افضل العلاقات معها. فارسلو لجنكيز الهدايا وكرٌموا رسله واعربوا عن استعدادهم لاقامة افضل العلاقات معه ، وقد ااثمرت هذه العلاقات الودية  افضل النتائج، واهمها تأسيس اسرة يوان التي حمكت الصين قرونا خيٌم فيها الاستقرار والهدوء. ولا بد من الاشارة الى ان الحكم المنغولي في الصين ، اسهم في بناء الصين . فقد  جلب المنغوليون افضل البناة والمهندسين والاطباء والعلماء والخبراء الى الصين ، واسسوا العاصمة الحالية بكين و، ومدوا الطرقات وبنوا الجسور والقصوروطوروا العلوم  .

وقد توجت العلاقات مع الصين بمعاهدة السلام عام 1304،التي مكنت عددا كبيرا من اقاليم الصين من ممارسة استقلالها الفعلي .وفي الهند كانت الاحوال مماثلة ، حيث عمل الحكام المغول هناك على تأمين الاستقرار والازدهار هناك  ،  وبنوا القصور والمعابد البوذية والاسلامية . وخير شاهد على ذلك الامبراطورية  التي أسسها ظهير الدين بابر، واستمرت قائمة لما يقرب من 300 سنة، وبالتحديد من  1526 حتى 1858م. وحكمت اجزاء كبيرة من شبه القارة الهندية. وسيبقى قصر تاج محل الذي اشاده الملك المغولي  شاه جهان (1630 – 1648)  تكريما ووفاء لذكرى زوجته  ، تحفة فنية على مدى العصور، وشاهدا على حب المغول للبناء واحترام المرأة.توقف الرئيس برهة عن الكلام ،وتناول جرعة من  الشاي الاخضر ونظر حوله ثم استأنف حديثه قائلا : اما فيما يتعلق بتوجهات جنكيز نحو المناطق الغربية  ، فقد كانت الامور اكثر مأساوية للكل.لم يفهم جيراننا في الغرب طبيعة جنكيز خان وتوجهاته ،واتخذوا منه موقفا عدائيا.وكانت حادثة مقتل مبعوثه  هي الشرارة التي فجرت الاحقاد  والعداوات بين الجانبين .لقد اعتبر جنكيز ان قيام  السلطان محمد شاه خوارزم بقتل مبعوثه  عام 1218  م بمثابة اهانة شخصية له . وأقسمَ امام كل الامراء وقادة الجيوش ان يقتص من القاتل وينهي حكمه .واختار جنكيز بنفسه ،وحدات خاصة من خيرة المحاربين  للبحث عن السلطان محمد الذي هرب منهم وانتهى به المطاف مقتولا بجزيرة في بحر قزوين.وتفاقمت الامور عندما وقفت الخلافة العباسية ،آنذاك ، ضد قوات جنكيز ، وامرت الولاة بقتاله . وقاد هولاكو حفيد جنكيز خان  جيوشا جرارة  واجتاح  بغداد و قتل آخر الخلفاء العباسيين وهو المستعصم بالله .وتوالت الغزوات للمدن في تلك المنطقة .وكان موقف الروس شبيها بموقف الخلافة العباسية ، حيث جهزوا الجيوش لمحاربة المغول ، وقد انتهى ذلك عام  1223  بعدما حقق  الجيش المغولي  نصرا حاسما  في معركة نهر كالكا على الروس السلاف واباد الجيش الروسي بالكامل .

وتوقف الرئيس المنغولي عن الحديث وقد علت وجهه  مشاعر المرارة  والضيق. واحسست انه لا يريد الاستمرار في الكلام عن هذه الحقبة التاريخية الصعبة . واضاف : نحن اليوم نعيش في دولة صغيرة عدد سكانها نحو ثلاثة ملايين مع مساحة تقارب المليون ونصف المليون من الكيلو مترات المربعة . ونحن نجاور عملاقين هما الصين وروسيا ، ولذلك لا يمكن ان تكون توجهاتنا الخارجية الا السلام والتعاون . ولذلك نحن مهتمون جدا بتطوير العلاقات مع العرب ، ونرحب بهم دائما في منغوليا ، قد نختلف في تقويم الوقائع التاريخية ، ولكننا لن نختلف ابدا حول ضرورة تطوير التعاون والصداقة بيننا . ولنترك التاريخ للمؤرخين ، و لنقم بصناعة الحاضر الذي يلبي مصالح الجانبين. قلت له : هذا صحيح ، فالمهم الان اقامة جسور التفاهم والتعاون ،وينبغي ان لا تكون هذه الوقائع التاريخية المؤلمة حجر عثرة امام التقارب بين منغوليا والدول العربية . انتهى الحديث مع الرئيس، ولكن قبل ان اختم ، اريد ان اعلق على امرين وردا في حديثه . الاول:  بالتأكيد ،اخطأ  السلطان محمد شاه خوارزم – وهو بالمناسبة ليس عربيا  رغم ان العرب تحملوا وزر فعلته- بقتل مبعوث جنكيز خان ، ولكن هذه الحاثة لا تسوغ ما فعله هولاكو بحاضرة العرب والمسلمين آنذاك – بغداد ، من قتل الناس  وتدمير المساجد و المساكن والمكتبات  واحراق الكتب ، الى حد ان  نهر دجلة اصطبغ باللونين الأحمر لكثرة ما قتل هولاكو من البشر ، و الأسود لكثرة الكتب المحروقة التي ألقيت في النهر .

ولا تبرركذلك  ما جرى   في حلب عام 1260م التي استبيحت وارتكبت فيها من الفظائع ما لا يوصف،او ما جرى بعد مئة واربعين عاما  في دمشق على يد السليل المغولي  تيمورلنك، رغم جنوحها للسلم وحصولها على وعد بعدم نهبها وتخريبها ان هي فتحت ابوابها امام جنود تيمور الاعرج . فحادثة مقتل مبعوث جنكيز لايمكن ان تكون سببا كافيا لهذا الحقد الذي اعتمل في نفوس المغول على امتداد قرون ضد  حواضر الحضارة العربية ورموزها . لقد ذكر الرئيس المنغولي سببا واحدا لحالة عداء المغول للعرب ، وبما انني لست مؤرخا ، فانني ادعو اصحاب الاختصاص العرب لسبر  الاسباب الحقيقية  التي حدت بجنكيز خان واحفاده  لاتخاذ هذا الموقف ضد العرب .والامر الثاني الذي سأعلق عليه في حديث الرئيس المنغولي ، هو التعامل مع التاريخ . لقد اشار الى حقيقة صحيحة ،وهي ان كثيرا من العرب يخلط بين التاريخ والحاضر . فهناك قوى مؤثرة في الساحة العربية  تريد شدنا اربعة عشر قرنا الى الوراء ، بذريعة ان النظام الذي كان سائدا آنذاك هو الكمال ويصلح لكل زمان ومكان . وهناك قوى أخرى تسعى الى احياء نقاط خلاف جارحة حدثت قبل اكثر من الف عام ، واستنزاف الامة واسقاطها في دوامة هذه الخلافات الدموية ، والمصيبة ، ان القوى السليمة والمستنيرة في الامة العربية تتخذ في اغلبها، موقف المتفرج لهذه المصائب ، وتكتفي بدور المراقب ، فيما نار الطائفية والتخلف تحرق كل شيء.

فيما بعد زرت دولة منغوليا عدة مرات ، ولمست كيف ان الناس هناك مشغولة بالحاضر وبناء المستقبل ، ولا تنظر كثيرا الى الوراء .

وحديثي عن احفاد جنكيز خان لا  يكتمل الا بزيارة مسقط رأس جنكيز ، وهو موجود في مقاطعة منغوليا الداخلية  ذات الحكم الذاتي في الصين .فعدد المنغول هناك اكبر من عددهم في دولة منغوليا ومساحتها اقل قليلا . وقد رأيت كيف ان منغول الصين قد بالغوا كثيرا في تمجيد جنكيز خان . وقد وصل الامر الى حد تأليهه .وقد تجلى  ذلك كله في المشروع الهائل المسمى ضريح جنكيز خان الواقع قرب مدينة أوردوس الصينية .لقد زرت الضريح  عدة مرات في عداد وفود رسمية . واول ما تلاحظه العين، هو البذخ الهائل في البناء  ،والاسراف في تمجيد كل ما يتعلق بجنكيز خان . فقد اسسوا غابة محمية هائلة من الاشجار كي يعيش فيها حصان جنكيز خان . وروى لي المسؤول عن الضريح ، كيف تمت عملية اختيار هذه الحصان ، وكيف ان عددا كبيرا من المؤرخين بذل جهودا كبيرة من اجل اختيار الحصان المناسب . فهم قد حددوا اللون الابيض للحصان ، وهم قد وضعوا شرطا اخر هو ان يتطابق ميلاد هذا الحصان في اليوم والساعة مع ميلاد الحصان الذي كان يركبه جنكيز خان .والشرط الثالث ، ينبغي ان ينحدر الحصان من سلالة عريقة معترف بها  .وبعد سنوات من البحث تم العثورعلى الحصان المحظوظ ،واطلقوه حرا كي يسرح لوحده  في هذه الغابة الهائلة .كما تم تخصيص عددا كبيرا من الناس للاشراف على الحصان  ورعايته وتوفير الطعام والدواء له ، واقاموا له مسكنا دافئا في ايام الصقيع . ويقضي  الزوار ساعات  وساعات من أجل رؤية هذا الحصان ” المقدس “، هذا ان ظهر !

لا احد يمكن ان يجزم ان جثمان  جنكيز خان مدفون في ذلك الضريح   فكثير من المختصين  يقولون ان احدا لا يعرف اين مات ودفن جنكيز ، لانه موته أُخفي عن الجيوش لفترة طويلة كي لا تهتز معنوياتها . ولا تقتصر الامور عند هذا الحد ، بل ااشيد معبد هائل  يحمل اسم جنكيز خان  على الطراز البوذي هناك ، وبات الناس العاديون يحضرون الى المعبد لحرق البخور ونيل التبريكات من سيد المعبد وهو جنكيز خان الذي رُفع الى مستوى الالوهية .وأمام الضريح ترتسم لوحة مهيبة هي عبارة عن مجسمات لعربة ضخمة تشبه البيت، يجرها اربعون ثورا بالحجم الطبيعي وتحاط بالجنود والخدم . وهذه العربة كانت المسكن المتنقل الذي استخده جنكيز خان اثناء غزواته .كما  بنيت لوحة من الرخام رسم عليها خريطة الفتوحات التي قام بها جنكيز خان واحفاده ، وتمتمد الخريطة من اوربا الى الشرق الاوسط وروسيا والهند وجنوب شرق آسيا .

يمكن ان افهم سبب مبالغة مغول الصين في تعظيم جنكيز خان . فهم اقلية تعيش  وسط البحر الصيني المتلاطم من السكان  ، اذا لا يتجاوز عددهم الخمسة ملايين من اصل نحو مليار ونصف ، وهو عدد القاطنين في  الصين . ومعروف ان الاقليات تتمسك دائما بتاريخا وتقاليدها الى حد  التشنج  ،وتضفي عليه روح  المبالغة والقدسية والمهابة .ومع ذلك ، فان مغول الصين – مثل اخوانهم في دولة منغوليا – لم ينزلقوا الى حد السعي الى احياء وقائع تاريخهم  او التفكير بذلك ، ولا تشعر من خلال اللقاءات معهم ان احدا منهم  يفكر في استعادة  الامجاد التي صنعها جنكيز خان . هم اقتنعوا بان التاريخ بات ملكا للماضي  ،وان تقليب صفحاته تصلح فقط  للأطلاع وأخذ العبر لا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية + إحدى عشر =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube