https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

لأول مرة تفشل قمة الدول الصناعية السبع في إصدار بيان مشترك في ختامأعمال دورتها التي انعقدت مؤخرا في كندا، بعد أن أوعز الرئيس الأميركيدونالد ترامب لمساعديه بعدم التوقيع على البيان. ولئن كان العجز عن الخروج بموقف موحد متوقعاً لانقسام المجموعة بشأن قضاياجوهرية في ملفيْ الإجراءات الحمائية والمناخ؛ فإن الاجتماعات كشفت عن شرخأعمق أحدثته سياسات ترامب الأخيرة، التي اعتُبرت تنكراً للنظام الدولي الذيأرسته الولايات المتحدة مع شركائها الأوروبيين بعد الحرب العالميةالثانية. وقد انعكست آثار هذا الانزعاج العميق على الكلمات الختامية للقادةالأوروبيين ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، فقد توعدوا بإجراءات عقابيةضد الصادرات الأميركية. وظهرت كذلك في حرص المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على نشر صورة تعكسوقفة تحدٍّ أمام ترامب. كما التقطت كاميرات الصحفيين مصافحة الرئيس الفرنسيإيمانويل ماكرون العنيفة لنظيره الأميركي على نفس طريقة الأخير في إخضاعالزعماء، في محاولة -على ما يبدو- للملمة أسباب قوة أوروبية متداعية. كان ترامب آخر الواصلين إلى القمة، وقد غادرها نحو سنغافورة للقاء الزعيمالكوري الشمالي بينما كان زعماء قمة السبع يلتقطون صورة تذكارية، وهذاالسلوك اللامبالي هو نهج ترامب منذ حملته الانتخابية التي طغت عليهاتصريحات عدائية للوحدة الأوروبية، ودعم للتيارات الشعبوية المناهضة لها. وقد انعكس ذلك في تأخر تعيينه لسفير أميركي لدى الاتحاد الأوروبيأكثر منعام ونصف عام، إلى جانب اعلاء شعار “أميركا أولاً” فوق الالتزامات المشتركةتجاه النظام الدولي والتجارة العالمية والشراكة عبر ضفتيْ الأطلسي. لكن الشهور الأخيرة كشفت عما هو أكبر من التجاهل؛ فقد بدا أن قرارات ترامبالمتدرجة تجاه أوروبا انتظمت في سلسلة باتت تشدد الخناق أكثر فأكثر علىالسياسة الخارجية والدفاعية للقارة، وتسعى لتقويض اقتصادها وإضعافه، ممافتح الباب أمام المخاوف بشأن مستقبل الشراكة الأميركية/الأوروبية الممتدةلعقود، واستقرار النظام الدولي بأسره لا سيما مع بروز أدوار غير تقليديةللصين وروسيا. وقد بدأت أولى محطات التناقض الأميركي/الأوروبي في قمة حلف الناتو العامالماضي ببروكسل، حين تهرب ترامب من تأكيد التزامه بالمادة الخامسة من ميثاقحلف الأطلسي الخاصة بالدفاع المشترك؛ وعوضاً عن ذلك أظهر ترامب نقداًافتقر إلى اللياقة لما أسماه تهرب الدول الأعضاء من دفع مستحقات الدفاع،مخلفاً صدمة لدى القادة الأوروبيين الذين لم يكونوا قد أخذوا على محمل الجدتصريحه بأن الناتو مؤسسة “عفا عليها الزمن”. ولم تكد تنته دهشة تقليص تعهدات الأمن والدفاع حتى عاجل ترامب حلفاءهالغربيين بقرار انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، التي اعتبر التوصل إليهاعام 2015 انجازاً للدبلوماسية الأوروبية. لم ينقضِ عام 2017 قبل أن يوجه ترامب ضربته الثالثة لأوروبا، حين قرر المضيقُدُماً في تنفيذ قرار الكونغرس الذي درج الرؤساء الأميركيون على تجميدهمنذ عام 1995، والقاضي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعترافبالمدينة عاصمة لدولة إسرائيل. وقد وضع هذا القرار المسمار الأخير في نعش حل الدولتين الذي يشكل الدعامةالأساسية للموقف الأوروبي من الصراع في الشرق الأوسط، وهو ما اعتُبر بطاقةحمراء للأوروبيين خارج الملف، وتشييعاً أخيراً للرباعية الدولية التي طالماسعى الأوروبيون للعب دور أكبر في المنطقة من خلالها. لكن عام 2018 كان الأقسى على الإطلاق، إذ ظهر أن بمقدور ترامب المساس بأكثرالمساحات حيوية للوحدة الأوروبية وهي التجارة الحرة، وكانت البدايةبالانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران، وإجبار الشركات الأوروبيةعلى الانسحاب منه عبر فرض عقوبات على الشركات التي تبقي على تعاملاتها معطهران. وتبع ذلك فرض التعرفة الجمركية على صادرات الحديد والصلب والألمنيومالقادمة من الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك، بصورة أحادية تخالف الاتفاقاتالموقّعة. وإلى جانب الأضرار الاقتصادية لهذه القرارات، والتي يقدّرها الخبراءبمليارات الدولارات سنوياً؛ فإن أضرارها المعنوية لا تقل سوءاً بحال منالأحوال، إذ تمتد نحو تفتيت هيبة الاتحاد الأوروبي وحضوره السياسيوالدبلوماسي عالمياً. ويأتي ذلك في وقت تعاني فيه القارة سلسلة من الاضطرابات والهزات في الداخلوعلى حدوده؛ أبرزها: الصعود المتسارع لقوى اليمين الشعبوي المناهض للوحدةالذي تغذى على الانسحاب البريطاني (البريكست)، واستمرار تداعيات أزمةالديون لا سيما في اليونان وإيطاليا، وضعف الاستجابة لأزمة اللاجئينالمستمرة منذ 2015، إضافة إلى تحديات الإرهاب وأزمة إقليم القرم. تعد الشراكة الأوروبية الأميركية ضابطَ الإيقاع للنظام السياسي والاقتصاديوالأمني في العالم منذ سبعة عقود، فلم يكن ترفا أن قادة العالم المنتصر فيالحرب العالمية الثانية طوروا نظاماً من العلاقات السياسية والتجاريةوالدفاعية لضمان الاستقرار والحفاظ على المكتسبات، الأمر الذي جعل هذهالعلاقة مختلفة عن غيرها من الشراكات العالمية، حيث ارتبط بقاء النظامالدولي برسوخها وثباتها. هذا التلاقي المصيري لم ينفِ جملة من الاختلافات بشأن الأولويات والأهدافالإستراتيجية وبعض التصورات والأدوات، ووفقاً لميزان ما بعد الحرب -الذي لميشهد اختلافاً جذرياً- فإن أوروبا لعبت دائما دور الشريك الأصغر لأميركافي الحفاظ على النظام الدولي، وهو دور حفظ لأوروبا مكانة وتأثيراًمُرْضياً، لكنّ انتخاب ترامب وقراراته الأخيرة وضعت حداً لهذا الترادف. فعند النظر في جملة الأزمات الأخيرة بين الجانبين؛ يبدو السلوك الأوروبيمتحفظاً في مواجهة نزعة ترامب الفوقية واللامبالية بالشراكة. وبعيداً عنالبلاغات اللفظية القوية الصادرة من برلينوباريس؛ بدت أوروبا أكثر ميلاًنحو الركون لمبدأ المرونة في التعاطي مع التحديات التي ألقى بها ترامبمتلاحقة في وجه الأوروبيين. فلم تجد ميركل (الزعيمة المعنوية لأوروبا) ولا ماكرون (الطامح لمشاركتهاالزعامة) خيارات سياسية فاعلة، توقف سعي ترامب لتحطيم أي إنجاز قد يُضافإلى سجل الدبلوماسية الأوروبية، بدءًا من تفاهمات المناخ وانتهاءً بالصفقةالنووية مع إيران (الاتفاق النووي). كذلك لم يفعل القادة الأوروبيون شيئاً سوى دبلوماسية الشجب لقرار نقلالسفارة الأميركية إلى القدس، والذي يعني عملياً طرد آخر موطئ قدم أوروبيةمن ملف الصراع بالشرق الأوسط، الذي طالما ضاق بالأوروبيين بسبب الاستحواذالأميركي. لم يكن هذا السلوك الضعيف مفاجئاً في ظل أزمات معقدة تعصف بالبيت الأوروبي،ووصلت إلى حد تأييد عدد من الدول الأعضاء فيه -كهنغاريا ورومانيا وجمهوريةالتشيك- لقرارات أميركية تتحدى السيادة الأوروبية. هذا المأزق يجد تأصيله أيضاً في وثيقة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبيالصادرة عام 2016 (EU Global Strategy)، والتي شكلت انكماشاً عن الأهدافالطموحة لأوروبا نحو نهج يفضّل الاستقرار والمرونة. ويبدو أن لفظة المرونة (Resilience) التي تكررت في الوثيقة 40 مرة كانتالأسلوب المفضل في تلقي صفعات ترامب المتعاقبة، إذ بدا أن الاتحاد الأوروبيمستعد للتضحية بمكتسباته السياسية والدبلوماسية (التي لا تحظى بإجماع كاملالدول الأعضاء)، في سبيل حماية جوهر الوحدة القائم على التجارة الحرةوالمكتسبات الاقتصادية. وقد كان هذا النهج طاغياً في التعاطي مع أزمة الاتفاق النووي الإيراني، حينخضع القرار الأوروبي لابتزاز العقوبات، وبدأت الشركات الفرنسية والألمانيةالتمهيد لانسحابها من أسواق إيران. وفي حين تستطيع الشركات الأوروبية الاستمرار والتكيف دون خسائر فادحة بعدالانسحاب من السوق الإيرانية؛ فإنه من الصعب ترميم ضرر السيادة الأوروبيةبعد الخضوع لابتزاز قرارات ترامب الأحادية الجانب، والتي ترسم -نيابة عنأوروبا- حدود فعلها وإمكاناته، وفي أكثر من ملف متزامن. قد يبدو أن أوروبا ركنت إلى المرونة وضحّت باستقلالية سياستها الخارجيةوفرص إنعاشها، في سبيل حماية مصالحها التجارية مع الولايات المتحدة؛ لكنترامب عاجلها بسياسات حمائية في قطاعات الحديد والصلب والألمنيوم، ثمبالتلويح بحرب تجارية تطال صادرات السيارات والشاحنات وربما غيرها منالسلع. وقد يجعل ذلك الكثيرين يشككون في مدى نجاعة سياسة المرونة في ظل إدارةأميركية لا ترى في أوروبا شريكاً، بل منافساً صمم خصيصاً “لهزيمة الولاياتالمتحدة عندما يتعلق الأمر بالتجارة”، كما صرّح به ترامب خلال سباقهالانتخابي، وصدّقته -بعد فوزه- قراراتُه داخل البيت الأبيض. إن ملامح انهيار الشراكة الأوروبية/الأميركية تلوح في الأفق، ومن خلفهاتُطلّ الحمائية المتبادلة وأثرها المدمر على التجارة الدولية والنظامالعالمي ككل، مما يجعل اللجوء إلى الصين خياراً للعديد من العواصمالأوروبية، لكنه خيار قد يفوق ترامب سوءًا عندما يتعلق الأمر بانتهاكالنظام الدولي القائم على القواعد. وفي ظلانعدام البدائل التجارية المعقولة؛ يبدو أن أي حلّ لا يضغط سياسيالكف ترامب عن سياساته، لا يعدو كونه تخبطاً يهدد بغرق مركب القادة الكبار،ومعه كل ما تم إنجازه من استقرار عالمي يربو على سبعة عقود.

الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة × 2 =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube