https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

أورفيل شيل

يصادف يوم 23 يوليو (تموز) الذكرى المئوية لتأسيس “الحزب الشيوعي الصيني” الذي شهدت مدينة شنغهاي عملية تأسيسه في 1921. ومن بين آخرين، حضر المؤتمر الأول للحزب ماو تسي تونغ البالغ من العمر 27 عاماً آنذاك، بعد أن قام برحلة شاقة من إقليم “هونان” الداخلي. هذا الصيف، ستقيم الصين احتفالاً ملحمياً تكريماً لتلك المناسبة. وعلى الرغم من أن الحزب سيتخلى عن إقامة عرض عسكري في ميدان تيانانمين (خشية أن يبدو عسكرياً للغاية)، أوضحت صحيفة “غلوبال تايمز” الشوفينية أن “عروضاً واسعة النطاق ستنعقد بهدف عرض المسار المجيد والإنجازات العظيمة والتجربة القيمة لـ(الحزب الشيوعي الصيني) على مدى المئة عام الماضية”. ستكون هناك منشورات احتفالية، وندوات، وطوابع وعملات معدنية تذكارية، وميداليات تُمنح إلى “أعضاء الحزب البارزين”، وخط ساخن خاص أنشئ حتى يتمكن المواطنون الوطنيون من الإبلاغ عن أي “عدميين تاريخيين”، [عبارة تستخدم في الإشارة عن أشخاص خارجين عن معتقدات الحزب] ويبدون استعداداً لـ”إنكار امتياز الثقافة الاشتراكية المتقدمة”. وفي خطاب كان سينال إعجاب ماو ورضاه، حث شي جينبينغ، رئيس الصين، الأمين العام لـ”الحزب الشيوعي الصيني”، أعضاء الحزب البالغ عددهم 90 مليوناً على “المضي قدماً بقوة في التقليد الأحمر”. في تلك الأثناء، انهالت أجهزة البروباغندا على الجمهور بشعارات كلامية “تمسكوا بالماركسية اللينينية، وفكر ماو تسي تونغ، ونظرية دنغ هسياو بينغ، وفكر (التمثيلات الثلاثة) المهم، والنظرة العلمية للتطور، وأفكار شي جينبينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد، واعتبروها المرشد التوجيهي!”.

على الرغم من أن تلك اللغة مألوفة لدى كبار السن من الصينيين ممن عاصروا حقبة ماو، فإن كثيرين غيرهم ما زالوا يتساءلون كيف تتناسب تلك الثقافة الرجعية التي تستند إلى مفهوم الزعيم الكبير، مع عالم معولم حديث، بل خصوصاً العالم الذي تستمر فيه جمهورية الشعب الأوتوقراطية الحديثة في إذهال المحللين، بمعدل نمو اقتصادي بلغ 18 في المئة في الربع الأول من عام 2021. وفي النهاية، ألم يصر واضعو النظريات الغربيون ذات مرة على أن الاقتصاد المتنامي يترافق مع التطور الديمقراطي الذي لا مفر منه؟

أولئك منا الذين راقبوا تقدم الصين منذ فترة طويلة، علماً أنني انضممتُ للمرة الأولى إلى أخوية مراقبة الصين في “جامعة هارفرد” في أوائل الستينيات من القرن العشرين، كتلميذ لجون فيربانك وبنجامين شوارتز، أولئك يجدون أنفسهم الآن وقد دخلوا حقبة تذكرنا بشكل مؤلم بفترة سابقة أُقْفِلَتْ أثناءها أبواب “الصين الحمراء” في وجه الأميركيين، ما جعلنا نعمل على فهم ثورة ماو التكتونية عبر اللجوء إلى الصحف الصينية ومن طريق استراق النظر عبر الثقوب من هونغ كونغ وماكاو وتايوان. الآن، بعد عقود عدة من المشاركة المفعمة بالأمل، تتعكر العلاقات مع الولايات المتحدة مرة أخرى نتيجة دبلوماسية “الذئب المحارب” التي اعتمدتها بكين. لقد أغلقت المكتبات ودور الأرشيفات الصينية أبوابها أمام العلماء، ورفضت الحكومة منح تأشيرات للمراسلين الأجانب، وأدت عمليات القمع القاسية إلى خنق مجموعات المجتمع المدني العالمية، بينما تسببت جائحة كورونا في جمود التبادلات الثقافية. وفي هذه المرة، تتبارز الولايات المتحدة مع خصم أكثر نجاحاً وقوة وأشد خطراً.

مع احتفال “الحزب الشيوعي الصيني” بالذكرى المئوية لتأسيسه من خلال سيل من القصص التاريخية الحزبية الرسمية التي تصور الصين بوصفها قوة متجانسة، تأتي ثلاثة كتب حديثة لتذكِّر بأن الشيوعية الصينية أدت إلى تنوع مذهل في وجهات النظر وأساليب القيادة. على الرغم من أن قادة البلاد قد اشتركوا جميعاً في التزام حكومة لينينية من حزب واحد، فإن تلك الحقيقة تخفي حالة أعمق من عدم اليقين. وعلى الرغم من التبجح القومي بشأن “تجديد” الصين ونجاحها في بناء الدولة، يكشف هوس الحزب المستمر بالسيطرة، عن عدم ثقة في النظام الذي ابتكره.

مصدر واحد للتنوع

يتجلى التنوع التاريخي للصين الشيوعية بشكل أكثر وضوحاً في الكتاب الذي ألَّفه تيموثي تشيك، وكلاوس مولهاهن، وهانس فان دي فين. إذ يعرض هذا العمل مجموعة من الشخصيات التي أدت أدواراً مهمة في التطور المتناقض لـ”الحزب الشيوعي الصيني”. من بين تلك الشخصيات، السياسي الشيوعي الهولندي هينك سنيفليت، المعروف باسم مارينغ، الذي ساعد في تنظيم “الحزب الشيوعي الصيني” في عشرينيات القرن الماضي، والمثقف اليساري الصريح وانغ شيوي الذي قُطع رأسه بسبب صراحته عام 1947؛ والأمين العام للحزب الشيوعي الصيني ذو العقلية الإصلاحية تشاو زيانغ، الذي أقصيَ عام 1989 بسبب تعاطفه مع تلامذة متظاهرين.

من جهة أخرى، يغطي كتاب “قادة الصين”، بقلم ديفيد شامبو، تلك الفترة الزمنية الطويلة نفسها تقريباً، مع خمس مقالات عن ماو وخلفائه، وهم دينغ هسياو بينغ، وجيانغ زيمين، وهو جينتاو، وشي [جينبينغ]. ووفق ما يوضح شامبو بمهارة، يمثل الرئيس شي تحولاً حاداً بالمقارنة مع القادة الآخرين الذين حكموا بعد ماو. فمن خلال إنهاء الحكم الجماعي وتتويج نفسه زعيماً منفرداً، أعاد [شي] تجسيد الصين كدولة تكنو أوتوقراطية (بمعنى كون نظامها يمزج زعامة الفرد مع تركيز فائق على التكنولوجيا)، ونيو ماوية (تمثل الماوية الحديثة)، وشديدة المركزية. وقد ألقى شي العلاقات الأميركية الصينية في دوامة الهلاك، من خلال تحطيم حلم الانخراط، وهي فكرة تستند إلى فرضية أن زيادة التجارة والتبادل الأكاديمي وتفاعل المجتمع المدني والدبلوماسية، من شأنها كلها أن تمد جسور التواصل بين الصين والولايات المتحدة.

من زاوية أخرى، يصوغ كتاب “الحزب والشعب”، بقلم عالِم السياسة بروس ديكسون، كشفاً مفيداً عن نقاط القوة والضعف في الحزب، ما يمنح القراء فهماً أفضل عن فكرة التعددية في “الحزب الشيوعي الصيني” وكيف مكَّنته من أن يصبح الحزب الشيوعي الأطول حكماً في التاريخ. وعلى الرغم من أن إصلاحات دينغ [هسياو بينغ] الوافرة بدأت بالفعل في ثني المعدن اللينيني، فإن الصين تحت وصاية شي بدأت في العودة إلى شكلها الماوي القديم. لكنَّ الجديد في الأمر، وفق ما يسارع ديكسون إلى الإشارة، يتمثل في أن شرعية الحزب “لا تستند إلى موافقة المحكومين، بل قدرة الحزب في تحديث البلاد”.

وبالنتيجة، توضح تلك الروايات عن تاريخ “الحزب الشيوعي الصيني” كيف أن الأصوات المعارضة خارج الحزب قد جعلت نفسها مسموعة بشكل متكرر، وغيرت اتجاه الحزب. في الواقع، إن تقاليد التنوع تلك تبقى مشفرة في الحمض النووي السياسي للصين، كأنها جينات متنحية [بمعنى أنها تحمل صفات كامنة] جاهزة للتعبير عن نفسها في أي وقت. وبالتالي، ينبغي أن تدفع تلك التحوّلات المراقبين إلى تذكر أن موقف الصين في أي وقت من الأوقات، يشكل مجرد صورة جامدة عن تلك اللحظة وحدها، ولا ينبغي اعتباره أمراً ثابتاً على الإطلاق.

إذن، كيف يجب أن يفهم الغرباء هذا البلد الذي لا يكف عن التحول، ويفاجئ المحللين باستمرارٍ في فطنته التنموية غير العادية وكذلك عماه الذي يجعله يجرح نفسه؟ ثمة ما يسميه شامبو “برنامج التشغيل” الخاص بحكم شي، ويتضمن الشعور بأن الصين تخضع باستمرار لحصار من قبل أعداء داخليين وخارجيين، وكذلك يشمل التركيز الوطني على السرية، والرغبة في تنظيم كل شيء، وحملات “إعادة تعليم” و”تصحيح” لا نهاية لها، وإصرار على أن “الحزب يسيطر على السلاح” في جميع الأوقات. قبل كل شيء، بدلاً من الموافقة على الرأي القائل بأن البشر على غرار الأسواق، يكونون في أفضل حال إذا مُنحوا أكبر قدر ممكن من الحرية، يؤكد “الحزب الشيوعي الصيني” أن كل جانب من جوانب الحياة البشرية تقريباً قد يتطلب الإشراف والتدخل. وبحسب ديكسون، “لن يتسامح [الحزب] مع المطالب التي [سوف] تتحدى احتكاره السلطة”.

واستطراداً، يملك الاندفاع الداخلي المتجذِّر لدى “الحزب الشيوعي الصيني” للسيطرة والتقييد، تعبيراً موازياً عن نفسه في تفاعلات الصين مع العالم الخارجي. في حين أن ما يسمى بالقوة الناعمة يشكل شيئاً تنظر إليه معظم الدول الديمقراطية بوصفه نتيجة ثانوية مستقلة وطبيعية لأنشطتها الثقافية والاجتماعية، فإن “الحزب الشيوعي الصيني” ينظر إليها على أنها شيء يحتاج إلى إدارة حذرة، بل حتى التلفيق والتلاعب. وبهدف ترويج صورة الصين في الخارج، يحتفظ “الحزب الشيوعي الصيني” بأداة ضخمة جيدة التمويل، تتمثل في “إدارة عمل الجبهة المتحدة”، التي تدير حملات بروباغندا عالمية لمصلحة النسخة الاشتراكية الخاصة بالرئيس شي.

وتخضع سياسة التجارة الدولية في بكين لحوافز مماثلة. وتتمثل الحكمة الشائعة بين اقتصادات السوق في أن التجارة العالمية تعمل بشكل أفضل عندما تُترك بلا قيود، إلا عندما تخضع لإشراف مؤسسات كـ”منظمة التجارة العالمية”. ومع ذلك، في الصين، يرى “الحزب الشيوعي الصيني” أن التجارة سلاح يمكن استخدامه في كسب النفوذ والميزات الجغرافية الاستراتيجية.

واستكمالاً، تستعيد السياسات التجارية الأخيرة للصين استراتيجية اقتصادية اتبعتها ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية. في 1941، وصف الخبير الاقتصادي ألبرت هيرشمان برلين بأنها ليست تاجراً حراً ولا مؤيداً للحماية بل “تاجر قوّة” [بمعنى الربط بين التجارة وميزان القوى]. وأخيراً، كتب الخبير الاقتصادي روبرت أتكينسون، أن ألمانيا هتلر استخدمت التجارة العالمية “أداة رئيسة في اكتساب تفوق تجاري وعسكري على خصومها”، محولة “التجارة الخارجية إلى أداة للقوة والضغط وحتى الغزو”، بهدف إحداث “تدهور في اقتصادات خصومها، حتى لو فرض ذلك تكاليف على اقتصادها”. ويجادل أتكينسون بأن الصين أصبحت اليوم مجرد تاجر قوة، ساعية إلى جعل نفسها سوقاً مهمة في تصدير المواد الخام إلى درجة تجعل الآخرين “دولاً تابعة خاضعة، تشعر بالقلق من إيقاف الصين صادراتها في أي وقت”.

وقد أثبتت بكين ميلها لأن تكون شريكاً تجارياً انتقامياً وعقابياً. إذ قطعت صادرات السلمون النرويجي عقب فوز المنشق ليو شياوبو بجائزة نوبل للسلام. وأغلقت المتاجر التي تديرها سلسلة “لوت” Lotte الكورية الجنوبية، وأوقفت السياحة وتبادلات “كيه بوب” بعد أن قبلت سيول نظام دفاع صاروخي من الولايات المتحدة؛ وحظرت الصادرات الكندية حينما ألقي القبض على المدير المالي لشركة الاتصالات الصينية “هواوي” في فانكوفر، وكذلك فرضت رسوماً جمركية على صادرات النبيذ والقطن والشعير الأسترالية، حينما حثت كانبيرا “منظمة الصحة العالمية” على دراسة الأصول الصينية لوباء كورونا؛ وفرضت عقوبات على مركز بحوث ودراسات مقره برلين وعلى أعضاء في البرلمان الأوروبي، بعد انتقادهم معاملة الصين سكانها من الأويغور.

وبحسب كتاب أتكينسون، ليست الصين مجرد تاجر آخر يسعى إلى أسواق أكبر ومزيد من الأرباح، بل إنها قوة استبدادية تحشد طاقاتها كي تصبح قوة مهيمنة عالمية. ووفق ما أعلن شي بنفسه، “مسؤوليتنا هي التوحيد… والعمل من أجل تحقيق التجديد العظيم للأمة الصينية كي يتاح لها الوقوف بمزيد من القوة والحزم بين جميع الدول في جميع أنحاء العالم”. إذا كان أتكينسون على حق، فإن العالم لا يواجه قوة تجارية وتكنولوجية وصناعية واقتصادية وعسكرية جديدة هائلة فحسب، بل أيضاً دولة مستعدة لنشر كل تلك القوى كي تجعل العالم مكاناً أكثر أماناً للأوتوقراطية التي تعتمدها.

جدلية بكين

يعتقد الفيلسوف الألماني هيغل أن التاريخ له حركة تقدمية لا هوادة فيها. واستعار كارل ماركس تلك الفكرة، فخلص إلى أن التاريخ سيوصلنا حتماً إلى الاشتراكية العالمية. في الحقيقة، وقع عدد من المفكرين الغربيين في أسْر غائية [بمعنى فكرة أن الأشياء كلها محكومة بأن تسير نحو تحقيق شيء يشكل غاية لها] مماثلة، معتقدين أن التاريخ يتحرك بشكل لا مفر منه نحو مزيد من الحرية والديمقراطية.

وقد أطلق مارتن لوثر كينغ الابن علناً كلماته الشهيرة “قوس الكون الأخلاقي طويل، لكنه يميل صوب العدالة”. وكذلك أخبر الرئيس الأميركي رونالد ريغان البرلمان البريطاني أن الماركسية اللينينية متجهة إلى “مزبلة التاريخ”. وأشار الرئيس بيل كلينتون في مرات عدة إلى الدول الاستبدادية، مشيراً في العادة إلى الصين، على أنها “تقف في الجانب الخطأ من التاريخ”. وكذلك توقع الرئيس باراك أوباما النصر في الحرب على الإرهاب “لأننا في الجانب الصحيح من التاريخ”. حتى أنه طلب صنع بساط للمكتب البيضاوي نُسجت فيه مقولة كينغ.

ولكن هل أخطأ هؤلاء الأميركيون المثاليون في تحديد اتجاه التاريخ؟ هل للتاريخ اتجاه أيّاً كان؟ مع غرق الولايات المتحدة في الاحتجاجات العرقية وعمليات إطلاق النار الجماعية، ومع اقتحام اليمينيين الشعبويين مبنى الكابيتول الأميركي، ورفض المحافظين الأميركيين التطعيمات ضد فيروس كورونا باسم الحرية، هل يمكن أن ينتهي التاريخ بتفضيل رأسمالية شي اللينينية الديناميكية، بدلاً من الحرية والديمقراطية؟

بالاختصار، لا يدعي مؤلفو تلك الكتب المئوية الثلاثة القدرة على التنبؤ بنوايا التاريخ [أو ما يضمره ويسعى إليه] . ومع ذلك، تعطي بعض الشخصيات التي يكتبون عنها سبباً للاعتقاد بأن التاريخ حتى لو كان يفتقر إلى الاتجاه، فإنه ينحو إلى التغيير بدلاً من الثبات. وتظهر ملفات تلك الشخصيات أن ملحمة الصين الشيوعية تمزقها قوى متصارعة، وأيديولوجيات متصادمة، وفصائل متنافسة، ورؤى متضاربة. وعلى الرغم من أن نظام الحزب الواحد الذي أورثه ستالين بكين لم يخضع إلى تغيير جوهري منذ 1921، فإن الحياة الموصوفة في تلك الكتب الثلاثة ساهمت في تأرجح السياسة الصينية بين أقطاب متعارضة منذ نهاية النظام الإمبراطوري القديم. وبالضبط، تشكل تلك الحالة المتقلبة باستمرار وغير المحسومة، كل ما يجعل بكين غير قابلة للتنبؤ.

إن الضوابط الاجتماعية الصارمة في الصين اليوم، والبنية التحتية المثيرة للإعجاب، والاقتصاد الديناميكي، والجيش ذا الطابع العصري، قد تضفي مظهر أمة منظمة جيداً، وواثقة لا تقهر، متحدة حول زعيم غير قابل للتحدي وحزب موحد. ولا ينبغي صرف النظر عن نجاحاتها. ولكن إذا أخذنا في الاعتبار تاريخ الحزب في صراع الأشقاء، والتركيز على السيطرة، والهوس بالاحتفال، وجنون البروباغندا، تظهر صورة مختلفة عن نظام غير مستقر ويفتقر إلى الثقة بالنفس لدرجة أن قادته يحتاجون إلى الحفاظ على محاكاة باهظة الثمن للعظمة الوطنية من أجل الإيمان ببراعتهم الحقيقية. أياً كان هدف التاريخ، فمن غير المرجح أن تكون حالته النهائية الحتمية من النوع التكنو أوتوقراطي والنيو ماوي غير الآمن، الذي يحتاج إلى سيطرة الدولة ودبلوماسية “الذئب المحارب” في تأكيد عظمته. إذ يتعارض ذلك النظام الخاضع لتحكم صارم، والهش، والعدواني مع أحد أقوى الدوافع البشرية الحديثة المتمثل في التمتع بأكبر قدر ممكن من الحرية ضمن قيود سياق مجتمعي معين. من الصعب أن نتخيل أن نسخة شي من الحزب الشيوعي الصيني قد تصبح مريحة، للحزب بحد ذاته أو لشعبه المضطرب، لدرجة تسمح للمواطنين الصينيين بحصة مهمة من الحرية السياسية والاستقلال.

إضافة إلى ذلك، فقد أدت تحديات كبرى مراراً وتكراراً إلى تقشير الطلاء المجمل الذي يغطي واجهة الصين الشيوعية، مع انكشاف اللب المنصهر تحته. والمقال الأخير [في عدد مجلة “فورين أفيرز” عن الصين] كتبته كاي شيا، الأستاذة السابقة في المدرسة المركزية للحزب الشيوعي، ليس سوى مثل واحد. وقد كتبت بصراحة، “شي لم يكن مُصلحاً. خلال فترة ولايته، انحدر النظام أكثر إلى حكم الأقلية السياسية المصممة على التمسك بالسلطة من خلال الوحشية والقسوة. بل أصبحت أكثر قمعية وديكتاتورية”. بعد انفصال كاي عن الحزب الشيوعي الصيني، طورِدَتْ في المنفى

)

في سياق متصل، تبرز الخطابات السريعة والقاطعة من أستاذ القانون في “جامعة تسينغهوا”، شو زانغرون، الذي انتقد شي بسبب سوء تعامله مع تفشي وباء كورونا وإحياء حكم ماو من خلال تأليه الزعيم. وقد صرخ شو، “كفى للحملات المتعفنة التي تشجع تقديس الزعيم وعبادته. كفى للأكاذيب الوحشية والآلام التي لا تنتهي؛ كفى للسلالة الحاكمة الحمراء التي تمتص الدماء ودولة الحزب الواحد الجشعة؛ كفى للسياسات والممارسات السخيفة في محاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء على مدى السنوات السبع الماضية؛ كفى لجبال الأجساد وبحار الدماء الناتجة عن الاستبداد الأحمر على مدى السبعين عاماً الماضية”. بعد ذلك، صُرِفَ شو من منصبه الجامعي من دون سابق إنذار.

وفي فصل الربيع، عبر رئيس الوزراء السابق، وين جياباو، بوضوح في ذكرى وفاة والدته في صحيفة “ماكاو هيرالد” الغامضة، واصفاً اضطهاد والده خلال الثورة الثقافية. وكتب، “لقد تعرض في كثير من الأحيان (للاستجواب) والضرب الهمجي. في رأيي، ينبغي أن تكون الصين دولة مملوءة بالإنصاف والعدالة. يجب أن يكون هناك احترام لإرادة الناس والإنسانية وطبيعة البشر دائماً”. ولكن، سرعان ما عمدت الجهات المسؤولة عن الرقابة على الإنترنت، إلى إزالة نقده غير المباشر.

العدو الأسوأ لنفسه

يشير الظهور المستمر لمثل تلك الأصوات المتضاربة خلال تاريخ الصين الشيوعي، إلى أن السيطرة السياسية والنمو الاقتصادي والبنية التحتية وحدها لا تصنع بالضرورة دولة مستدامة. ما المفقود؟ يتمثل المفقود في تلك الأشياء الموجودة ضمن العالم الذي أطلق عليه الاقتصادي آدم سميث اسم “المشاعر الأخلاقية”. من تلك الوجهة، يبقى القرن المذهل من التقدم في الصين هو الأشد تخلفاً والأقل اكتمالاً والأكثر هشاشة.

وبحسب ما تُظهر بعض الشخصيات المذكورة في “الحزب الشيوعي الصيني”، تملك الصين تقليداً تاريخياً طويلاً من النزعة الإنسانية والإصلاح، وقد أخمد الحزب صوته الآن. ووفق ما حذر شي منه أخيراً، “إن كل أعمال وسائل الإعلام التابعة للحزب يجب أن تعكس إرادة الحزب، وتحمي سلطة الحزب، وتحافظ على وحدة الحزب. يجب أن تحب الحزب، وتحميه، وتتماشى بشكل وثيق مع قيادة الحزب في الفكر والسياسة والعمل”.

واستطراداً، فعلى الرغم من أن شامبو يشير إلى أن “شي جينبينغ قد أطلق العنان لعهد مستمر من القمع والضوابط الشاملة على الصين لم نشهده منذ الحقبة الماوية”، فإن ديكسون يحث المراقبين على عدم السماح لقمع بكين بأن يَحول دون رؤية الطرق التي استجاب بها الحزب. إذ يعترف أنه “ليس ثمة شك في أن (الحزب الشيوعي الصيني) يستخدم القمع ضد أعدائه المعروفين”. ثم يضيف، “لكنه يستخدم أيضاً أدوات أخرى في خلق دعم شعبي، تشمل حدوث ازدهار متزايد واعتزاز وطني، وحتى الاستجابة للرأي العام ضمن درجات متفاوتة”. في المقابل، نَصَحَ كُتاب “الحزب الشيوعي الصيني” أنه بسبب “خطورة استفزاز الحزب”، يجب على الآخرين فعل “كل ما في وسعهم للحؤول دون تحول الصين عدواً لدوداً”. قد يكون هذا [هذه الخلاصة] صحيحاً، لكن ما لم تكن تلك الجهود متبادلة، فلن يكون لها سوى أمل ضئيل في النجاح.

بصورة إجمالية، تترك تلك الكتب الأكاديمية لدى القارئ احتراماً للتقدم المادي الصيني، لكن مع شعور عميق بالخطر من المعدات الاستبدادية الصدامية التي وضع الرئيس شي بلاده قيد قبضتها الآن. وكذلك يثير حكمه الإمبراطوري سؤالاً بشأن تلك الأعمال. هل تستطيع الصين الاستمرار في التماسك والتقدم من دون جوهر أخلاقي إنساني؟ ونظراً إلى افتقارها إلى هذا المكون الأساسي، أصبحت الصين تجربة عملاقة في مجال العلوم الاجتماعية. وربما نجح “الحزب الشيوعي الصيني” في إتقان نموذج تطور جديد لا يتطلب قيماً جذّابة كالحرية والعدالة والاستقلال. في المقابل، يشير التاريخ الحديث إلى أن غياب تلك العناصر يمكن أن يعرض البلد للخطر. والدليل على ذلك [مآل] إيطاليا الفاشية وألمانيا، واليابان الإمبراطورية، وإسبانيا الفرانكوية، وإيران الثيوقراطية، والاتحاد السوفياتي. ومع ذلك، على الرغم من أن الحزب الشيوعي الصيني يفتقر إلى التزام مبادئ إنسانية كتلك، فإنه يحتفل الآن بالذكرى المئوية لتأسيسه. هل يمكن أن يكون الصينيون مختلفين عن الآخرين، خصوصاً أولئك في الغرب؟ ربما، بحسب ما يرى بعض الأشخاص، سيشعر المواطنون الصينيون بالرضا لاكتساب الثروة والسلطة وحدهما، من دون تلك الجوانب من الحياة التي اعتبرتها المجتمعات الأخرى بشكل عام أساسية كي يكون الإنسان إنساناً، يبدو مثل هذا الافتراض غير واقعي، إضافة إلى كونه متعالياً. في النهاية، من المحتمل أن يكون الشعب الصيني مختلفاً قليلاً عن الكنديين والتشيكيين واليابانيين والكوريين في تطلعاته. ولكن، لمجرد أن الذين خارج الصين لا يمكنهم رؤية أو سماع تعبير أكثر إشراقاً عن القيم العالمية في الوقت الحاضر [يأتي من الصين]، لا يعني أن تلك الرغبات غير موجودة. صحيح أنها رغبات ساكنة في الوقت الحاضر، لكنها ظهرت مراراً وتكراراً في الماضي، ولا بد أن تعاود الظهور في المستقبل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

15 + 11 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube