حريق كاتدرائية نوتردام في باريس استخرج إنسانية فرنسيين، لتجد الحكومة فيخزينتها 750 مليون يورو في يومين. وصف المتبرعون تحركهم بالفعل الإنساني،للحفاظ على إرث بلادهم ومصدر فخرها. فعل إنساني عظيم، ولا خلاف عليه. لكن، على مسافة قريبة من الكاتدرائيةالمكلومة، يعيش عشرات الآلاف من المواطنين الفرنسيين بلا مأوى ولا تعليم،والأفضل حالاً من يكاد يجد قوت يومه. هذه الإنسانية الاختيارية غير مفهومةفي علاقة أصحاب المال ومحبي التبرعات مع أولويات الحياة. مفهوم جداً أن تحافظ الدول والمجتمعات على الفنون والتاريخ، لكن الأولويةتقول لنا أن الإنسان صنع ذلك كله، فهو من بنى كاتدرائية نوتردام، ومن رصفشوارع باريس، ومن ملأ اللوفر بأجمل اللوحات والتحف، ومن تطاول في بنيانإيفل. ومن دون العناية بالإنسان ما كان لباريس أن تتوج بملكة جمال العالم. أهل الخير في فرنسا يعرفون أن عاصمتهم مدينة الإنسانية، وعلامة فارقة فيالتنوع والتعدد، وأول من صدح بحقوق الإنسان، وفي الوقت ذاته يتجاهلون حالالإنسان، الفرنسي قبل المهاجر، ويلحظون عجز حكوماتهم المتتالية في توفيرالعيش الكريم، وإنقاذ هوية باريس من جور الفقر، ويدعمون رئيسهم لسحق مطالبالسترات الصفر. ربما يرون حصر مسؤولية علاج مشاكل البلاد بالرؤساءالمنتخبين فقط، وتلك نظرة قاصرة؛ لأن إعادة إصلاح الكاتدرائية مسؤوليةالحكومة فقط أيضاً. لكنهم هنا اختاروا أن يكونوا إنسانيين، ووقفوا أمامالبناء يذرفون الدموع، وقد اختزلوا فرنسا كلها بعمرانها. إن إنقاذ باريس من حزام الفقر المحيط بها إنقاذ لتراثها الثقافي والفكري،وحماية لمستقبل الإنسان، ليواصل إنتاجه الإبداعي على امتداد العقود، ولو لمتفتح باريس ذراعيها لأجناس العالم، لما اكتنزت المدينة بكل هذا الجمال. ولكن بماذا يذكرنا هذا الفعل الإنساني الاختياري العجيب؟إنه يذكرنا بالعالم عندما بكى على آثار تدمر وتجاهل طمر نصف مليون سوري،وعندما بكى على آثار الموصل وتجاهل موت وتشريد سكانها، وعندما تسابق فيالحالتين لاستعادة الآثار وترميميها، وبقي الإنسان السوري والعراقي تائهاًمنبوذاً، تلاحقه لعنات السياسة والإرهاب، ولم يجد من يرمم إنسانيته .
الحياة