المؤلف :جوزيف ناي
انها اشارة تحذير مبطنة الى الصين ، تعني انه في حال استمرار النهج الاقتحامي الهجومي الذي تمارسه بكين الان ، فان الغرب بزعامة امريكا سيكون له موقف آخر
تكشف متابعة ما تُصدره دور النشر الأميركية من كتب لأهم مفكري ودارسي العلاقات الدولية مؤخرًا عن جدل محتدم بين النُّخبة السياسية والأكاديمية الأميركية حول مستقبل القوة الأميركية، وقيادتها لنظام ما بعد الحرب الباردة، الذي تربعت على عرشه الولايات المتحدة عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، لاسيما مع تنامي النفوذ والقوة الصينية. ويتبلور الجدل الأميركي في ثلاثة تيارات رئيسية؛ أوَّلها: أن القوة الصينية في تنامي، وأنها في طريقها لأن تتفوق على الولايات المتحدة، وأن تحلّ محلها في قيادة النظام الدولي، وأن القرن الحالي سيكون “قرنًا صينيًّا”. ثانيها: أن الولايات المتحدة ستظل هي القوة المهيمنة عالميًّا على الرغم من صعود قوى دولية أخرى في مقدمتها الصين، وأن القرن الحادي والعشرين هو “قرن أميركي” بامتياز. ثالثها: أن النظام الدولي سينزع إلى حالة من “اللاقطبية” يغيب فيها تمركز قوى محددة على النظام الدولي، مع تزايد أدوار الفاعلين على الصعيد الدولي.
في إطار ردِّ أنصار التيار الثاني على مقولات التيار الأول يأتي كتاب منظِّر “القوة الناعمة” وعالم السياسة الأميركي بجامعة هارفارد “جوزيف ناي” الذي يحمل عنوانه التساؤل الذي يشغل الأوساط البحثية الأميركية والغربية، بل والعربية حاليًا، ألا وهو: “هل انتهى القرن الأميركي؟”.
بعد ربع قرن من كتابه الذي صدر تحت عنوان “وثبة نحو القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية” ، والذي أكد فيه على أن الولايات المتحدة ستظل مع انهيار الاتحاد السوفيتي القوة المهيمنة عالميًّا لعقود، يعود “ناي” ليؤكد على تلك الخلاصة في كتابه الذي صدر أوائل العام 2015، والذي يحاول من خلاله الإجابة على تساؤلين رئيسيين، مفادهما: هل القوة الأميركية في تراجع؟ وهل ستتفوق القوة الصينية على نظيرتها الأميركية خلال العقود القادمة؟
تياران حول الصعود الصيني
تنقسم الكتابات الأميركية حول تصاعد القوة الصينية وإمكانية تجاوزها القوة الأميركية إلى تيارين رئيسيين، هما؛ التيار الأول: يرى أنصاره أن القوة الصينية ستتجاوز نظيرتها الأميركية، وأن القرن الحالي سيكون صينيًّا بامتياز. من أنصار هذا التيار الاقتصادي الأميركي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد “جوزيف ستيغليتز” الذي كتب أن القوة الاقتصادية الصينية أضحت تتفوق على الأميركية، وأن الصين تدخل عام 2015 وهي في أفضل وضع، مشيرًا إلى أن عام 2014 كان آخر عام للحديث عن أميركا كأكبر قوة اقتصادية).
ومن أنصار هذا التيار -أيضًا- مارتن جاك الذي تظهر رؤيته من عنوان كتابه “حينما تحكم الصين العالم”(5)، الذي يرى فيه أن الصين لن تكون القوة الاقتصادية العظمى المقبلة فحسب؛ بل ستسعى لتأسيس نظام عالمي مختلف عن النظام الذي أنشأته وتتزعمه الولايات المتحدة حاليًا. ويؤكد في كتابه على أن الصين لديها نظام اقتصادي وسياسي مختلف عن الذي تتبناه الدول الغربية. وعلى غرار مشروع “مارشال” الذي دشّنته الولايات المتحدة لبناء أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية، أسست الصين في العام الماضي “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية”، والذي انضمت له 21 دولة من شرق وجنوب ووسط آسيا رغم الضغوط الأميركية لإثناء الدول الآسيوية من الانضمام إليه. ستعزّز تلك المؤسسة الآسيوية الجديدة التي من خلالها سيتم تمويل مشاريع بنى تحتية ضخمة من القيادة والنفوذ الصيني دوليًّا().
التيار الثاني: يرى أنصاره أن القوة الاقتصادية الصينية في تنامي، لكنها لا تُهدِّد المكانة الأميركية عالميًّا. هذا التيار هو الأكثر رواجًا بين الكُتّاب والمحللين الأميركيين. ومن أنصاره “ناي” الذي يُؤكد في كتابه الجديد أن القوة الاقتصادية الصينية في تنامٍ مقارنة بالقوة الاقتصادية الأميركية استنادًا إلى القوة الشرائية، لكن هذا لا يعني تفوق القوة الصينية على نظيرتها الأميركية في صورتها الكلية.
ولتوضيح ذلك يفرق “ناي” بين مفهومي “التراجع المطلق” و”التراجع النسبي”؛ لكون مفهوم “التراجع” في حدِّ ذاته مفهومًا مضلِّلًا ومُربكًا. ويقصد “ناي” بـ”التراجع المطلق” عندما تُواجه القوى المهيمنة معوقات داخلية تُمكِّن القوى الأخرى المنافسة لها من التفوق عليها. أما “التراجع النسبي” فيقصد به عندما تحافظ القوة العظمى على قوتها أمام “صعود قوى دولية أخرى”، لكن بدون أن يتخطوا الأولى.
واستنادًا إلى تلك التفرقة بين مفهومي التراجع، يرى “ناي” أن القوة الأميركية في تراجع نسبي وليس مطلقًا؛ لتراجع بعض أوجه قوة الولايات المتحدة لاسيما القوة الاقتصادية مع تراجع نسبة المساهمة الأميركية في الإنتاج العالمي، التي كانت مع بداية القرن العشرين الربع، ثم ارتفعت إلى النصف في منتصف القرن، لتعود مرة أخرى إلى الربع مع نهايته، ومن المتوقع أن تنخفض تلك النسبة خلال السنوات القادمة. ويعتبر “ناي” ذلك تراجعًا نسبيًّا وليس مطلقًا؛ لكون النجاحات ونسب المساهمة العالية التي حققتها القوى الصاعدة في الاقتصاد العالمي مردّها السياسات التي تبنتها الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية، وتأسيسها لنظام دولي واقتصادي استفادت منه تلك القوى الصاعدة، وأن الولايات المتحدة على عكس القوى الصاعدة تمتلك القدرة على الفعل دوليًّا، وصوغ سياسات دولية وتشكيل تحالفات وائتلافات.
أميركا لا تزال القوة المهيمنة
لتفنيد مقولات التيار الذي يتحدث عن التراجع المطلق للقوة الأميركية، وأن القرن الحالي هو قرن صيني، وأن بكين لديها من مقومات القوة ما يُؤهلها لتزعم النظام الدولي بدلًا من أميركا، يتحدث “ناي” عن ثلاثة مكونات أساسية للقوة تؤكد على أن الولايات المتحدة ستظل تحتفظ بمكانتها وصدارتها للنظام الدولي، وهي على النحو التالي:
أولًا: القوة الاقتصادية: يتحدث ناي عن أن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بقوة اقتصادية رغم توقعات تفوق الاقتصاد الصيني على نظيره الأميركي، وتتلخص حجج “ناي” وأنصار التيار الثاني في: الدور المركزي للدولار في الاقتصاد العالمي، باعتباره العملة الأكثر اعتمادية في الاحتياطيات النقدية لمختلف دول العالم، والتي لا تضاهيه أي عملة أخرى، وأن نصيب دخل الفرد الأميركي أربعة أضعاف نصيب دخل الفرد الصيني، فضلًا عن تأسيس الاقتصاد الأميركي على التكنولوجيا، التطوير والإبداع والذي يعطيه ميزة لا تتوافر في نظيره الصيني.
ثانيًا: القوة العسكرية: على الرغم من تزايد الإنفاق العسكري الصيني وتزايد القدرات العسكرية الصينية، إلا أن الصين تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في الإنفاق العسكري. ففي عام 2014 بلغت الميزانية العسكرية الأميركية نحو 581 مليار دولار بالمقارنة بنحو 129,4 مليار دولار للصين ().
ثالثًا: القوة الناعمة: تتفوق الولايات المتحدة على الصين في القوة الناعمة رغم بلايين الدولارات التي تنفقها بكين على قوتها الناعمة. ويُرجع “ناي” إخفاق القوة الناعمة الصينية لسببين رئيسيين؛ أوَّلهما: سيطرة المؤسسات الرسمية الصينية على مبادرات القوة الناعمة، مع تقويض فرص المؤسسات غير الرسمية التي هي الأساس لنجاعة القوة الناعمة لأي دولة. أما ثانيها فيتعلق بالنزاعات الإقليمية مع دول الجوار مثل: اليابان، فيتنام، الفلبين، الهند؛ مما يولِّد صعوبات أمام المحاولات الصينية لجذب مواطني تلك الدول لتأييد المصالح والقيم الصينية.
وبجانب تركيزه على المقومات الثلاثة السابقة للقوة، والتي تؤهِّل أميركا للاستمرار في التمتع بمكانتها عالميًّا لعقود، يضيف “ناي” وكثير من الكتاب الأميركيين أبعادًا أخرى تعزِّز من استمرارية القيادة الأميركية للنظام الدولي، منها: الموقع الاستراتيجي للدولة الأميركية؛ فجارتاها في الشمال والجنوب دولتان ضعيفتان، وفي الشرق والغرب محيطان، واستمرار الجذب الأميركي للمهاجرين المبدعين، وأن الولايات المتحدة بعد سنوات من الاعتماد على الطاقة المستوردة من الخارج أصبحت في ظل ثورة الغاز والنفط الصخريين دولة منتجة للطاقة بما يُنهي الاعتمادية الأميركية على الطاقة من الخارج، ويعزِّز من حرية الحركة الأميركية دوليًّا، فضلًا عن أنها أمّة متقدمة في أبحاث وتطوير التكنولوجيا المهمة لهذا القرن، لاسيما في مجالات البيو تكنولوجي، والنانو تكنولوجي، وتكنولوجيا المعلومات، ناهيك عن تبوُّء جامعاتها صدارة كل التقييمات الدولية لأفضل الجامعات في العالم.
وتشير الكتابات التي لا ترى أن الصين تُمثل تهديدًا للمكانة الأميركية إلى أن بكين لا تسعى لإحداث تغييرات في النظام الدولي الذي أسسته الولايات المتحدة، ولا تطرح بديلًا جديًّا له؛ لكون قوتها الاقتصادية ورفاهيتها تعتمد على هذا النظام، وأنها لا تسعى لتأسيس منظمات ولا نظام دولي مغاير للذي صاغته الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية().
استراتيجية توازن القوى بآسيا
لمواجهة القوة الصينية المتصاعدة يتحدث “ناي” عن استراتيجية “إعادة توازن القوى” إلى القارة الآسيوية، وهي حاليًا أحد محاور استراتيجية الأمن القومي الأميركي لعام 2015(لاحتواء النفوذ الصيني آسيويًّا وعالميًّا. وتقوم هذه الاستراتيجية على جملة من السياسات من قبيل: تزايد الوجود الأميركي في القارة الآسيوية، والعمل على تحديث تحالفاتها مع اليابان، كوريا الجنوبية، الفلبين، الهند، وهي دول ترفض القيادة الصينية، وتعزيز التفاعل فيما بينهم ودورهم في المنظمات الإقليمية، بحيث تكون تلك الدول قادرة على مواجهة التحديات التي يفرضها الصعود الصيني. مع اتخاذ الإدارة الإجراءات اللازمة لحماية الإبداع والأعمال الأميركية من الهجمات الإلكترونية وسرقة الأسرار التجارية لتحقيق مكاسب تجارية، سواء من قِبل جهات خاصة أو الحكومة الصينية.
وانطلاقًا من رؤية الرئيس الأميركي “باراك أوباما” من أنه ليس هناك دولة واحدة، حتى لو كانت قوة عظمى، قادرة على تحمل أعباء النظام الدولي وحدها، وفي ضوء وجود مصالح مشتركة بين الولايات المتحدة والصين في مجال الطاقة والبيئة، وقضايا أمنية مثل محاربة الإرهاب، وتهديدات الدول الفاشلة، أكدت الوثيقة على سعي الإدارة لتطوير علاقات بنّاءة مع الصين من شأنه تعزيز الأمن والرخاء في القارة الآسيوية وحول العالم. فواشنطن تهدف لإشراك بكين في تحمل تكلفة إدارة أزمات إقليمية وعالمية تهرب بكين من تحمل تكلفتها كقوَّة راغبة في أن يكون لها دور في النظام الدولي.
وفي رؤية مخالفة لتلك التي تتحدث عن سلمية التنافس الأميركي- الصيني يتوقع “جون ميرشايمر” أن هذا التنافس لن يكون سلميًّا على المدى الطويل مع تزايد القوة العسكرية الصينية، الأمر الذي يعزِّز في التحليل الأخير من حدّة التنافس العسكري بين الدولتين، مع إمكانية تحوله لحرب في القارة الآسيوية. لكنه يرى أن هذا مستبعد في المدى القريب؛ لأن القوة العسكرية الصينية لا ترقى لمنافسة نظيرتها الأميركية، كما أنها حاليًا مقيدة بتوازن القوى الآسيوية الذي هو في صالح الولايات المتحدة(11).
توازن القوى شرق الأوسطي
لم يتطرق “ناي” في كتابه إلى منطقة الشرق الأوسط والأزمات التي تواجهها وتهدد أمن واستقرار حلفائها التقليديين إلا في موضع حديثه عن القيود على استخدام القوة العسكرية الأميركية خارجيًّا. وفي هذا الشأن أشار “ناي” في كتابه أنه في ظل تمكين الحرب الأهلية في سوريا التنظيمات الإرهابية من توفير ملاذات آمنة لها على غرار ما فعلته حركة “طالبان” في أفغانستان منذ عقدين، وسعي تنظيم “الدولة الإسلامية” لتكراره، فإنّ الولايات المتحدة عليها التدخل العسكري في المنطقة، لكنه يضع شرطًا على هذا التدخل وهو: أن يكون ضروريًّا وبعيدًا عن صور الغزو والفساد. بعبارة أخرى، يدعو “ناي” الولايات المتحدة للتدخل العسكري متى استدعت الظروف والتطورات ذلك، ولكن يجب أن يكون بصورة “ذكية”؛ لأن الاحتلال والسيطرة على السياسات الداخلية لدول المنطقة، في وقت نمت فيه النزعة القومية بين شعوبها عقب ثورات “الربيع العربي” يقوِّض من فرص نجاح استخدام القوة العسكرية.
أغفل “ناي” في كتابه الحديث عن كيفية موازنة الولايات المتحدة بين مصالحها في منطقة الشرق الأوسط وإعادة تموضع نفوذها وقوتها لاحتواء تصاعد النفوذ الصيني المتصاعد الذي يهدِّد مكانة الولايات المتحدة دوليًّا في المستقبل، ونقل مركز قوتها من المنطقة إلى القارة الآسيوية، وهو الأمر الذي أضر بالمصالح والمكانة الأميركية عالميًّا بعد أن ظهرت الولايات المتحدة بصورة القوة العظمى العاجزة عن حل قضايا وأزمات منطقة كانت حكرًا عليها لعقود،
في سياق عدم حاجة الولايات المتحدة للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، وفي الوقت ذاته عدم رغبتها في هيمنة قوى أخرى على المنطقة، طرح “ستيفن والت” و”جون ميرشايمر” استراتيجية التوازن الإقليمي، والتي يعني بها اعتماد الولايات المتحدة على قوى إقليمية (مثل: إيران، السعودية، مصر، تركيا) لتوازن بعضها بعضًا، مع استمرار الانخراط الأميركي الدبلوماسي في المنطقة، ومساعدة القوى الأضعف إذا استدعى الأمر، ورفض التدخل العسكري المباشر في أزمات المنطقة، وفي المقابل الاعتماد على القوة البحرية والجوية للتدخل في الصراعات الطارئة، وألّا يكون هناك تدخل عسكري بري إلا في حالة سعي قوة إقليمية لتهديد توازن القوى القائم، وسعيها للهيمنة على القوى الأخرى. وهي استراتيجية استخدمتها الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة(