زلزال جديد، ضمن سلسلة زلازل متتالية تصيب المملكة منذ تولّي الملك سلمانالعرش 2015! محور هذه الزلازل كلها، بما فيها الأخير، هو (الصراع على العرش) حتى واناتخذ أشكالاً إقليمية ودولية، بما فيها فتح معركة على قطر، وأخرى علىلبنان، وقبلهما حرب على اليمن، وغيرها. التمهيد لأن يصبح محمد بن سلمان ملكاً استدعى تدمير الأسس والأعمدة الحاملةللنظام، وكذلك تمزيق الحاضنة الشعبية (النجدية) للنظام. من بين ذلك مثلاً: -عمود المؤسسة الدينية التي كانت مشاركاً ـ وإن ثانوياً ـ ليس في الحكمفقط، وإنما في صناعة الدولة السعودية نفسها، بحيث احتكر الملك سلمان وابنهالفضاء الديني، عبر تهميش المؤسسة الدينية ورجالها، وعدم الاستماع إليهم،أو عبر الاعتقالات التي جرت للمشايخ وحملات الترهيب العلنية التي تنشرهاالصحافة الحكومية. وهذا يقود إلى نزيف حاد في شرعية النظام، خاصة في هذاالظرف حيث لا منجز اقتصادي تنموي للحكم الحالي، وحيث الأزمة الاقتصاديةالخانقة التي تعصف بشعب اعتاد على (الريع) الحكومي، وإذا ببن سلمان يتحولأيضاً إلى (الدولة الضريبية)! -هناك عمود العائلة المالكة، فوحدتها مقدسة للحفاظ على العرش، وقد جربتصراعين سابقين: أحدهما في منتصف القرن التاسع عشر أدى إلى نهاية حكم آلسعود؛ والثاني كان صراع الملكين سعود وفيصل في الستينيات تم حسمه بنفيالملك سعود عام 1964 إلى اليونان ولم يعد إلى البلاد إلا في نعش عام 1968ليدفن في مقبرة «العود». ثلاثون ألف أمير وأميرة على الأقل هو تعداد أفرادالأسرة. ارضاؤهم بالحكم والمناصب مستحيل، مخصصاتهم تثقل الخزانة، والأراضيالتي نهبوها أو منحت لهم تعتبر واحداً من أسباب أزمة السكن شديدة التفجّر،وتعدياتهم لا حدود لها. الآن العائلة المالكة منقسمة بشدة: أكثرية ساخطة على محمد بن سلمان وليالعهد وعلى أبيه، وهي ترفض توليه الحكم، كما ترفض تهميشه لشراكة أبناءوحفدة الملك المؤسس ابن سعود في إدارة المملكة، أحفاد الملك المؤسس وهمبالآلاف لا يرون أن بن سلمان يفضلهم في شيء. وبالتالي فإن ما قام به الأخيرمن الإطاحة بالآخرين (ولي العهد محمد بن نايف وبعده متعب بن عبدالله وزيرالحرس الوطني وغيرهما) واحتكار السلطة لنفسه، سبب انقساماً حاداً، وهذايضعضع الحكم، وإن قوّى الحاكم الشخص المستفرد. بل ان ابن خلدون يرى ان مثلهذا الفعل (ويسميه الانفراد بالمجد) نذير لنهاية الممالك. – ومن الأعمدة التي كسرها الملك سلمان وابنه اعتماد احتكارية المال،والإعلام، وتدمير كل الشركات التي يمكن أن يكون مالكوها غير راضين عنسياسته، أو أن مالكيها لهم تطلعات سياسية (الوليد بن طلال مثالاً) أو هو ـبن سلمان ـ طامع فيما لدى الآخرين (بن لادن، صالح كامل). ما فعله محمد بن سلمان مؤخراً هو حرفياً: (عملية إنضاب الخصوم أو المنافسينالحقيقيين أو المحتملين من أي قوة) وتجريدهم من أي عنصر تميّز، مالاً أوإعلاماً. فأكبر مالكين لمجموعة «ام بي سي» هما: الأمير عبدالعزيز بن فهد،وقد اعتُقل قبل نحو شهرين، وربما تصادر أمواله؛ وخاله الوليد بن ابراهيمصاحب الأسهم الأكبر في المجموعة، واتهامه بالفساد. وباعتقال بن سلمان لرجلالأعمال صالح كامل، يكون قد سيطر على مجموعته الإعلامية «أيه آر تي» واعتقال الوليد من فوائده مصادرة مجموعة «روتانا». وهكذا يكون الاستحواذعلى كل شيء تقريباً. تجدر الإشارة إلى ان ابن سعود ـ الملك المؤسس ـ نصح أبناءه أن لا يشاطرواالتجار أعمالهم، حتى لا يطلب التجار مشاركتهم في الحكم! وبعد العملية الأمنية الأخيرة التي اتخذت (مكافحة الفساد ستاراً لها) والتيأدت إلى اعتقال وزير الحرس متعب بن عبدالله، وأخيه أمير الرياض السابقتركي، وكذلك رجال الأعمال، يكون محمد بن سلمان قد استكمل عملية التهامالسلطة (بكامل حمولتها ومعانيها) السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنيةوالدينية. لقد أضحى بن سلمان (ستالين جديدا)! لا يعني الشيء الكثير ما إذا كان الملك سلمان سيتنازل عن العرش من عدمه،فابنه قد أضحى ملكاً فعلياً وهو حيّ. وهو يستطيع ان يثق أن ابنه هذا، يمكنهالآن الوقوف على قدميه وحيداً في مواجهة ما تبقى من عواصف محتملة، ومنآثارها، حتى وإن كان دقيقاً أن الصراع على الحكم داخل العائلة المالكة لنينتهي. ففي النهاية لا يوجد أمير واحد في العائلة المالكة يستطيع مواجهته،فالأمراء الكبار ترجّلوا، أو ارتحلوا بالوفاة، والقلة الأحياء صامتونخوفاً، أو تحت الإقامة الجبرية (الأمير طلال مثلاً). أما أبناء العمومةالمنافسون، فبعضهم استرضي في إمارات المناطق أو نيابتها أو وكالتها أومناصب جانبية أخرى، ومن يعترض لا يسعه إلا الصمت، أو الرحيل إلى المنفى ـان استطاع. نعم تغلّب محمد بن سلمان بعواصف (حزم) ناجحة حسم بها الصراع على الحكم. بعكس عواصفه السياسية الفاشلة خارجياً (حرب اليمن وقطر ولبنان وإيران). لكنالثمن كان كبيراً. والخطر داهم، ولكنه يأتي من زوايا أخرى: ضرب التيار السلفي والمؤسسة الدينية، وكذلك ضرب التيار الصحوي، يؤذن بنمو «داعش» والفكر الداعشي، حيث لا يفيد القمع ولا العنف. وكلما تضاءلت شرعيةالنظام الدينية، وعدم قدرته على تعويض النقص بمنجزات اقتصادية، كلما زادالخطر. لا ننسَى ان المصنع الداعشي مقره: المملكة العربية السعودية! ومما لا شك فيه أن التيار السلفي الرسمي وغير الرسمي موتور بقرارات محمد بنسلمان وأبيه، خاصة تلك المتعلقة بـ (لبرلة الحياة الاجتماعية) والتي اتخذبشأن بعضها قرارات مثل انشاء هيئة الترفيه، وإقامة الحفلات الغنائيةالعلنية، والسماح للمرأة بقيادة السيارة (حتى وان كانت الأكثرية راغبة فيذلك) وغيرها. من جهة ثانية، فإن هناك ثمناً يدفعه محمد بن سلمان للولايات المتحدة، ولشخصالرئيس الأمريكي ترامب. إذ لم يكن ممكنا أن يقوم بما قام به بدون رضاأمريكي، خاصة مسألة الإطاحة بمحمد بن نايف ولي العهد، الذي كان أثيراً لدىواشنطن. الثمن الذي طلبه ترامب بالتنسيق مع زوج ابنته الذي يتردد كثيراًعلى الرياض يندرج في ثلاثة محاور: – محور الدفع المالي، حيث أخذ ترامب ما يقارب 480 مليار دولار. قيل انهاصفقات وما أشبه، وإلى ما قبل بضعة أيام، ما زال ترامب يغرد عن استعداده بيعسلاح للسعودية! حيث ستبقى الأخيرة (البقرة الحلوب) وعصر ضرعها إلىالنهاية! – محور تغيير السياسات، ليس فقط في استكمال المواجهة مع إيران، وإدامةالحرب على اليمن، كلا. بل الأهم من هذا كله هو: تطبيع العلاقات السعودية معإسرائيل. وقد وجدنا خلال الأشهر الماضية تسارعاً في الاتصالات السعوديةالإسرائيلية شبه العلنية، وترويجاً لعلاقات مع إسرائيل في الإعلام السعوديغير مسبوق من حيث الكمية ونوعية الأشخاص (ليس فقط الأمير تركي الفيصلوجماعته كأنور عشقي) بل ان إسرائيل تتحدث علنا عن تلك العلاقات، وتستعجلإعلانها على الملأ، وهذا بالنسبة لها يعتبر ثمناً لدعم اللوبي الصهيوني فيأمريكا لمحمد بن سلمان وتقريبه من ترامب الذي كان بالأمس القريب شرساً فيالعداء لآل سعود، ومطالباً بمحاكمتهم ومعاقبتهم واستحلابهم وفق قانونجاستا. – محور لبرلة الحياة الاجتماعية، وهذه إحدى اشتراطات واشنطن، ويندرج ضمنها: منح المرأة السعودية بعض الحقوق، وتغيير المناهج الدينية التي قيل انه تمتغييرها بعيد زلزال التاسع من أيلول/سبتمبر 2001. وكما أعلن أمريكياًمؤخراً، فإن هناك لجنة أمريكية سعودية تعكف على مراجعة المناهج الدينيةالسعودية. بناءً على المعطيات الحاضرة، فإن السعودية تتحول بسرعة صاروخية عن نموذجالدولة الدينية السلفية (المزعومة) إلى دولة تختلف كلياً في الشكل عنالحالية. لعلنا نشير إلى أن مشاريع محمد بن سلمان (مشروع البحر الأحمر،ومشروع نيوم، وغيرهما) والتي ما زالت حبراً على ورق، تشي بأنه يريد تحويلالبلاد إلى مركز سياحي، ليس فقط يصرف المواطن أمواله على السياحة الداخلية،وإنما أيضاً يجلب سياحا من الخارج، غير السياحة الدينية (الحج والعمرة). لكن هذا المشروع السياحي ـ خاصة نيوم الذي ترتبط به إسرائيل ومصر والأردن ـخارج القانون السعودي كما أعلن، لأن صناعة السياحة تتطلب انفتاحاً لاتستطيع البلاد ان تتحمّله. تغيير ايديولوجية الدولة ليست عملية سهلة، وانما تتطلب تغييراً هيكلياً فيشكل السلطة ونظامها السياسي، خلافاً لما قامت عليه. نعترف أن الدولة السعودية قامت في الأساس على رؤية دينية وهابية عنيفةفصنعت بها وعبر اتباعها الدولة، لكن الوهابية باتت تخنق الدولة ـ بدل انترعاها ـ لجمودها الشديد. ولأن الدولة تحتضن الحرمين الشريفين، فإنها لاتستطيع ان تتغير وتصبح مثل الإمارات كمثال. ولا يستطيع النظام السعودي ان يكون ديمقراطياً وعلمانيا بديلاً عن الدولةالسلفية! لكن العلمانية ـ كما كتب جمال خاشقجي ذات مرة ـ ليست دكاناً تشتريمنه شيئاً وتترك معظم ما فيه. هي حمولة فكرية وسياسية، فإما ان تأخذهابالكامل أو تتركها بالكامل. وإلا كيف يكون نظاماً ملكياً تسلطياً مطلقاً،علمانياً في الوقت نفسه؟هناك قضية ثالثة تحوي بعض الألم، وهي أن الأزمة الاقتصادية التي عصفتبالبلاد ولا تزال، يدفع ثمنها المواطن عبر ضرائب لم تحدث في تاريخه. لقد تمتغيير جوهر الاقتصاد الريعي (الدولة التي تدفع للمواطن خدمات وغيرها مقابلالتنازل عن حقه السياسي) إلى (اقتصاد ضريبي) بين ليلة وضحاها وكأنك فيدولة غربية، ولكن بدون حقوق سياسية! كيف يكون هذا؟ لا حقوق سياسية ولا حقوق اقتصادية، ولا حرية تعبير تسمحبالسؤال: أين ذهبت أموال الضرائب؟ ولا أي شكل انتخابي، أو محاسبة أوتشريعات تحفظ حقوق المواطنين؟اذن لنقدم لهم (الترفيه) للتنفيس على الأقل ـ هكذا فكر بن سلمان وطبّق؛ونخفض دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو نلغيها حتى! لكن هل 37في المئة من المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر، و80 في المئة منالمواطنين الذين لا يمتلكون مسكناً، هل لدى هؤلاء الوقت والمال للترفيهالمُكلف؟ وهل الطبقة الوسطى سريعة الانكماش والخائفة تضحي بما لديها منرصيد أموال محدودة مستعدة للذهاب إلى آخر الشوط؟ وهل العاطلون عن العملالذين يزداد عددهم في عهد (الرؤية العمياء) ـ وهذا باعتراف الحكومة نفسها،بسبب التقشف وايقاف الإنفاق الحكومي على المشاريع والغائها، والآن أيضاًبسبب الهجمة على رجال الأعمال ـ هل لدى هؤلاء متسع للفرح والترفيه عنالنفس، ودفع خمسة آلاف ريال وأكثر كثمن لتذكرة دخول حفلة غنائية؟! ابن سلمان الذي سيطر على أرامكو وعلى ميزانية الدولة وعلى استثماراتها،وقرر مشاريعها ضمن رؤيته 2030 (التي وضعتها ماكنزي) زعم انه في 2020 سيتمالاستغناء عن النفط، وانه سيفعل الكثير. ولكن خلال عام واحد فقط، تبين انكل الرؤية مجرد أوهام، وتحتاج إلى إعادة دراسة. ومثل ذلك المشاريعالاقتصادية والاستثمارية الأخرى. إذا استمرت المصاعب الاقتصادية، في ظل حملة قمعية أمنياً غير مسبوقة فيالتاريخ السعودي، وفي ظل غياب تام لأي صوت ولأي متنفس سياسي، لا بد لنا اننتوقع ان انفجاراً ما سيحدث. هذا لا يحتاج إلى تحليل معقد. ففي نهاية المطاف، فإن ما يهم المواطن انيحصل على وظيفة براتب مجزٍ، يكفي لتغطية مصاريفه التي تصاعدت بفعل زيادةالضرائب على الوقود والكهرباء والماء والسلع (القيمة المضافة) وغيرها منالضرائب. فاذا لم يجد حلاً: لن يطول صبره!
القدس