https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

المؤلفة : ماري فافيرو

يقدم كتاب “الخانية: كيف غير المغول العالم” لمحة عن الطبيعة البدوية للمغول الرحل الذين قطعوا مسافات شاسعة وبنوا مجتمعات متطورة، في السهوب الغربية الأوراسية، التي أصبحت واحدة من حضارات العصور الوسطى في المنطقة.

يشتهر المغول على نطاق واسع بشيء واحد وهو “الغزو”، لكن البدو الرحل الذين تمردوا على تهميشهم في التاريخ قدموا للعالم ما هو أكثر بكثير من الغزو والدمار، إذ يقول كتاب جديد إننا نعيش في عالم حديث موروث من لحظة المغول.

يكشف كتاب “الخانية: كيف غير المغول العالم” -الصادر عام 2021 للمؤرخة الفرنسية ماري فافيرو- أن إنجازات المغول امتدت إلى ما هو أبعد من الحرب. فلمدة 300 عام، لم يكن المغول أقل قوة في التنمية العالمية مما كانت عليه روما، لقد تركوا وراءهم إرثا عميقا في أوروبا وروسيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، ولا يزال ملموسًا حتى يومنا هذا.

تأخذنا فافيرو -الحاصلة على دكتوراه في التاريخ من جامعة السوربون- لاستكشاف أحد أقوى مصادر التكامل عبر الحدود في تاريخ العالم.

كانت “الخانية المغولية” هي العقدة المركزية في الازدهار التجاري الأوراسي (أوروبا وآسيا) في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وكانت قناة للتبادلات الفكرية والتجارية عبر آلاف الأميال.

وبنظامهم السياسي الفريد -وهو ترتيب معقد لتقاسم السلطة بين الخان والنبلاء- تمت مكافئة الإداريين والدبلوماسيين الماهرين، وتعزز نظام اقتصادي حيوي ومنظم ومبتكر.

من ساراي -عاصمة القبيلة الذهبية والمملكة المغولية- التي وصفها ابن خلدون بأنها من أجمل المدن “مليئة بالناس، والبازارات الجميلة والشوارع الواسعة”، والتي تقع على نهر الفولغا السفلي في جنوب روسيا الحالية، قدمت الخانية المغولية نموذج حكم لروسيا، وأثرت على الممارسات الاجتماعية وهيكل الدولة عبر الثقافات الإسلامية، وقدمت نظريات وأفكار حول العالم الطبيعي، ونموذجا للتسامح الديني، وحكمت معظم روسيا وكذلك أجزاء من سيبيريا والبلقان وشمال آسيا الوسطى والقوقاز.

يقدم الكتاب ملخصًا لتأسيس الإمبراطورية المغولية، وشكلها شبه الدستوري الفريد من الحكم، والتوسع الذي حمل الخانية ورعاياها من البدو الرحل بعيدًا عن وطنهم، معتبرا أنها الإمبراطورية الوحيدة التي توسعت بشكل هائل بهذه السرعة، على الرغم من القاعدة السكانية الصغيرة للمغول وحلفائهم الرحل مقارنة بالسكان الذين غزوهم. ويستعرض الكتاب كذلك تقسيم الإمبراطورية إلى خانات فرعية مستقلة في البداية ثم إلى دول مستقلة تمامًا ومعادية لبعضها بعضا في أحيان كثيرة.

خانية القبيلة الذهبية

و”خانية القبيلة الذهبية” هي إحدى خانيات إمبراطورية المغول، وحكمت الجزء الشمالي الغربي من أراضيها، وأسسها باتو بن جوجي بن جنكيز خان وحكمت مناطق واسعة من بلاد القفجاق والبلقار (الصقالبة) والغولغا وحتى حدود إيران وآسيا الصغرى، واعتنق مغول القبيلة الذهبية الإسلام منذ عهد بركة خان (شقيق باتو) وأخذت الخانية موقعها لتكون دولة إسلامية ذات علاقات ودية مع المماليك في مصر والشام، على النقيض من المغول الإيلخانيين في فارس.

ويأتي الكتاب ضمن محاولات غربية متزايدة لكتابة تاريخ أكثر شمولا للمغول وخاصة “القبيلة الذهبية” التي حكمت مساحات شاسعة من روسيا وآسيا الوسطى بين منتصف القرن الثالث عشر ومطلع القرن السادس عشر، على خلاف الصورة النمطية السائدة عن المغول التي تنسب “الاستبداد الشرقي” للسابقة المغولية الوحشية، وهي صورة لم يتجنبها كثير من الباحثين الذين غفلوا عن المرونة والقابلية العالية للتكيف التي ميزت حكم القبيلة الذهبية ضمن مزيج من التعددية المجتمعية والمؤسسات المغولية الخالصة.

يؤكد الكتاب على الطبيعة البدوية للمغول الرحل الذين قطعوا مسافات شاسعة وبنوا مجتمعات متطورة، في السهوب الغربية الأوراسية، التي أصبحت واحدة من حضارات العصور الوسطى في المنطقة.

ويناقش الكتاب مزايا القوة الجماعية البدوية في الجغرافيا السياسية والتجارة، وكيف يمكن أن تتولد الإمبراطوريات من شعوب ودول متحركة، وليس فقط من القوى المستقرة والإمبراطوريات الاستعمارية المرتبطة عادة بالعصر الأوروبي.

يُظهر الكتاب بشكل قاطع أن “الرعي ليس مرحلة بدائية على طريق التحديث”، ولكنه أسلوب حياة مختلف تمامًا نجحت فيه بجدارة الإمبراطورية المغولية عبر ديناميكيات التكيف والتجارة والدبلوماسية. كما خلص إلى أن النجاح الإمبراطوري المغولي لم يحدث على الرغم من كونهم قبائل بدوية وإنما تحديدا بسبب ذلك، بحسب المؤلفة التي عملت في مشروع جامعة أكسفورد البحثي “الإمبراطوريات البدوية: منظور تاريخي عالمي”.

وتجنب الكتاب الإشارة لتأثيرات الثقافة التركية على القبيلة الذهبية؛ إذ ارتبطت بعض تلك التحولات بالتحول اللغوي والثقافي وظهرت بعض الخانيات الناطقة باللغة التركية في حواضر مدنية مهمة، مثل أستراخان وقازان والقرم، وشكلت تحديا لدوقية موسكو في القرن الخامس عشر.

وشكل الصراع بين خانية القبيلة الذهبية والقبائل المغولية الأخرى ضغطا هائلا على الخانية التي كانت في تنافس وصراع مستمر مع الجيوش الروسية، وتعرضت الخانية لغزوات تيمورلنك المدمرة التي زعزعت كيانها، بينما توثب الروس للانعتاق من هيمنة الخانية الذهبية في نهاية القرن الرابع عشر، ليستمر الترابط بين تاريخ خانية القبيلة الذهبية والمواجهة مع الروس حتى تفكك الخانية وانقسامها وسقوط آخر بقاياها (خانيتي القرم والقازاق) عامي 1783 و1847م على التوالي.

ولا يزال تتار الفولغا والقرم وليبكا (في ليتوانيا وبولندا) شاهدا على حركة تلك الشعوب الآسيوية المستمرة، بالإضافة لآثار ثقافية خلفوها في بلاد آسيا الوسطى وشرق أوروبا.

التبادل المغولي

وتحلل المؤلفة فكرة “التبادل المغولي” أي التقاء الناس والسلع والأفكار في المجالين الآسيوي والأوروبي على تخوم الخانية المغولية، وتعتبر أن القبيلة الذهبية أسست نظاما ديناميكيا من الناحية الاقتصادية، وشكلت مؤسسات سياسية متطورة اجتمع فيها أفراد النخبة وشاركت فيها النساء، وأعادت توزيع الثروة والتقاسم المجتمعي للموارد مع حد أدنى من التدخل في العادات المحلية والترحيب بالناس الراغبين في الاستقرار في بلادهم من جميع الأديان والخلفيات ما دام الشخص يدفع الضرائب ويحترم القوانين ويفي بالالتزامات.

كان مسؤولو القبيلة الذهبية إداريين واقتصاديين ناجحين، انتهجوا سياسات لتعزيز عائدات التجارة وأنشؤوا مدنا وأسواقا وطرق تجارة ذات معدلات ضريبية منخفضة وضمانات للأمن على طول طرق نهري الفولغا ودون، وهو ما حول أراضيهم لمنطقة تجارة عالمية تبادل فيها التجار سلعهم وبضائعهم من جنوة والبندقية ومن اليونانيين والأرمن والعرب والروس وآسيا الوسطى والصين وحتى أوروبا الغربية.

ويقول الكتاب إن الخانية المغولية -بالنظام الذي جلبته إلى أوروبا الشرقية وغرب آسيا- عززت سوقا متكاملة تشمل المدن الساحلية مثل دول المدن الإيطالية والقسطنطينية وحواضر العالم الإسلامي، مما مكن التجار من السفر من نهر الفولغا إلى النيل حيث حلفاؤهم المماليك.

كان هذا “التبادل المغولي” وقتا مناسبا لتطوير البنية التحتية، والنظام النقدي في تلك المنطقة من العالم مما سمح بتوسيع الآفاق الاقتصادية وتطوير “الطريق الشمالي” (أحد الطرق البرية الرئيسية لطريق الحرير) الذي يمتد من سهول الدانوب الأوروبية إلى المناطق النائية القريبة من بكين حاليا.

لكن، لسوء الحظ، أدى التبادل المغولي وتوسع التجارة إلى انتشار الطاعون في منتصف القرن الرابع عشر، وهو ما أضعف الإمبراطورية القوية وفكك شبكات التجارة، وجاءت الانتكاسة الكبرى نتيجة الحروب الداخلية بين القبائل المغولية المتنازعة على الشرعية، قبل أن يكتسح الروس أراضي المغول. ولكن -بحسب المؤلفة المختصة بتاريخ القبيلة الذهبية- “من المستحيل تخيل روسيا الحديثة بدون التأثير المغولي”. ويخلص الكتاب إلى أن الرعي ليس مرحلة بدائية في طريق التمدن وإنما خيار مختلف “مكن القبيلة الذهبية من تشكيل كيان إمبراطوري فريد لا يحاكي أي نموذج مستقر” مما شكل مقدمة لا غنى عنها للعولمة الحديثة والنظام الاقتصادي والسياسي المعاصر. الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × واحد =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube