https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

تأليف : ريجيس دوبريه ورينو جيرار

هل سيأفل نجمُ الغرب؟ سؤال طُرح كثيرًا في الماضي ولا يزال صداه يتردّد، يزيده إلحاحًا عاملان قد يشكلان دافعًا نحو انقضاء عهد تفوُّق الغرب وهيمنته؛ هما: تناقضات الغرب وأزماته الداخلية من جهة، وبروز قوى “ناشئة” على الساحة العالمية من جهة ثانية، فضلًا عن توهم “تهديد إسلامي” مزعوم من جهة ثالثة.

 

قبل طرح سؤال “ماذا تبقّى من الغرب؟” ينبغي توضيح مقصودنا بالغرب: متى وُلد؟ وأين؟ وعلى أي أسُس؟ وهل نشأ في أثينا مع بروز أفكار المواطَنة والحرية في ظل القانون والعلم والمدرسة، أم في روما مع ابتداع القانون الروماني والملامح الأولى للفردانية، أم في القدس مع المجيء الأول للأخلاقية والأُخروية الإنجيليتين، أم في العصور الوسطى مع الإصلاح الغريغوري، أم تزامنت ولادته مع ولادة الجامعات وتوسُّع المدن والثورة الصناعية؟ وهل تَشكَّل الغرب مع حلول الديمقراطيات الليبرالية وابتداع المؤسسات الديمقراطية والليبرالية الحديثة؟

 

في وسط هذه الاحتمالات جميعًا لتعريف الغرب، يرى كثيرون من الكتّاب عن مسيحية العصور الوسطى الشكلَ النهائي للغرب، يحيله بعضهم على “النهضة الأولى” (Quattrocento)، أو عصر الأنوار، بينما يُؤْثر غيرُهم تحديد حدود الغرب جغرافيًّا، وذلك ضمن منطقة أورو-أطلسية، بوصفها “العالم الأول”، المغاير لـ “العالم الثاني” (أو الكتلة الشيوعية سابقًا) و”العالم الثالث”، شاملين بذلك العالم المسيحي غير الأرثوذكسي، كشأن دوبريه الذي يعمد إلى تحديد نطاق الغرب داخل إطار منظمة سياسية وعسكرية وهجومية وتوسعية كانت في الأصل دفاعية، وهي حلف شمال الأطلسي “الناتو” الذي كان الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول يصفه بـ “أداة الهيمنة الأميركية”، والذي لا تظهر كلمة “الغرب” في معاهدته عام 1949، بل مجرد حديث عن “التضامن الأطلسي”، الذي استُبدل “التضامن الغربي” به في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي.

 

أما الأطياف المناهضة للهيمنة الغربية، فإنها لا ترى في الغرب سوى إمبرياليةٍ ورغبة حثيثة في “تحديث” كوكب الأرض وفقًا لمعنى يمنحه هو للحداثة يتضمّن السوق الحرة، والفردانية المفرطة والمنقطعة عن التقليد أو الانتماء، وأقصى درجات الاستهلاك، والحكامة الجيدة باعتبارها فنَّ الحكم من دون سياسة، مثل حكم الشركات والمؤسسات، ومن ثَمَّ يستَحضِر المناهضون نظريةَ المؤامرة وراء “تغريب” الحكام والنخب واستلاب الأنظمة الأخلاقية.

 

عنوان هذا السِّفْر الصغير ماذا تبقّى من الغرب؟، استفهامي ومفتوح على أكثر من جواب، وقد جُمعت مادته من تبادل رسائل بين مثقفَين فرنسيَّين ذَوَي خلفيات متباينة؛ ريجيس دوبريه الفيلسوف عضو الأكاديمية الأدبية المرموقة غونكور وصاحب التاريخ النضالي الرفيع، ورينو جيرار الكاتب الصحافي الدولي المتخصص في تغطية الحروب وقضايا الشرق الأوسط، والأستاذ في العلوم السياسية. تتضمن الرسائل رؤى متباعدة إلى درجة التباين نحو مشكلات الغرب الحالي الرئيسة، وتذكّر بأفكار كتاب أوزوالد شبنغلر الشهير انحدار الغرب (1922). وبالرغم من التباين الشديد لخلفية الكاتبَين وحساسية القضايا المطروقة، بقي الحديث في الكتاب بين الرجلين مهذَّبًا ولبقًا، حديثَ مثقفَين؛ أحدهما ما عاد ثوريًّا بعد أن كان كذلك لعقود، والآخر لم يكن ثوريًّا البتة.

 

طرق دوبريه في الكتاب إشكالية “نهاية الغرب” بسلوك منهجٍ أكاديميّ جدليّ، فعرض بمنظور طبيب خبير نتائج “فحص سريري” مفترض للغرب، مشددًا على أن تماسك الغرب يكون منقطع النظير تحت كنف واشنطن فقط؛ إذ إن الريادة الأميركية مقبولة من كل الأطراف الغربية، ومختصرًا الغرب في حلف شمال الأطلسي، كما يذهب إلى أن كلمة “الغرب” ليست سوى اسم مستعار لـ “الناتو”، وأن هذا التماسك عنصرُ قوة في عالم غير مستقر ومتعدد الأقطاب جعل من الغرب مجموعة أحادية القطب ومتسقة، وهو ما لم يتحقق، في رأيه، في أي منطقة من العالم، لا في آسيا بين الصين والهند، ولا في أميركا الجنوبية بين البرازيل والأرجنتين، ولا في أفريقيا بين نيجيريا وجنوب أفريقيا، ولا حتى في “جامعة الدول العربية” و”رابطة دول جنوب شرق آسيا” وسواهما، بينما بقي المتحدث باسم “الناتو” صوت واحد، تحت قيادةٍ غير متنازع عليها.

 

المشكلة في هذا الطرح، كما يُقِر دوبريه نفسه، أن التماسك والصوت الواحد زيَّنا للغرب فكرةَ “احتكار ما هو كوني”، فقدَّم نفسه مركزًا للعالم، وأن مصالحه هي مصالح الإنسانية بأسرها. إنها المركزية الإثنية الغربية في أبشع صورها.

 

وفي الجواب عن الصورة الرمادية للغرب هذه، يجيب مؤلف الكتاب الثاني رينو جيرار بميزة قيام بلدان “الغرب” على سيادة القانون، بينما يعاني العالم دكتاتوريات ذات صور وأشكال عدة، كما يشدّد على البُعدِ المسيحي بوصفه أهم السمات المميِّزة للغرب، وسعى بهذا إلى تأكيد عدمِ تنافر الغرب مع روسيا وأوراسيا، خلافًا لمناطق أخرى لا تشترك معه في المرجعية المسيحية، مقدِّمًا دليلًا من الثلاثينيات، حين أدار الغربيون ظهورهم لجوزيف ستالين الذي لم يكن عدوًّا يسعى إلى خرابهم كما كانت ألمانيا النازية، وهو ما دفع الغرب ثمنه لاحقًا.

 

ويعقد جيرار موازاة تاريخية متهافتة للغاية مع سوريا بشار الأسد، فيؤكد أن الرئيس السوري وإن كان مكروهًا في بلده كستالين، فإنه لا يحلم بدمار الغرب، معتبرًا أن عدو الغرب اليوم، كما كانت النازية في الماضي، هو “الفاشية [الجهادية] الخضراء”، ومن ثم فإن عجز الغرب عن تحديد هذا العدو سيدفع ثمنه لاحقًا مثلما دفع ثمن عدم تعرّفه مبكّرًا إلى العدو النازي.

 

أسَفُ جيرار على السياسة الخارجية الغربية تجاه سوريا والثورات العربية يقابله ما يسميه “الطيش الغربي الكبير” تجاه روسيا إبان الأزمة الأوكرانية، بتأكيده أن فلاديمير بوتين ليس عدوًّا للغرب، بل غريمه فحسب في لعبة النفوذ بأوكرانيا، كما يُرجِع الفشل الغربي في التعامل مع بوتين إلى نفوذ المحافظين الجدد ومؤسسات الفكر والرأي الأميركية، التي لم تستطع التمييز بين الأطراف الغربية ذات طابع الاستبداد الشرقي لكنْ غير المعادية جوهريًّا للغرب وبين الأيديولوجيا الهدّامة لـ “الفاشية الخضراء” التي لم يفهم الغربيون طبيعتها حين غذَّوها، سواء في أراضيها الإسلامية، أو في أراضي الغرب مع الجاليات المسلمة المهاجرة.

 

ولتأكيد شرعية التوسع الغربي الاستعماري واجتياحه الدول “المتخلّفة” باسم تفوقه الأنطولوجي، لم يفُتْ ريجيس في جوابه التذكير بـ “بيان الدفاع عن الغرب” (1935) الذي أصدره أكاديميون لدعم العدوان الإيطالي على إثيوبيا، ووصَفَ هذا البلدَ الإفريقيَّ العريقَ بـ “مزيج من القبائل الجاهلة”، ومع إقرار ريجيس بوجود “غرب آخر” أصدرَ بيانًا مضادًّا للأكاديميين في الفترة ذاتها فنَّد الغطرسة العمياء للبيان الأول. ودعا دوبريه مثقفي الغرب وأكاديمييه إلى محاولة تجنّب الأحادية والمركزية الإثنية الغربية القائمتين على الغطرسة والإمبريالية، والسعي إلى تكريس وجه آخر مُشرِق للغرب بعد أن طال كسوفه في ظل المحافظين الجدد. كما يجدر الإشارة إلى نظرة ريجيس النقدية إزاء الملامح المقيتة في وجه الإله جانوس (Janus) ذي الوجهين، بدءًا من غطرسته المفرطة وعقدة التفوق المسبّبة لعمى البصيرة، مرورًا باحتباسه في الزمن القصير، وإنكاره روح المقدس والتضحية، بخلاف بقية العالم، اللتين لا تزالان عاليتين، وبالأخص في البلاد العربية الإسلامية، وصولًا إلى سياسة تدخل الغرب الخارجي الكارثية، التي دمّرت الدول الوطنية واستنزفتها.

 

في الكتاب حوارٌ مثير تتمخض عنه صورة “رمادية” للغرب، لا هي بيضاء ناصعة البياض ولا هي قاتمة السواد، يتوافق فيه الكاتبان، على الرغم من اختلافاتهما العميقة، على أن الغرب لا يزال قائمًا وثابتًا وإنْ بدأ بالترنح قليلًا، مع اختلاف اجتهاد كل منهما في سبب هذه الاستمرارية؛ إذ هو قوته العسكرية والتكنولوجية عند دوبريه، ووجوده السياسي الذي لا ينفصل عن جذوره الثقافية الراسخة والوطيدة عند جيرار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة عشر − إحدى عشر =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube