يواجه الاتحاد الأوروبي مع نهاية سنة 2011 أحد أخطر التحديات التي اعترضته منذ بدء مسيرة دول القارة العجوز حسب الوصف الأميركي نحو الوحدة.
هناك من المحللين من يرى أن الاتحاد الأوروبي على وشك الانهيار وأنه لا أمل في إنقاذ هذه التجربة لتوحيد القارة الأوروبية بإسلوب غير الحرب. آخرون يعتقدون أن هذا التكتل الإقتصادي السياسي يمر حاليا بمرحلة إنتقالية فيها الكثير من العقبات والفخاخ، غير أن القوى الأساسية المحركة لسياساته تملك من مقومات القوة ما يمكنها بإتباع تكتيك عملي من تجاوز الأزمة والسير قدما بهذا التجمع الذي يضم حاليا 27 دولة إلى فصل جديد من أجل تعزيز قواه على الصعيد العالمي، والانتقال تدريجيا من لعب دور هامشي وتابعي على صعيد السياسة الدولية إلى قطب منافس للهيمنة الأميركية ومعرقل لنظام عالمي قائم على أساس سيطرة القطب الواحد.
الانهيار
كتب المحلل والخبير الروسي بوريس كاغارليتسكي مدير معهد أبحاث العولمة والحركات الاجتماعية في موسكو خلال الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر 2011 في الوقت الذي تحيي فيه روسيا الذكرى العشرين لانهيار الاتحاد السوفياتي: “يتحدث الغربيون بجدية عن احتمال انهيار الاتحاد الأوروبي. وعلى غرار ما حدث في حقبة الانهيار السوفياتي، ثمة من يسعى اليوم لتجنيب الاتحاد الأوروبي هذا المصير.
يتعرض الاتحاد الأوروبي اليوم لخطر التفكك بسبب انهيار المنظومة التي كان من المفترض أن توحد القارة الأوروبية وتعزز قوتها، أي العملة الأوروبية المشتركة.
بالعودة إلى مطلع العقد الماضي، كان العديد من المحللين، بمن فيهم كاتب هذه السطور، يحذرون من أن محاولات دمج الدول ذات الاقتصادات والقوميات المختلفة في إطار نظام مالي موحد قد يقود في نهاية المطاف إلى تصاعد وتيرة الأزمات، بدلاً من تحقيق الوحدة على نطاق أوسع. قلنا أيضا أن اليورو قد يؤدي إلى انتقال التضخم الذي تعاني منه اقتصادات الدول الأقل نموا في القسم الجنوبي من القارة، إلى الدول الأكثر نمواً في القسم الشمالي منها، كما ينتشر الوباء، وأن السياسات المالية الهادفة إلى تحقيق أسعار صرف ثابتة لليورو ستخنق اقتصاديات دول أوروبية مثل اليونان واسبانيا والبرتغال.
للأسف، أظهرت التطورات الأخيرة أن تلك التوقعات كانت صحيحة، فالنظام المالي الموحد أدى إلى إعادة توزيع الرساميل لصالح ألمانيا، الدولة الأوروبية ذات الاقتصاد الأقوى في القارة، في الوقت الذي عانت فيه الدول ذات الاقتصاديات الضعيفة من قصور مالي دائم، فوجدت نفسها مضطرة للاستدانة بشكل متصاعد، وبمبالغ ضخمة، وهو ما دفعها إلى حافة الإفلاس. كثيرون أملوا في أن يسهم هذا الاندماج في تحسين أداء الدول الأوروبية الأقل نموا، لكن ذلك لم يحدث.
في هذا الوقت، وجدت الدول ذات الاقتصادات الضعيفة نفسها مضطرة لاستخدام أي رافعة سياسية يمكن أن تملكها لتحسين وضعها داخل الاتحاد الأوروبي، علما بأن هذا التوجه، كان سببا رئيسيا في انهيار الاتحاد السوفياتي، وقد يكون له تأثير مماثل على الاتحاد الأوروبي.
ولعل ما تقترحه ألمانيا وفرنسا من خطط لتقوية الاندماج الاقتصادي كوسيلة لتجاوز الصعوبات التي يمر بها الاتحاد الأوروبي، يظهر أن قادة هذه الدول لم يتعلموا أي درس من الأزمة الراهنة، لأن الشروط التي تفرضها المؤسسات السياسية والمالية ستحدث فجوة بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي، والأسوأ أنها ستؤدي إلى تخفيض مستوى المعيشة بالنسبة للمواطن الأوروبي.
من المثير للاهتمام أن يقارن المرء بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد السوفياتي السابق. يبدو الاتحاد الأوروبي جسما أقل ترابطاً إذا ما قورن بالاتحاد السوفياتي، فالمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المجتمع السوفياتي كانت أكثر انسجاما، غير أن الضغوط المرتبطة بإصلاحات السوق هي التي دفعت بالجمهوريات السوفياتية ذات التنوع الاثني إلى الإسراع في المطالبة بالاستقلال.
من الثابت تاريخيا أن قوى السوق قد أسهمت في تقسيم المجتمع، وإذا كانت بروكسل قادرة، بشكل أو بآخر، على تجاوز تلك العوامل المسببة للانقسامات خلال فترة الازدهار الاقتصادي، فإن مهمة كهذه ستصبح أكثر صعوبة في مرحلة الركود.
ولكن مع الأسف، فإن القادة الأوروبيين، بدلا من أن يعترفوا بحقيقة هذه المشكلة، وأن يبادروا إلى إجراء إصلاحات مؤسساتية لمعالجة التأثيرات السلبية للسياسات الراهنة، نراهم يبذلون جهداً كبيراً لوضع الأفكار الفاشلة موضع التنفيذ… والنتيجة ستكون كارثية.
وفي الوقت الذي كان فيه الدستور السوفياتي يمنح للجمهوريات المنضوية في هذا الاتحاد الحق في الانفصال، نرى أن أمرا كهذا ما زال غائبا عن دستور الاتحاد الأوروبي، ما يعني أنه في اللحظة التي يبدأ فيها الاتحاد الأوروبي بالتصدع، سنشهد ربما انهيارا فوضويا، قد يتجاوز في انفلاته ما حدث يوم انهار الاتحاد السوفياتي.
إسراف في التشاؤم
بعض المحللين يرون أن تقديرات بوريس كاغارليتسكي مسرفة في التشاؤم وأن الخبير الروسي يبالغ في تقدير قدرات أطراف دولية محددة وإن كان لا يتحدث علنا أو يحدد هوية هذه القوى غير الأوروبية التي تحاول نسف مسيرة القارة العجوز في نطاق التنافس على السيطرة على مناطق النفوذ لدى الأطراف التي توصف بالرخوة في المحاور المركزية المتحكمة في موارد الطاقة والمواد الأولية.
خبراء أخرون يذهبون أبعد في انتظار الأسواء ويحذرون من إنهيار كل النظام الاقتصادي الغربي، وهو ما سيضع نهاية للنظام الاقتصادي الرأسمالي الموصوف بالمتوحش ويسفر عن بروز نظام إقتصادي جديد لا يمكن تحديد توجهاته في الوقت الحاضر.
ويضيف هؤلاء أن الانهيار لن يأتي بين ليلة وضحاها، وقد يسبقه تقلص حجم الاتحاد الأوروبي، فإذا خرجت اليونان من منطقة اليورو نتيجة إستفتاء أو غيره وبالتالي بالضرورة من عضوية الاتحاد الأوروبي فإن من المرجح أن تتبعها دول أخرى تواجه أوضاعا إقتصادية صعبة وديونا متراكمة ونسب بطالة ضخمة. ومن هذه الدول إسبانيا والبرتغال وحتى إيطاليا وأيرلندا.
الانسحاب من الاتحاد الأوروبي
يوم الخميس 3 نوفمبر صرحت متحدثة باسم المفوضية الاوروبية ان المعاهدة الاوروبية لا تنص في الوقت الحالي على ان احدى الدول الاعضاء بامكانها الانسحاب من منطقة اليورو دون الخروج من الاتحاد الاوروبي. وأوضحت خلال مؤتمر صحافي “بموجب المعاهدة الخروج من منطقة اليورو سيحتم الانسحاب من الاتحاد الاوروبي”، مشيرة في الوقت نفسه “هذا هو الوضع حاليا”.
في نفس التوقيت صرح وزير الشؤون الاوروبية جان ليونيتي ان منطقة اليورو “يمكنها الاستغناء” عن اليونان و”تجاوز” الصعوبات التي تمثلها هذه الأخيرة بعد ان باتت على وشك الافلاس.
وصرح ليونيتي لاذاعة “ار تي ال” ان “اليورو واوروبا بامكانهما الاستمرار” من دون اليونان، وهو احتمال ممكن في حال اجراء استفتاء نظرا لوزنها الاقتصادي لأن اليونان تشكل نسبة 2 في المائة فقط من اجمالي الناتج الداخلي في منطقة اليورو و4 في المائة من ديون منطقة اليورو”.
واضاف ليونيتي “علينا عدم الانجرار وراء الاوهام. اذا رفضت اليونان الخطة، فلن تحصل على الاموال”، مستعيدا ما قاله الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية انغيلا ميركل إلى رئيس الوزراء اليوناني جورج باباندريو يوم الاربعاء 26 أكتوبر.
وشدد ليونيتي على ان “تضامن الدول الـ17 العضوة في منطقة اليورو – من ضمن 27 دولة في الاتحاد- غير ممكن دون التزام وصرامة في الموازنة. وفي هذه الحالة سيكون مصير اليونان الافلاس وستضطر بالتالي الى الخروج من منطقة اليورو. لكنه سيكون قرار الشعب اليوناني ولن نقرر بالنيابة عنه”.
واشار الى ان “اليونان لا يمكن تجاوزها لكن في الوقت نفسه من الممكن الاستغناء عنها”.
وتابع “بامكاننا مساعدتهم وانقاذهم لكن لا يمكننا انقاذهم رغما عنهم. وليس عذرا أن الدواء مر لعدم تجرعه”.
وشدد على ان “اليورو واوروبا يمكنهما الاستمرار”، لكن “وبصفتي وزير للشؤون الاوروبية الأمر أشبه بضربة معنوية، لكن الأمر ممكن على الصعيد الاقتصادي”.
وحول ما يمكن أن يترتب عليه مثل هذا الاحتمال، توقع ليونيتي “انهيار” المصارف اليونانية، الا ان المصارف الفرنسية ستتمكن من تجاوز الازمة “لأن انكشافها على الدين اليوناني يتراوح بين 8 و10 مليارات يورو، أي قيمة اعادة رسملة المصارف الفرنسية في الاشهر الثلاثة الاولى للسنة المالية”.
وقدرت الهيئة المصرفية الاوروبية “اي بي ايه” حاجات المصارف الفرنسية إلى أموال إضافية ب8800 مليون يورو، وهو مبلغ من المفترض ان تحتفظ به كاحتياطي حتى حلول اواخر يونيو 2012.
تحديات داخلية وخارجية
قبل أربعة أشهر تقريبا من تقديرات الخبير الروسي ويوم الجمعة 11 يونيو حذر رئيس المفوضية الاوروبية جوزيه مانويل باروزو من تداعيات الازمة الاقتصادية على منطقة اليورو، مشيرا الى ان التحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها الاتحاد الاوروبي تضعه امام خيارين، اما تخطي الصعوبات والتماسك اكثر فأكثر، وأما الانهيار.
وقال باروزو في مؤتمر لشبونة، انه اذا كان الاتحاد الاوروبي يريد التغلب على الازمة والبقاء موحدا، فيجب عليه تعزيز امكانياته التنافسية، ورفع قدرته الانتاجية، حتى يتمكن من تحقيق النمو والرخاء. وأشار باروزو إلى أن تراجع العملة الموحدة في الاونة الاخيرة يعود سببه إلى هجوم الأسواق على ديون بعض الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي، وأضاف: “هناك هجوم على الديون السيادية لبعض الدول، وهو ما يتعين مواجهته بعزم كبير”.
وجاءت أقوال باروزو عقب تصريحات سابقة لرئيس الوزراء البرتغالي جوزيه سوكراتس ذكر فيها بأن هناك ” مؤامرة” على العملة الاوروبية الموحدة وأن المضاربين على اليورو يشنون “هجوما “مما سبب في ارتفاع نفقات التمويل في بعض دول منطقة اليورو، وفرض اجراءات تقشفية صارمة مثل رفع الضرائب وخفض أجور القطاع العام. وأكد الملاحظون في حينها أن رئيس الوزراء البرتغالي كان يشير إلى الولايات المتحدة عندما تحدث عن المؤامرة على العملة الأوروبية الموحدة.
خلال شهر يونيو 2011 كذلك أعترف رئيس المفوضية الاوروبية بأن هناك بعض المخاطر الاجتماعية والاقتصادية الشديدة على الاتحاد الاوروبي، الا انه قال ان أوروبا ستظهر ردود فعل ايجابية وسيكون بوسعها التغلب على هذه المخاطر، منوها إلى ان الازمة أعطت الاتحاد الاوروبي مؤشرا ليكون “أكثر تنظيما”. وأعرب عن أمله في ان يتمخض عن تلك الازمة تكامل أفضل في دول الاتحاد الاوروبي.
لا مخرج إلا بولايات متحدة أوروبية
وسط هذا الجدل حول سبل الخروج من المأزق كتب يوشكا فيشروزير خارجية ألمانيا الأسبق وأحد كبار مهندسي البناء الأوروبي مقالا في مجلة “بروجيكت سينديكيت” لخص فيه رؤيته.
قال “منطقة اليورو في قلب الأزمة المالية العالمية، وفي هذه المنطقة التي تمثل معقل ثاني أهم العملات العالمية بعد الدولار، صادفت هذه الأزمة منظومة ضعيفة تعوزها أدوات المقاومة التي تملكها الدول القوية. إنها منظومة تفقد يوما بعد يوم ثقة مواطنيها وأسواقها في قدرتها على حل مشكلاتها وتدفع في ذات الوقت بالنظام المالي الدولي إلى حافة الكارثة.
بعبارة أخرى، فإن الأزمة المالية اليوم تعكس أزمة سياسية لمنطقة اليورو، وهي أزمة تلقي بظلال شك كبير في إمكانية استمرار المشروع الأوروبي كتلة واحدة.
وإذا ما فشل الاتحاد النقدي الأوروبي، فلن يبقى الكثير من السوق المشتركة والمؤسسات والاتفاقات الأوروبية، حينذاك سندفن قصة نجاح استثنائية تمكنت عبر ستة عقود من تحقيق تكامل أوروبي، وسنرث تداعيات لا يعرف طبيعتها ومداها أحد.
أفول نجم قرنين من السيطرة
وسيتصادف هذا الفشل مع بزوغ شمس نظام دولي جديد وأفول نجم قرنين من السيطرة والهيمنة الغربية.
فالقوة والثروة تتحول باتجاه دول شرق آسيا ودول صاعدة أخرى، في حين ستكون الولايات المتحدة منشغلة بمشكلاتها وبتوجيه دفة علاقاتها صوب المحيط الهادي بعيدا عن الأطلسي.وإذا لم يصن الأوروبيون مصالحهم الآن، فلن يجدوا من يصونها لهم، وإذا لم تصبح أوروبا وكيلة لمصيرها، فستغدو هدفا لقوى النظام الدولي الجديد.
أزمة أوروبا ليست ناجمة عن ثلاثة عقود من النيوليبرالية، وليست ناتجة عن انفجار فقاعة العقارات أو انتهاك معايير ماسترخت أو تعاظم ديونها أو جشع مصرفييها، صحيح أن كل هذه العوامل أسهمت في هذه الأزمة، لكن مشكلة أوروبا ليست فيما حدث وإنما فيما لم يحدث ألا وهو عدم إنشاء حكومة أوروبية مشتركة.
في بدايات عقد التسعينيات حينما قررت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إنشاء اتحاد نقدي وإطلاق عملة موحدة ومصرف مركزي، لم تحظ فكرة إنشاء حكومة مركزية بأي دعم، ونتيجة لذلك تم إرجاء تلك المرحلة من منظومة الاتحاد النقدي، مما خلف مشروعا عظيما لكنه يفتقد لأساس قوي يضمن استقراره في وقت الأزمات. تحولت السيادة النقدية إلى قضية وهدف مشترك، لكنها ظلت قضية وطنية تمارسها كل عاصمة بمفردها.
في ذلك الوقت، ساد اعتقاد بأن فرض منظومة من القواعد والضوابط على مستويات العجز والديون السيادية والتضخم سيكون كافيا، لكن سرعان ما تبين أن هذه القواعد مجرد وهم، فالمبادئ تحتاج دوما إلى قوة تسندها، وإلا فإنها لن تقوى على الصمود أمام اختبار الواقع.
اليوم فشلت منطقة اليورو المؤلفة من دول سيادية وعملة موحدة ومبادئ وآليات مشتركة أمام اختبار الواقع، وهي إذ تعجز عن التصدي لأزمتها بقوة، تفقد عنصر الثقة الذي يمثل أهم مرتكزات ومقومات أي عملة في العالم.
وإذا لم يقع تحول إلى “أوروبة” القوة السياسية في أوروبا وتحويل الاتحاد الكونفدرالي إلى اتحاد فدرالي، فإن منطقة اليورو بل والاتحاد الأوروبي كله ستتفكك، وحينذاك ستكون الكلفة السياسية والاقتصادية والمالية لعودة كل دولة إلى وضعها الأصلي، كلفة خيالية، وهناك من الأسباب ما يكفي لوقوع سيناريو الانهيار.
وعلى الجهة المقابلة، فإذا ما جرى سد “الثغرة السياسية” في منظمة الاتحاد النقدي، أولا عبر تأسيس اتحاد مالي أي موازنة والتزامات مشتركة، فسيكون إنشاء اتحاد فدرالي سياسي ممكنا. ولنكن واضحين، أي شيء أقل من ولايات متحدة أوروبية لن يكون قويا بما يكفي لمنع سيناريو الانهيار الذي يطل برأسه.
وسواء أحببنا ذلك أم لم نحب، سيتعين على منطقة اليورو أن تلعب دور القاطرة بالنسبة للاتحاد الأوروبي، لأن الاتحاد الأوروبي ككتلة واحدة بأعضائه الـ27، لن يكون مستعدا ولا قادرا على تسريع الاتحاد السياسي. وللأسف فقد فشل قادة الاتحاد في الاتفاق بالإجماع على إجراء التغييرات الضرورية الخاصة بمعاهدات الاتحاد.
ما الذي ينبغي عمله؟
إذن ما الذي ينبغي عمله؟ لقد حقق الأوروبيون تقدما حاسما في مجال التكامل خارج نطاق المعاهدات الأوروبية لكن بروح أوروبية حقيقية، عندما وافقوا على فتح حدودهم بموجب اتفاقية شنغن التي غدت اليوم إحدى معاهدات الاتحاد الأوروبي، وبالاعتماد على تلك التجربة الناجحة، يتعين على منطقة اليورو تجنب خطيئة الاتحاد الأوروبي الأولى المتمثلة في إنشاء بنى “فوق وطنية” تفتقد إلى الشرعية الديمقراطية.
منطقة اليورو تحتاج إلى حكومة مؤلفة كما عليه الحال في الوقت الراهن من رؤساء الدول والحكومات، وهو تطور بدأ بالفعل. ولأنه لا إمكانية لوجود اتحاد مالي دون وجود ميزانية مشتركة، فليس بالإمكان إقرار أي شيء دون موافقة البرلمانات الوطنية للدول الأعضاء. وهذا يعني أنه لا غني عن “اتحاد برلماني أوروبي” يضم البرلمانات الوطنية للدول الأعضاء.
مبدئيا، يمكن “للاتحاد البرلماني الأوروبي” المقترح أن يكون هيئة استشارية مع بقاء صلاحيات البرلمانات الوطنية على حالها. وفي وقت لاحق وبعد إقرار معاهدة بين الحكومات الأوروبية، يجب أن يتحول إلى هيئة برلمانية ذات قدرة على صناعة القرار، مؤلفة من أعضاء البرلمانات الوطنية. وبالطبع ولأن معاهدة من هذا النوع تعني التخلي عن قدر كبير من السيادة لصالح المؤسسات الأوروبية المشتركة، فإنها تحتاج إلى شرعية شعبية عبر استفتاءات في كافة الدول الأعضاء بما في ذلك ألمانيا على وجه الخصوص.
وإذا كان من درس تعلمناه من الأزمة المالية الراهنة فهو أن منطقة اليورو ستبقى في مهب الريح ما لم تحتم بإطار مؤسساتي وتعيد تأسيس الأرضية التي تقف عليها عبر إنشاء حكومة حقيقية ورقابة برلمانية فعالة وشرعية ديمقراطية حقيقية.
دواء مسكن
مرحليا وكدواء مسكن أكثر من أن يكون علاجا يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى سند مادي خارجي ضخم لتجنيب عدد من دوله خطر الافلاس، ولإعادة ثقة الأسواق الدولية في اليورو.
الولايات المتحدة التي تصنف كأكبر وليس أقوى إقتصاد عالمي لا يمكن أن تقدم طوق النجاة المطلوب لعدة أسباب:
أولا: أن الولايات المتحدة غارقة في أزمة اقتصادية خانقة ودينها العمومي تخطى منذ أشهر حاجز 14500 مليار دولار. وحكومة واشنطن تضرب أخماسا في أسداس لوقف زحف البطالة والكساد والتضخم وحركات الاحتجاج الشعبي.
ثانيا: البيت الأبيض عند تفكيره في مساعدة القارة العجوز مقيد بملائمة حجم تدخله بشرط منع العملة الأوروبية الموحدة من الحلول مكان الدولار كعملة رئيسية للتعامل في السوق الدولية، كما أن تكون مساعداته مشروطة ببقاء الكتلة الأوروبية تابعا ومكملا لقوة الهيمنة الأميركية وليس منافسا لها.
لهذه الأسباب يركز الاتحاد الاوروبي في بحثه عن طوق الانقاذ على دول تملك إقتصادا قويا ورصيدا كبيرا من العملات الصعبة.
دول الخليج العربي وبعض الدول التي توصف بنمور آسيا تملك من الأرصدة الثابتة ما يفوق 3000 مليار دولار، ولكن العديد من هذه الأطراف تدور في الفلك الأميركي وتتأثر بضغوطه وإبتزازه وهي بالتالي غير مؤهلة أو قادرة على تقديم جزء من طوق النجاة المطلوب، وهكذا تبقى الصين الخيار الوحيد أمام الإتحاد الأوروبي.
لبكين دوافعها وشروطها لتقديم الإسناد، وساستها لا يتحدثون علنا عن شروطهم السياسية ويركزون على المطالب الاقتصادية التي يجب الوفاء بها لتبرير تقديم أموال الإنقاذ إلى خارج حدودها.
الصين تريد أن تبتعد أوروبا الموحدة على الإملاءات والتوجيهات الأميركية وبالتالي تسهم في إنهاء عالم القطب الواحد مما يضمن عالما متعدد الأقطاب وهو أفضل ضمان ممكن حاليا للحفاظ على السلم الدولي والحيلولة دون وقوع كارثة حرب عالمية نووية توفر مقوماتها سياسة المغامرات والغزو التي يتبناها المحافظون الجدد في البيت الأبيض.
تريليونات الدولارات
ذكر الكاتب آرفيند سوبرامانيان إن أوروبا تغرق وربما تحتاج إلى تريليونات الدولارات لإنقاذ اليونان والنظام البنكي الأوروبي ومنع انتشار الأزمة إلى إسبانيا وإيطاليا وربما فرنسا لأن ذلك سيؤدي إلى تدمير منطقة اليورو.
وتساءل الكاتب وهو باحث في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي بأميركا في مقال نشره بصحيفة نيويورك تايمز عن الجهة التي يجب التوجه إليها لطلب النجدة، وقال “الجواب واضح جدا، إنها الصين”.
ووصف الكاتب الدعوة التي وجهها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قبل قمة “كان” إلى الرئيس الصيني هو جينتاو ليحضر اجتماع بروكسل، لحشد الدعم للاستقرار المالي الأوروبي، بأنها تمثل تغييرا كبيرا في المشهد العالمي، فهي تجسد توطيد الهيمنة الاقتصادية للصين على حساب الوضع الراهن الممثل بالولايات المتحدة وأوروبا.
وأوضح الكاتب أنه على الرغم من اتفاق زعماء أوروبا يوم الخميس 27 أكتوبر على إعادة تقييم رؤوس أموال البنوك الأوروبية، فإن الواقع هو أن أوروبا لا يمكن أن تجمع هذه السيولة من تلقاء نفسها، وذلك لأن معظم البلدان ومنها ألمانيا مددت السنة المالية، مع نسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي تتجاوز 80 في المائة، كما أن ألمانيا تبدو مترددة في نقل الموارد، إما مباشرة عبر الوسائل المالية أو بطريقة غير مباشرة عن طريق البنك المركزي الأوروبي.
فخ “الاعتماد المتبادل”
كتب المستشار الاقتصادي للحكومة الفرنسية جان بيسانس فيري قائلا إن أزمة الديون اليونانية تعمق القلق من تفكك منطقة اليورو، وأشار في مقاله المنشور عبر بروجيكت سينديكيت إلى أن هناك ثلاثة مؤشرات تدعم هذه المخاوف.
وأوضح فيري أن أول المؤشرات هو أن المؤسسات المالية الأوروبية التي تتمتع بوضع مالي جيد أصبحت تفضل -منذ يوليو 2011- إيداع أموالها في البنك المركزي الأوروبي بدلا من إقراضها للمصارف التجارية، وهو وضع شبيه بما حدث في أزمة 2007-2008.
وأكد أن ثمة أسبابا وجيهة للقلق رغم أن المصارف في الولايات المتحدة وأوروبا ما زال بعضها يقرض بعضا.
وثاني المؤشرات يتمثل في كون معدلات الفائدة التي تتقاضاها المصارف على الأموال التي تقدمها للمقترضين في دول جنوب أوروبا أعلى منها في نظيراتها في شمال القارة، وهو ما يعمق ويعقد أزمة الاقتصاديات المأزومة ويزيد في تشظي السوق الأوروبية التي يفترض أنها موحدة.
وبدلا من محاربة هذا التوجه، فإن سلطات الرقابة المالية والمصرفية في شمال أوروبا تعزز هذه الظاهرة من خلال سعيها إلى الحد من انكشاف مؤسساتها المالية للمصارف في جنوب القارة.
أما المؤشر الثالث فيبرز أن المستثمرين الدوليين لم يعودوا ينظرون إلى السندات الحكومية في دول جنوب أوروبا بنفس الثقة التي يتعاملون بها مع السندات الحكومية في شمال القارة.
هذا التوجه يعكس حجم الخطورة التي ينطوي عليها الاستثمار في السندات الأوروبية الجنوبية، ويمثل تحولا جوهريا في مزاج المستثمر. وإذا ما استمر هذا النمط الإقراضي تجاه دول جنوب أوروبا، فإن الملاءة المالية لاقتصادات هذه الأقطار وقدرتها على التعافي ستعاني.
واعتبر المستشار الاقتصادي قرار مسؤولي منطقة اليورو لإصلاح الرقابة على الحكومات والمصارف وزيادة رأسمال صندوق الاستقرار المالي الأوروبي، تحركا هاما، لكنه نصف خطوة. فإذا كان هذا القرار مهما بوصفه يحاصر نيران الأزمة، فإن القضية المركزية تكمن في الحاجة إلى بناء اتحاد نقدي أكثر صرامة ومتانة.
إن التشظي المتنامي في جسد منطقة اليورو سببه الأساسي “الاعتماد المتبادل” بين المصارف والحكومات، فالمصارف واقعة تحت تهديد أزمات الديون السيادية والحكومات عرضة لمخاطر الأزمات المصرفية”.
موقع القوة
قبل قمة مجموعة العشرين في كان بفرنسا يومي الخميس والجمعة 3 و4 نوفمبر 2011 وجدت الصين نفسها بعد النداء الذي وجهته اليها اوروبا لمساعدتها على تخطي ازمة ديونها، في موقع القوة، لكن خلافا لما يخشاه البعض فان بكين ليست سيدة الموقف، او على الاقل ليس حتى الان حسبما يقول محللون.
وان كانت طلبات منطقة اليورو الرازحة تحت عبء ديونها قد رفعت مكانة الصين، الا ان بكين تلقت هذه الطلبات بحذر شديد ولا تعتزم تقديم أي اموال بدون مقابل، ومقابل بالحجم الذي توده هي.
وفي هذا السياق جاء الرئيس هو جينتاو الى “كان” بدون تقديم ادنى التزام، ولو أن قدرته الشخصية على اتخاذ القرارات تبقى محدودة.
يبقى ان اوروبا بتوجهها الى ثاني اقتصاد عالمي، نصبت الصين الشيوعية في موقع “أمين خزينة العالم”، في وقت تمول حاليا العجز المالي الاميركي الهائل.
ورأى جان بيار كابيستان من جامعة هونغ كونغ المعمدانية في هذا التوجه تكريسا لدور بكين من جانب باريس التي “تريد الحصول على شيء ما من الصينيين حتى لا تنهي فترة رئاستها لمجموعة العشرين بدون تحقيق اي نتيجة”.
وقال الرئيس الفرنسي ساركوزي معلقا على اليد الممدودة الى بكين ان “ذلك لن يؤثر اطلاقا على استقلاليتنا”.
غير ان منافسه في الانتخابات الرئاسية المقبلة المرشح الاشتراكي فرنسوا هولاند لا يشاطره هذا الرأي وقد صرح مؤخرا لصحيفة لوموند ان “الصين باتت سيدة اللعبة، حيث ان قمة مجموعة العشرين.. ستكرس الامبراطورية الاقتصادية الصينية”.
وتلقى العديدون بقلق دروس الاقتصاد التي وجهتها بكين للولايات المتحدة، القوة الاقتصادية الأولى في العالم، اذ دعتها إلى “التوقف عن العيش بمستوى يفوق امكاناتها” ولاوروبا اذ طالبتها “بترتيب” حساباتها.
وكانت مشاعر الريبة قوية حتى قبل الازمة الاوروبية حيال الصينيين الذين اشتروا امتيازا في مرفا بيريوس اليوناني وسندات ديون برتغالية واسبانية ويقومون بشق طرقات في افريقيا وقد يصدرون قريبا قطارات فائقة السرعة إلى كاليفورنيا.
لكن جان بيار كابيستان يؤكد ان “الصين ليست سيدة الموقف” و”اوروبا لديها الخيار بعدم وضع نفسها في موقع التبعية المسرفة” حيالها.
واشار الى ان “الصين بلد تبقى اوضاعه هشة، علينا الا ننسى ذلك”.
فان كانت الصين تملك احتياطات هائلة من العملات الاجنبية حوالي 3200 مليار دولار، الا انها تواجه تحديات كبرى مثل اعادة توجيه اقتصادها لتركيزه على الطلب الداخلي، واخراج 150 مليون نسمة يشكلون زهاء 10 في المائة من ساكنتها من الفقر، واقامة انظمة رعاية اجتماعية باهظة الكلفة ومواجهة الحالات البيئية الطارئة.
ورأت فاليري نيكيه من معهد الابحاث الاستراتيجية انه “من المبالغ به كثيرا” القول ان الصين “باتت تتحكم باللعبة المالية في اوروبا”.
وقالت ان “نقطة التحول على صعيد صورة الصين لم تكن هذه القمة بل تعود الى ازمة 2008 واول قمة لمجموعة العشرين نجحت فيها الصين في فرض نموذجها الذي خرج من الازمة بدون ان يتاثر بها، على النموذج الديموقراطي الغربي الذي نددت بعدم فاعليته”.
وتابعت فاليري نيكيه ان ما ستقوم به الصين “سيتوقف على الصورة التي تود اعطاءها عن نفسها، وما ستتمكن من تمويله قبل كان”، مشيرة في الوقت نفسه الى ان “تنويعا لاحتياطي عملاتها الاجنبية يمكن ان يكون مثيرا للاهتمام”.
ولفتت الى انه من مصلحة بكين ان تتخطى اوروبا ازمتها، لا سيما وانها تعتبر سوقها الأولى.
وذكر كابيستان ان “الصين التي باتت في موقع قوة لن تكون على استعداد للمساومة كثيرا، بل ستطالب على العكس بتنازلات، تنازلات من الاوروبيين ومن الغربيين عموما”.
فهي لا تزال تنتظر من الاتحاد الاوروبي منحها وضع اقتصاد السوق، ومن شركائها الاوروبيين والاميركيين التخلي عن “الحمائية” التي تقف بوجه صادراتها.
كما تود من شركائها ان يتوقفوا عن طرح قضية سعر صرف اليوان الذي “يفوق قيمته الفعلية في السوق” وتطالب بلعب دور اكبر داخل صندوق النقد الدولي.
فرصة لتصحيح العلاقة
وقال الخبير الاقتصادي ليو جيانغكسيونغ مبديا ارتياحه للوضع الحالي ان “ازمة منطقة اليورو اعطت الصين فرصة لاعادة تصحيح علاقاتها مع اوروبا” معتبرا ان “عليها ان تفرض شروطها”.
وأضاف الكاتب أن أميركا وأوروبا تملكان اليوم حق النقض في صندوق النقد، وإذا أصبحت الصين أكبر ممول للصندوق وحصلت على هذا الحق فسيكون على حساب أوروبا التي ستتحول من دائن إلى مدين، وحينها يمكن للصين أن تحقق مكسبا سياسيا، بحيث تتساوى مع الولايات المتحدة وتحصل على موقع أقوى من أوروبا في أقوى مؤسسة مالية عالمية، وهذا مقابل استثمار أموالها في الخارج.
وختم الكاتب بقوله إن هذه المطالب ستكون مشروعة ويجب أن يرحب بها العالم لأنها ستربط الصين بالنظام المتعدد الأطراف. وعلى الذين يقاومون هذه التغييرات في الولايات المتحدة وأوروبا أن يتذكروا أن البدائل ستكون أسوأ، لأن الصين التي تستخدم قوتها ثنائيا لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة ستكون نذيرا مقلقا في المستقبل عندما تصبح أكبر وأقوى اقتصاديا، فالأوروبيون بدون خيارات لأن المدين لا يختار.
ميديل ايست