كثيرا ما كان المترجمون الجنود المجهولين الذين كانت، وما تزال، لهم اليد الطولى في تغيير ذائقات وطبائع وحتى أفكار وحيوات الكثيرين من قرّائهم، إذ لا يُنكر أحد دور الترجمات الأدبية والثقافية من اللغات العالميّة إلى العربيّة في إحداث الفارق والتأثير ليس فقط لدى القراء، بل كذلك لدى الكُتّاب والمفكرين الناطقين بالعربيّة.
لذلك تحاول الجزيرة نت، من خلال هذه المساحة، أن تُلقي الضوء على جوانب عديدة من الترجمات وأعمال المترجمين، كإضاءة على تلك الجهود.
في هذه الحلقة نحاور المترجمة المصرية يارا المصري حول ترجمة الأدب الصيني إلى العربية، وهو أدب قديم قدم الشعب الصيني، وواسع وغزير.
صحيح أن الأدب الصيني يُعدّ من أقدم الآداب في العالم، لكنه يحتفظ بخصائص مختلفة عن الآداب العالمية الأخرى، حيث مفهوم الأدب في الصين القديمة كان يوازي، إن لم نقل يُساوي، مفهوم الثقافة، فكان ذلك يعني كل كتابة رشيقة وعالية المستوى لغوياً وفكرياً، بغض النظر عن ارتباطها بالأخلاق أو الفلسفة أو الأدب أو الدين أو حتى السياسة.
لدرجة أن مقابلات التوظيف للوظائف الحكوميّة كانت تمتحن المتقدّم في نظم الشعر وإجادة النثر، وهو تقليد استمر عدة قرون في الصين، وهذا كان يعني أن أهم الأدباء، على مدار تلك القرون، كانوا موظفين حكوميين.
هناك كتب قديمة في التراث الصيني، مثل كتاب الأغاني، تعود جذوره إلى القرن 11 قبل الميلاد، وكتاب الوثائق، الذي تعود جذوره كذلك إلى قرون ما قبل الميلاد، يُمكن جمعها بمصطلح “الكتب الخمسة” أو “الكلاسيكيّات الخمس” التي كانت تُشكل أعمدة الديانة الكونفوشوسية، ومن بعدها ديانتا الطاوية والبوذية.
وقد أغلق استلام الحكم الشيوعي -للحكم في الصين عام 1949- البلاد ضمن مفاهيم الحزب الأممي، وصار كتاب مغمورون يعتلون المنابر بسبب كتابتهم وفق شروط الحزب الشيوعي للإبداع الأدبي.
وانفتحت الآفاق أكثر بعد الثورة الثقافية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وصار هناك أدب صيني حديث يكتب أعمالاً أدبية خالية من تعليمات الحزب الحاكم، بل تجرأ كتاب آخرون على انتقاد الحكومة في أعمالهم.
ورغم ذلك، يُعتبر الأدب الصيني أرضاً بكراً للترجمات، ليس فقط بالنسبة للعالم العربي، بل كذلك لدى لغات عالمية أخرى.
وربما تأخر حصول أحد الكتاب الصينين على جائزة نوبل للأدب حتى عام 2012، من خلال الكاتب مو يان (1955) الذي يُنظر إليه كأول كاتب صيني حاصل على جائزة نوبل للأدب، غاضين النظر عن حصول الكاتب جاو كسينجيان، الذي ولد في الصين عام 1940، وحصل على الجنسية الفرنسية عام 1998 قبل نيله جائزة نوبل للأدب عام 2000، يدلّ على أحد أسباب تأخر الترجمات من الأدب الصيني إلى اللغات الأخرى.
والمترجمة والكاتبة المصريّة يارا تعد أحد أولئك المترجمين الذين انطلقوا إلى تلك الأرض البكر، وهم يحاولون نقل ثمارها، بجهود كبيرة، إلى اللغة العربية.
فدرست الصينية في كلية الألسن جامعة عين شمس بالقاهرة، وفي جامعة شاندونغ للمعلمين بمدينة جينان الصينية. ونشرت قصصاً ونصوصاً شعرية ودراسات مترجمة عن الصينية إلى العربية في مجلات وصحف منها: مجلة العربي وجريدة الأهرام والملحق الثقافي لجريدة الاتحاد وأخبار الأدب، وغيرها من الدوريات الثقافية العربية.
وحازت على العديد من الجوائز عن ترجماتها، ومنها المركز الأول في مسابقة جريدة أخبار الأدب للشباب في الترجمة، وذلك عام 2016 عن ترجمتها لرواية “الذواقة” للكاتب الصيني “لو وين فو”. وعام 2019 حازت على جائزة الإسهام المتميز في الكتاب الصيني، قبل أن تحصل على المركز الأول لجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، بالدورة السابعة لعام 2021، في الترجمة من الصينية إلى العربية.
وصدر لها 13 عملاً مترجماً، بدأتها عام 2015 بترجمة المجموعة القصصية “العظام الراكضة” للكاتبة آشه (1971) وأتبعتها بترجمات لكل من الكاتبات والكتاب سوتونغ (1963) وبينغ يوان، ولو وين فو (1928-2005) والشاعر خاي زي (1964-1989) والكاتب شي تشوان (1963) وتسان شييه وآخرين من الكتاب المعاصرين والكتابة الجديدة.
كيف تلخصين أهمية الأدب الصيني، وبالتالي أهمية ترجمته إلى العربية؟
حين نقول “الصين” فإنَّ ذلك يعني بلداً مؤثراً للغاية في الحضارةِ الإنسانية قديماً وحديثاً، وبالتالي فإنَّ أهميةَ أدبها ينبع من هذا التأثير، والصينية “الماندرين” لغة حيَّة وخلَّاقة، وبالتالي فإنَّ الترجمة عنها إلى العربية لها أهمية بالغة في إثراء المخيلة الإبداعية والأدبية العربية، والأمر نفسه في الترجمة عن أية لغة أخرى، حتى لو كان الناطقون بها عدداً محدوداً، فكيف يكون الأمر مع لغة يتحدث بها مليار ونصف المليار إنسان.
قهل تأخرنا في ترجمة الأدب الصيني؟
لا يتعلق الأمر بالتأخير في ترجمة الأدب الصيني، وإنَّما بالتركيز على ترجمة الأدب الغربي منذ ما نطلق عليه عصر النهضة وحتى اليوم، وفي رأيي أن نركز على ترجمة ما بوسعنا ترجمته من الأدب الصيني، وأهم من السؤال عن مسألة التأخير في حد ذاتها.
متى ترجمت أول رواية أو مسرحية أو مجموعة شعرية من الأدب الصيني إلى العربية؟
هذا سؤال يخص “القوائم والأرشفة” ولا يخص المترجم، وما يمكنني قوله هنا إنني قدر ما أصل إليه من ترجمات من الصينية إلى العربية، فإنني أقرؤها، سواء مترجمة مباشرة من الصينية أو من لغات وسيطة كالفرنسية والإنجليزية.
ركيف تنظرين لعمل المترجمين الذين سبقوك في هذا المجال؟
بالتأكيد أقدِّر عمل المترجمين الذين سبقوني، فقد خاضوا المغامرة التي نواصلها نحن الآن، في الترجمة من الصينية، وبالتأكيد أستفيد من أعمالهم وخبراتهم.
زوجات-ومحظيات-لسوتونغ-ترجمة-يارا-المصري
رواية “زوجات ومحظيات” لسوتونغ ترجمة يارا المصري (الجزيرة)
هناك تركيز على فن الرواية، بينما نادرا ما يترجم المسرح أو الشعر. هل يعود ذلك لدور النشر العربية أم اختيارات المترجم؟
أعتقد أن الأمر راجع إلى رواج “الرواية” سواء مؤلفة أو مترجمة، بينما يحظى الشعر بأهمية أقل في الترجمة، وثمة ندرة شديدة في المسرح، بينما لا يتحدث أحد عن “ترجمة القصة القصيرة”. وعلى أي حال، الأمر مركَّب بين اختيارات دور النشر العربية واختيارات المترجمين. وعن نفسي، فأنا أترجم الرواية والشعر والقصة القصيرة، ولم يحدث أن ترجمت مسرحاً حتى الآن.
مختارات-شعرية-لشي-تشوان-بعنوان-معابد-معتمة-ترجمة-يارا-المصري
مختارات شعرية لشي تشوان بعنوان “معابد معتمة” ترجمة يارا المصري (الجزيرة)
حصل بعض الكتاب الصينيين على جوائز عالمية، ومنها نوبل، لكن هناك بطء بالترجمة للعربية والكثير من الكلاسيكيات لم تترجم رغم التركيز عليها بكل ترجمة إلى لغة أخرى، وهل تتم ترجمة الجديد منه بسبب حصوله على جوائز أم لأسباب أخرى؟
إن كان ثمة بطء في الترجمة من الصينية إلى العربية، فهذا راجع في الأساس إلى قلة عدد المترجمين من الصينية، بالإضافة بالطبع إلى المشكلة المستمرة في تبني مشاريع الترجمة وتمويلها سواء من الصينية أو من غيرها من لغات العالم، والجوائز بالطبع تدفع عملية الترجمة، لكنها ليست السبب الوحيد للترجمة من الصينية، فقبل حصول الكاتب الصيني مويان على جائزة نوبل للآداب، كانت هناك ترجمة من الأدب الصيني واستمر ذلك حتى اليوم، وأعتقد أنني وبعض زملائي نركز على ترجمة الأدب الجديد في الصين.
الحب-في-القرن-الجديد-لتسان-شييه-ترجمة-يارا-المصري
ما اقتراحاتك لكي تكون الترجمة من الأدب الصيني إلى العربية تثلج قلوب القراء؟
أعتقد أن اختيارات الترجمة تلعب دوراً كبيراً في إقبال القراء ورضاهم عن المُترجم من الصينية، أو غيرها من اللغات، إلى العربية، ولا توجد لدينا أية دراسات عن تفضيلات القراء العرب لكي نسترشد بها، وعلى المترجم فقط أن يفعل ما عليه من حُسن الاختيار والترجمة الأمينة المبدعة.
هل تجدين أن ترجمة الأدب العربي إلى الصينية متوازنة مع الترجمة من الصينية إلى العربية؟
أعتقد أنَّ الأمر متعلقٌ أكثر باهتمامات المترجمين، وبما توفره فرص الترجمة من هذه اللغة إلى تلك. وعلى أي حال، الصينيون يهتمون بترجمة أدونيس ومحمود درويش ونجيب محفوظ على سبيل المثال، وهذا يعني أن خريطة الإبداع العربي منذ هؤلاء، وحتى اليوم، ربما تكون غائبة عن اهتمام المترجمين من العربية إلى الصينية.
ونحن أيضاً ربما نركز على الأسماء المشهورة في الأدب الصيني، أو على الأدب الصيني الكلاسيكي، وإن كنت أنا بشكل شخصي أركز على الأدب الجديد في الرواية والقصة القصيرة والشعر، وكل هذا يعني أنه من الصعب قياس هذا التوازن في الترجمة من وإلى اللغتين، لكن السياق بشكل عام يتطور ويدخل مناطق جديدة.
الفرار-في-عام-1934-لسوتونغ-ترجمة-يارا-المصري
ماذا عن آخر ترجماتك من اللغة الصينية؟
صدر لي أخيراً كتابان، أحدهما هو الطبعة الأولى من رواية “قاموس ماتشياو” للكاتب الصيني “هان شاو غونغ” والثاني هو الطبعة الثانية من رواية “الذَّوَّاقة” للكاتب الصيني “لو وين فو” وهي رواية قصيرة “نوفيلا” بينما “قاموس ماتشياو” رواية طويلة تقع في أكثر من 620 صفحة. وفي “الذَّوَّاقة” الطعام هو البطل الرئيسي، وفي “قاموس ماتشياو” الكلمات هي البطل الرئيسي.
و”قاموس ماتشياو” كذلك رواية فريدة من نوعها، إذ يبني الكاتب أحداثَها على القاموس المحلي للكلمات التي يتحدث بها سكان قرية ماتشياو جنوب الصين، وهي كذلك رواية لا نظير لها في الأدب العالمي سوى رواية “قاموس الخَزَر” للكاتبِ الصربي “ميلوراد بافيتش” التي صدرت عام 1984، إذ يعتمد الكاتبان الصيني والصربي القاموسَ أو المُعجمَ منهجاً للسردِ الروائي، وإذ تُرجمَت “قاموسُ الخزر” إلى لغاتٍ كثيرةٍ ليس منها العربية، فإنَّ ترجمتي لرواية “قاموس ماتشياو” هي الترجمةُ العربيةُ الكاملةُ والأولى للرواية عن اللغةِ الصينية.