( الجزيرة ) محمود عبد الهادي
تنظر إستراتيجية إدارة الرئيس بايدن للأمن القومي الأميركي إلى الصين وروسيا باعتبارهما نظامين استبداديين يرفضان القيم الديمقراطية ويشكلان تحديا للسلام والاستقرار الدوليين، وتعتبران أن نجاح نظام دولي حر ومفتوح وقائم على القواعد يشكل تهديدا لأنظمتهما ويخنق طموحاتهما، لذا فإنهما تسعيان الآن إلى إعادة بناء النظام الدولي بما يتناسب مع غاياتهما الشخصية وسلوكياتهما القمعية والاستبدادية، ومع ذلك ترى الإستراتيجية أن لدى الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها فرصة لتشكيل الصين والبيئة الخارجية لروسيا بطريقة تؤثر على سلوكهما حتى عندما يتنافسون معهما.
ظلت الصين وروسيا حاضرتين دوما في إستراتيجيات الأمن القومي الأميركي باعتبارهما شريكين وحليفين أساسيين يتم العمل على تطوير أوجه التعاون السياسي والاقتصادي والتكنولوجي معهما بصورة مستمرة، لكن الوضع تغير 180 درجة اعتبارا من إستراتيجية إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب ومن بعده إدارة الرئيس بايدن، حيث تبدلت النظرة تماما للدولتين باعتبارهما تشكلان خطرا مباشرا يهدد أمن الولايات المتحدة وهيمنتها الدولية
تبدل الموقف الأميركي من الصين وروسيا
وفقا لموقع وزارة الدفاع الأميركية بدأ العمل على إعداد إستراتيجية الأمن القومي الأميركي “إن إس إس” (NSS) اعتبارا من عام 1987 في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان بموجب قانون إعادة تنظيم وزارة الدفاع لعام 1986، بهدف إرسالها من الرئيس إلى الكونغرس لعرض رؤية الأمن القومي للسلطة التنفيذية إلى السلطة التشريعية، حيث تتيح الإستراتيجية مناقشة الاستخدامات المقترحة لجميع جوانب القوة الأميركية اللازمة لتحقيق الأهداف الأمنية للولايات المتحدة، وقد تم إعداد 18 إستراتيجية للأمن القومي منذ صدور القرار وحتى الآن.
ومنذ عهد الرئيس ريغان وحتى نهاية عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون التزم الرؤساء بتقديمها سنويا في معظم السنوات لكنها أصبحت دورية كل 4 سنوات اعتبارا من عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن بدءا من عام 2002.
ومنذ بدء العمل بإعداد هذه الإستراتيجيات كانت الصين وروسيا حاضرتين دوما باعتبارهما شريكين وحليفين أساسيين يتم العمل على تطوير أوجه التعاون السياسي والاقتصادي والتكنولوجي معهما بصورة مستمرة عن طريق اللقاءات القيادية واللجان والهيئات المختصة والاتفاقيات الدولية، لكن الوضع تغير 180 درجة اعتبارا من إستراتيجية إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب الصادرة في ديسمبر/كانون الأول 2017، حيث تبدلت النظرة تماما للدولتين باعتبارهما تشكلان خطرا مباشرا يهدد أمن الولايات المتحدة وهيمنتها الدولية، خاصة التهديد الصيني، وقد جاء هذا التحول في إستراتيجية إدارة الرئيس ترامب ومن بعده إدارة الرئيس بايدن انسجاما مع تقارير وزارة الدفاع الأميركية على مدى السنوات الخمس الماضية بقيادتيها الجمهورية والديمقراطية حول التهديد العسكري والأمني والتكنولوجي والاقتصادي الذي باتت تشكله الصين للولايات المتحدة، ومن بعدها روسيا.
تحدي الصين الخارجة عن المنافسة
تصف الإستراتيجية الصين بأنها المنافس الوحيد الذي لديه نية لإعادة تشكيل النظام الدولي، وأنها تواصل زيادة قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق هذا الهدف، لتخرج بذلك عن المنافسة التقليدية التي تنادي بها الولايات المتحدة في سوق المصالح الاقتصادية المختلفة.
وحددت الإستراتيجية 3 جوانب لاحتواء الصين تتمثل في ما يأتي:
الاستثمار في أسس القوة الوطنية: التنافسية، الابتكار، المرونة والديمقراطية.
المواءمة مع شبكة الحلفاء والشركاء، والعمل المشترك لتحقيق الهدف المشترك.
التنافس بمسؤولية مع الصين في المجالات التكنولوجية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والاستخباراتية والحوكمة العالمية.
وأوضحت الإستراتيجية أن المنافسة مع الصين ستكون أكثر وضوحا في منطقة المحيطين الهندي والهادي، ولكن هذه المنافسة كذلك عالمية بشكل متزايد، حيث يدور السباق حول العالم لكتابة قواعد الطريق، وتشكيل العلاقات التي تحكم الشؤون العالمية.
وشددت الإستراتيجية على أن المنافسة مع الصين ستجعل السنوات العشر القادمة العقد الحاسم، وأن الولايات المتحدة الآن تقف عند نقطة انعطاف، وأن الخيارات التي ستتخذها الولايات المتحدة والأولويات التي ستتبعها اليوم ستحدد موقعها التنافسي لفترة طويلة في المستقبل.
ورغم هذا الموقع المتصدر الذي تحتله الصين بين التحديات التي تواجه الولايات المتحدة فإنه غاب عن الإستراتيجية تصعيد القوة ضد الصين، هذا التصعيد الذي غلب على تصريحات الرئيس بايدن العام الماضي ورافق زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بلوسي لتايوان في أغسطس/آب الماضي، فقد عملت الإستراتيجية على احتواء التصعيد وتغليب اللغة الدبلوماسية بالعودة إلى التأكيد على التزام الولايات المتحدة بسياسة الصين الواحدة التي لا تؤيد استقلال تايوان، ولكن مع التأكيد على التزامها كذلك بقانون العلاقات مع تايوان لدعم الدفاع عن النفس، ومقاومة أي لجوء صيني إلى القوة أو الإكراه ضد تايوان.
هذا الموقف أوقع الإدارة الأميركية في تناقض واضح تجاه صدق نواياها مع الصين، إذ إن الإقرار بالصين الواحدة يعني أن تايوان جزء من الصين، وأن من حق الصين بسط سيادتها الكاملة عليها، وهذا الموقف الأميركي سيظل يعزز شكوك الصين تجاه الولايات المتحدة، وسيبقي جذور التوتر قائمة ومتفاعلة بصورة لن تنجح معها الإستراتيجية الدبلوماسية التي تتحدث عنها الإدارة الأميركية، خصوصا وهي تصر على التدخل في شؤون مناطق تعترف أساسا بأنها جزء من الصين، إنه أمر يتناقض مع القانون الدولي، وسيبقى الأمر بمثابة قنبلة مرعبة موقوتة تنتظر الانفجار في أي لحظة، في أجواء احتدام التنافس العسكري بين الدولتين.
ومرة أخرى تغلّب الولايات المتحدة مصالحها على مبادئها وقيمها الديمقراطية حين تنص الإستراتيجية على “سنكون دائما على استعداد للعمل مع الصين حيث تتوافق مصالحنا، لا يمكننا أن ندع الخلافات التي تفرقنا تمنعنا من المضي قدما في الأولويات التي تتطلب أن نعمل معا من أجل مصلحة شعبنا ومصلحة العالم”.
وعادت الإستراتيجية لتكرر تناقضات الولايات المتحدة من جديد بقولها “سوف نتعامل بشكل بنّاء مع جمهورية الصين الشعبية حيثما استطعنا، ليس كخدمة لنا أو لأي شخص آخر، وليس مقابل الابتعاد عن مبادئنا، ولكن لأن العمل معا لحل التحديات الكبيرة هو ما يتوقعه العالم”، فكيف تتعامل الولايات المتحدة مع الصين المستبدة وتقيم معها مصالح متبادلة دون القفز على مبادئها وقيمها؟!
سعت الإستراتيجية إلى احتواء التصعيد وتغليب اللغة الدبلوماسية مع الصين بالعودة إلى التأكيد على الالتزام بسياسة الصين الواحدة، ولكنها تؤكد كذلك على التزامها بدعم تايوان للدفاع عن النفس ضد أي لجوء صيني للقوة ضد تايوان، وهو تناقض واضح تجاه صدق نوايا الولايات المتحدة مع الصين، إذ إن الإقرار بالصين الواحدة يعني أن تايوان جزء من الصين وأن من حق الصين بسط سيادتها الكاملة عليها
في مواجهة روسيا الجامحة
ترى الإستراتيجية أن روسيا في العقد الماضي اختارت اتباع سياسة إمبريالية جامحة بهدف قلب العناصر الأساسية للنظام الدولي، وبلغ هذا ذروته في غزو واسع النطاق لأوكرانيا في محاولة للإطاحة بحكومتها وإخضاعها للسيطرة الروسية، إضافة إلى تدخلاتها في سوريا وقيامها بزعزعة استقرار جيرانها ومحاولاتها الصارخة لتقويض العمليات الديمقراطية الداخلية في بلدان عبر أوروبا وآسيا الوسطى وحول العالم، وتدخلها بوقاحة في السياسة الأميركية وقيامها بالعمل على زرع الانقسامات بين الشعب الأميركي، فضلا عن انتهاكها حقوق الإنسان داخل روسيا وقمع المعارضة وإغلاق وسائل الإعلام المستقلة.
وتذكر الإستراتيجية أن الولايات المتحدة على مدى الإدارات المتعاقبة بذلت جهودا كبيرة للحد من التنافس بينها وبين روسيا، لكن الرئيس بوتين رفض هذه الجهود وأصبح واضحا الآن أنه لن يتغير، وأصبحت روسيا بقيادته تشكل تهديدا مباشرا ومستمرا للسلم والاستقرار الدوليين، مشيرة إلى أن هذا التهديد لا يتعلق بالصراع بين الغرب وروسيا وإنما يتعلق بالمبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة، وروسيا طرف فيه، ولا سيما احترام السيادة وسلامة الأراضي وحظر الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحرب، وهو ما لا تلتزم روسيا بوتين به.
ومن هنا تبرر الإستراتيجية قيام الولايات المتحدة بقيادة استجابة موحدة ومبدئية وحازمة على الغزو الروسي، وحشدها العالم لدعم الشعب الأوكراني ليدافع عن بلاده، فتم تشكيل تحالف دولي واسع ودائم، وتنظيم مستويات شبه قياسية من المساعدات الأمنية والعسكرية والإنسانية والاقتصادية والتنموية لتقوية الحكومة الأوكرانية ومساعدة ملايين اللاجئين الذين أجبروا على الفرار من ديارهم.
وأشارت الإستراتيجية إلى أن الولايات المتحدة تعمل مع حلفائها وشركائها لجعل حرب روسيا على أوكرانيا تفشل فشلا إستراتيجيا، وأن الناتو اتحد مع الاتحاد الأوروبي في مواجهة روسيا والدفاع عن القيم المشتركة.
وترى الإستراتيجية أن حرب بوتين أدت إلى تقليص مكانة روسيا بشكل كبير في مواجهة الصين والقوى الآسيوية الأخرى مثل الهند واليابان، وأن الرد العالمي التاريخي على حرب روسيا يبعث ضد أوكرانيا رسالة مدوية مفادها أن البلدان لا يمكنها التمتع بفوائد التكامل العالمي فيما تدوس على المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة، وهذا يتناقض أيضا مع تصرفات الولايات المتحدة التي داست فيها على ميثاق الأمم المتحدة في العراق وأفغانستان، وفي دعم دولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين.
وحددت الإستراتيجية المنهج التالي للتعامل مع الحرب الروسية على أوكرانيا:
ستواصل الولايات المتحدة دعم أوكرانيا في كفاحها من أجل حريتها، وستساعدها على التعافي اقتصاديا، وتشجع اندماجها الإقليمي مع الاتحاد الأوروبي.
ستدافع الولايات المتحدة عن كل شبر من أراضي الناتو، وستواصل بناء وتعميق تحالف مع الحلفاء والشركاء لمنع روسيا من التسبب في مزيد من الضرر للأمن والديمقراطية والمؤسسات الأوروبية.
ستردع الولايات المتحدة وعند الضرورة سترد على الإجراءات الروسية التي تهدد المصالح الأميركية الأساسية، بما في ذلك الهجمات الروسية على البنية التحتية والديمقراطية.
سيكون الجيش الروسي التقليدي قد أُضعف، مما سيزيد -على الأرجح- اعتماد موسكو على الأسلحة النووية في تخطيطها العسكري، ولن تسمح الولايات المتحدة لروسيا أو لأي قوة أخرى بتحقيق أهدافها عن طريق استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها.
ستدعم الولايات المتحدة وتطور أنماطا براغماتية للتفاعل مع القضايا التي قد يكون التعامل مع روسيا بشأنها مفيدا للطرفين.
تقر إستراتيجية بايدن للأمن القومي الأميركي بأن الصين تمثل التحدي الجيوسياسي الأكثر أهمية للولايات المتحدة، فيما تشكل روسيا تهديدا فوريا ومستمرا لنظام الأمن الإقليمي في أوروبا، وهي مصدر اضطراب وعدم استقرار في العالم، لكنها تفتقر إلى القدرات الشاملة لجمهورية الصين الشعبية، ورغم أن الإستراتيجية تذكر أن لدى الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها فرصة لتشكيل الصين والبيئة الخارجية لروسيا بطريقة تؤثر على سلوكهما حتى عندما يتنافسون معهما فإنها لم تنس إدراج خطة الردع المتكامل الذي يحقق للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها النصر في أي مواجهة قادمة