https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

فارق هائل بين الإقبال الواسع على كتاب الزعيم السوفياتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف «البيروسترويكا (إعادة البناء). تفكير جديد لبلدنا والعالم» عام 1987 بمختلف اللغات التي جرى بها تداوله حينها، وبين «هامشية» الاهتمام بكتابه الأخير الذي يقدّم نفسه كـ»وصية سياسية» بعنوان «العالم المعولم المقبل»، وقد صدرت ترجمته الفرنسية عن دار فلاماريون في تشرين الأول/أكتوبر الماضي من بعد طبعته الألمانية. من الصعب أساساً أن تدفعك تجربة العقود الثلاثة التي باتت تفصلنا عن انهيار البيروسترويكا، ومعها الإتحاد السوفياتي، إلى «تحمّل» معاودة قراءة غورباتشوف مرة أخرى.. لكن ذلك حصل. يصرّ الرجل في وصيته السياسية هذه على التكرار في أكثر من موضع بأنّ البيروسترويكا والغلاسنوست انتصرتا، وبأنّه ساهم في نيل شعوب عديدة حرّيتها وفي وقف التسابق المحموم على الأسلحة، وأنه كان له باع أساسي في العمل من أجل كوكب خال من الرؤوس النووية، ويحمّل الأمريكيين في المقابل مسؤولية «خيانة» التفاهمات الإستراتيجية والقيمية التي انتهت على أساسها الحرب الباردة، وذلك فور انهيار الإتحاد السوفياتي، وبشكل تصاعدي من إدارة أمريكية إلى أخرى، وصولاً إلى رجعة خطر إعادة التسلّح على الصعيد العالمي، وبالشكل الذي بات يزيد من خطورة اللجوء إلى السلاح النووي اليوم، قياساً على خطورة استخدامه في سني الحرب الباردة نفسها. يجهد غوربارتشوف في هذه «الوصية السياسية» للجمع بين أفكار ثلاث، ليس من البديهي جمعها: أولها أنّ البيروسترويكا نجحت في مبتغاها الأساسي بتفكيك أسس التوتاليتارية وإنهاء تقسيم أوروبا إلى معسكرين وتجاوز الحرب الباردة. وثانيها أنّه حاول حتى النهاية انقاذ وحدة واستمرارية الإتحاد السوفياتي وأنّ هذا كان ممكناً لو أنّه لم يحاصر من المحافظين المكابرين على الإصلاح ومن مستعجلي الهدم في وقت واحد. وثالثها أنّ الشيوعية ذهبت إلى غير رجعة، في حين تراه يشدّد على انخراطه في الاشتراكية الديموقراطية، والحاجة إلى انتشالها هي الأخرى مما يصيبها من ضمور وانكفاء. بخلاف كتابه «البيروسترويكا» عام 1987 الذي شدّد فيه على أنّ لينين هو المصدر الملهم لأفكاره، ملخصاً طرحه بأنه دعوة في الوقت نفسه إلى «المزيد من الاشتراكية والمزيد من الديموقراطية» يحمل غورباتشوف في كتابه «الوصية» على البلاشفة كونهم خنقوا في روسيا مسار التطور الاشتراكي الديموقراطي، لصالح مسارهم «المتطرف، الشيوعي»، فأقاموا دولة توتاليتارية على حد تعبير، قائمة على الحزب الواحد والاحتكار الأيديولوجي ودولتة الاقتصاد برمته. «كان علينا هجران هذا، من دون نسيان أن الملايين اعتقدوا بهذه المثل وبإمكانية مجتمع عادل»، ومع تشديده بأنّ هذا الإعتقاد ما زال من الممكن إكسابه راهنية من خلال الإشتراكية الديموقراطية، فـ»روسيا تحتاج الى مشروع اشتراكي ديموقراطي، والعالم كله أيضاً، فمن دون هذا المشروع ستبقى المسارات السياسية والديموقراطية غير مكتملة». وهو يقرن ذلك بمقاربة انتقادية للاشتراكية الديموقراطية المعاصرة أيضاً، التي تركت نفسها تنقاد وراء الليبرالة الاقتصادية أو تحاول تخفيض تداعياتها الأسوأ في أحسن الأحوال، أو تركز أكثر فأكثر على أحوال الأقليات السوسيوثقافية، على حساب مصالح ومشكلات وأسباب قلق الشغيلة، والطبقات الوسطى، أي على حساب مصالح أكثرية السكان. أما تشديد غورباتشوف على ضرورة انضاج قاعدة فكرية وسياسية جديدة لليسار فلا يتعدى تشديده على ما يسمّيه «توحيد السياسة والأخلاق». يتهم غورباتشوف الغرب باحتقار إرادة شعب القرم في استفتاء آذار 2014، ويبدي عموماً تطابقاً شاملاً مع سياسة روسيا الخارجية اليوم، من دون التطرق إلى التدخل في الحرب السورية في كتابه يصرّ الرجل بعد كل هذه السنوات على أنه ناضل من أجل وحدة الإتحاد السوفياتي حتى النهاية، وأن الإبقاء على هذا الإتحاد كفدرالية ديموقراطية كان ممكناً وكان ليضمن حقوق ومصالح كل مكوناته. وهو يصف المجتمع الروسي ما بعد السوفياتي بأنّه في مرحلة انتقالية طويلة، انقطعت فيها الرحلة في منتصف الطريق بين التوتاليتارية والديموقراطية. ينظر الى عهد بوريس يلتسن بعد انهيار الإتحاد على أنه كان الأسوأ بجميع المقاييس، وأنّ وحدة روسيا الإتحادية فيه كانت مهدّدة بالفعل، وأنه لم يكن من الممكن وضع حد لهذا التدهور الكارثي المتواصل باتباع منهج يتقيد بالديموقراطية المدرسية بحذافيرها. يسعى جهده للتوفيق بين أكثر من زاوية نظر لفلاديمير بوتين، فهو من قاد عملية اخراج روسيا من الانهيار، وأنّ حياة الملايين تحسنت بالفعل في العقد الأول من هذه الألفية، وأنّ بوتين لم تحرّكه نزعة معادية للغرب، إنما أراد ملاقاة الغرب والأمريكيين، وأنّه ليس صحيحاً بأنّ روسيا في عهد بوتين تتبع سياسة خارجية مهووسة بـ»الإنبعاث الإمبراطوري» أو الرغبة في الثأر الجيوسياسي، بل أن أساس المشكلة الحالية بين روسيا والغرب هي أن جميع المحاولات الروسية لإرساء تعاون بناء لم يقدرها الأمريكيون والغربيون، وظلوا يسعون لتوسعة حلف شمالي الأطلسي، وغورباتشوف يحمل الغرب مسؤولية أساسية سواء في دفع جيورجيا ثم أوكرانيا للتصادم مع روسيا، ولا يتردّد من جهته في دعمه ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، مذكراً بأنه ابن جيل لم يتقبّل نقل القرم إلى أوكرانيا عام 1954، إلا أن ذلك حصل ضمن دولة سوفياتية موحدة، ولم تكن له نتائج خاصة في الحياة اليومية للسكان. أما عندما اندفع قادة روسيا وأوكرانيا نهاية 1991 الى تفكيك الإتحاد السوفياتي فهم، على حد تعبيره، «أغفلوا الشعب»، وكان الشقاق سيأتي بسبب ذلك لا محالة. يتهم غورباتشوف الغرب باحتقار إرادة شعب القرم في استفتاء آذار 2014، ويبدي عموماً تطابقاً شاملاً مع سياسة روسيا الخارجية اليوم، من دون التطرق إلى التدخل في الحرب السورية في كتابه. وفي المقابل، يحافظ على مستوى معتدل من الانتقادات لبوتين في الداخل الروسي، اذ يتفهم الحاح الاستقرار انما يطالب بإرسائه على أسس مؤسسية وديموقراطية بدلاً من ربطه بشخص، ومع تشديده على أنّ الحزب البوتيني «روسيا الموحدة»، المستند الى جهاز الدولة لم يصبح يوماً حزباً حقيقياً، وأن الأحزاب الأخرى في البرلمان باتت شكلية. تتكامل هنا نظرته إلى مسار الدمقرطة في روسيا مع نزعة تشاؤمية حول الديموقراطية في العالم، اذ تساوره الشكوك من الافتراض القائل بأنه بعد موجة الشعبوية الأخيرة من المنتظر أن تعقبها مجدداً موجة معاكسة في الاتجاه الديموقراطي. فالنظم القمعية بشكل ممنهج لشعوبها قلّ عددها، لكن النظم «الهجينة»، زادت بوتائر مختلفة في كل العالم. تبقى المشكلة الأساسية في «الوصية» هو في اصطناع هذا الاندهاش من كون الولايات المتحدة الأمريكية لم تحترم النظرة الى نهاية الحرب الباردة على أنها من صنع أميركي – سوفياتي مشترك، واعتبرتها انتصاراً أمريكياً على الإتحاد السوفياتي. اصطناع هكذا اندهاش يقول الكثير عن الأوهام التي طبعت نهاية المرحلة السوفياتية. وقد يكون من الراهني إحياء مشروع الإشتراكية ـ الديموقراطية، وهي في الأساس التسمية المكرسة في مرحلة الأممية الثانية، بما في ذلك تسمية الحزب البلشفي نفسه، إلى حين انشطار هذه الأممية على خلفية جنوح أحزابها لتأييد حكومات بلدانهم المختلفة في الحرب العالمية الأولى، لكن ما يقدمه غورباتشوف من مقترحات في وصيته السياسية هذه لتنشيط هكذا إحياء يبدو شاحباً وهزيلاً، ونظرته الإجمالية الى تاريخ الإتحاد السوفياتي حين يحصره بعنوان «التوتاليتارية» تبدو طفولية وخبيثة في آن، بمثل ما يبدو اصراره على أنه المدافع الأخير عن استمرار هذا الإتحاد فاقداً للنكهة. لافت في المقابل تكراره في الكتاب بأن البيروسترويكا نجحت في مراميها، وانها لعبت دوراً كبيراً في اتاحة المجال لأوروبا موحدة وديموقراطية، انما على حساب شعاره آنذاك عن «البيت الأوروبي المشترك»، الذي ينخرط السوفيات فيه. بالضدّ من الإتجاهات «الأوراسية» عند الكثير من المفكرين وصنّاع الرأي الروس اليوم، تقرأ وصيته هذه كتسويغ للموقع الآخر: روسيا أوروبية. التشديد على أن إخراج روسيا من اوروبا ليس حلاً لا لأوروبا ولا لروسيا بل هو مأزق لكل منهما

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 × واحد =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube