قد يجهل البعض أنّ التعاطي الأمريكي مع ملفّ البرنامج النووي في كورياالشمالية لم يبدأ مع التحضيرات لقمة سنغافورة «التاريخية»، بين الرئيسالأمريكي دونالد ترامب والزعيم الكوري كيم جونغ أون، التي انعقدت مؤخراًوانتهت إلى توقيع اتفاقية مشتركة، وجيزة وعامّة الصياغة. يذكّرنا الأمريكيجوشوا بولاك، رئيس تحرير The Nonproliferation Review والأخصائي في السلاحالنووي وأسلحة التدمير الشامل، أنّ ذلك التاريخ يعود إلى ربع قرن علىالأقلّ، وإلى سلسلة اتفاقيات (بعضها أكثر وضوحاً من اتفاقية ترامب ـ جونغ)،حتى إذا لم ينطو إبرامها على قمم عالية المستويات. على سبيل المثال، البلاغ المشترك بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية،الموقع في 11 حزيران (يونيو) 1993، يؤكد على استمرار المفاوضات بين واشنطنوبيونغ يانغ حول انسحاب الأخيرة من اتفاقية الحدّ من انتشار الأسلحةالنووية (وهو الانسحاب الذي وقع في آذار/ مارس من العام ذاته، بسبب ادعاءالسلطات الكورية أنّ فرق التفتيش التابعة لوكالة الطاقة تجاوزت حدودصلاحياتها)؛ كما يشدد على «ضمانات بعدم استخدام القوة» و»الالتزام بالسلاموالأمن وإخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي»؛ فضلاً عن «دعممحاولات إعادة توحيد الكوريتين». قبل هذا كانت المباحثات الكورية ـ الكورية قد انتهت، في 20 كانون الثاني (يناير) 1992، إلى اتفاقية من ثلاثة بنود أساسية: 1) الالتزام بعدم تصنيعأو استقبال أسلحة نووية، في إشارة إلى وجود أسلحة نووية أمريكية في كورياالجنوبية؛ و2) الالتزام بعدم امتلاك منشآت للإنتاج النووي أو تخصيباليورانيوم، في وقت شهد تطوير بيونغ يانغ لمنشأة أولى نووية، اعتبرتهاالأخيرة مجرد «مخبر راديو ـ كيميائي»؛ و3) الالتزام بإنشاء «هيئة مراقبةنووية مشتركة»، تقوم بالتفتيش في مواقع متفق عليها. أما اتفاقية تشرين الأول (أكتوبر) 1994، فقد ذهبت أبعد في العلاقاتالنووية، إذا جاز القول، بين واشنطن وبيونغ يانغ؛ مع التعهد الأمريكيبتزويد كوريا الشمالية بمفاعلات الماء الخفيف لتوليد الكهرباء بدلاً منتكنولوجيا مفاعلات الغاز، وكذلك تزويدها بالوقود الثقيل. في المقابل، وافقتبيونغ يانغ على تجميد مفاعلها والمنشآت المرتبطة به، وإعادة إخضاعهالتفتيش وكالة الطاقة الدولية. أكثر من هذا، نصّ الاتفاق على قيام البلدينبخطوات نحو «التطبيع الكامل للعلاقات السياسية والاقتصادية» بينهما،و»العمل معاً من أجل السلام والأمن في شبه جزيرة كورية خالية من النووي». الإعلان المشترك الأمريكي ـ الكوري الشمالي، أكتوبر/تشرين الأول 2000، كانثمرة قيام مبعوث كيم جونغ أون بزيارة واشنطن والاجتماع في البيت الأبيض معالرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون؛ حيث تمّ التشديد، هذه المرّة، علىالتزام كوريا الشمالية بتعليق إطلاق «الصواريخ بعيدة المدى من أيّ نوع،خلال استمرار المباحثات حول مسألة الصواريخ»؛ وهو التأكيد الذي طبقته بيونغيانغ حتى العام 2006. من جانب آخر، شددت الوثيقة على جهود «خفض التوتر فيشبه الجزيرة الكورية، وإنهاء الحرب الكورية رسمياً عن طريق استبدال اتفاقيةالهدنة لعام 1953 بترتيبات سلام دائم». وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2002توصلت واشنطن إلى «اتفاقية إطار» مع كوريا الشمالية، انسحبت منه بعد عامعند اكتشاف عودة بيونغ يانغ إلى تخصيب اليورانيوم، مما أدى إلى انسحابالأخيرة مجدداً من اتفاقية الحدّ من انتشار الأسلحة النووية. ما الذي يشير إليه هذا التاريخ، الذي يتوجب أن يُربط بسلسلة اتفاقيات مننوع مماثل، أو متقدم أحياناً، مع كوريا الجنوبية؟ الكثير من الدلالات فيالواقع، قد يكون أبرزها أنّ قمّة سنغافورة الأخيرة لا تأتي بجديد دراماتيكيبالقياس إلى ماضي الاتفاقيات والعهود والمواثيق والبيانات المشتركة، وأنّالعبرة استطراداً هي في اعتماد سياسة أمريكية متوازنة في شبه الجزيرةالكورية، لا تفصل بين النووي والسياسي، وبين اليورانيوم والاقتصاد، وبينالحقّ في امتلاك التكنولوجيا مقابل سلطة حصرها أو حجبها وفق كيل بأكثر منمكيال. وقد يكون الدرس الآخر أخلاقياً، وإنْ كانت «السياسة الواقعية» لاتعتدّ بالأخلاق عموماً؛ وهو خرافة أنّ واشنطن تربط انتشار السلاح النوويبمسألة وجود نظام ديمقراطي يتحكم بزرّ الإطلاق (الذريعة الكلاسيكية التيتُساق، في الغرب عموماً، لتبرير السكوت عن البرنامج النووي لدولة الاحتلالالإسرائيلي). لقد تعاملت واشنطن في الماضي، وتواصل التعامل اليوم، معالبرنامج النووي الكوري الشمالي بصرف النظر عن طبيعة نظام كيم جونغ أونالحالي، ونظام أبيه وجدّه من قبله؛ وبصرف النظر عن التشدق المعتاد حول حقوقالإنسان والسلم العالمي. وهذا يعيد التذكير بحقيقة أخرى ساطعة: أنّ البرنامج النووي الإيراني (الذييُثار حوله كلّ هذا اللغط الأمريكي والإسرائيلي الراهن) لم ينطلق في عهدآيات الله، بل قبل ثورة 1979 بما يقارب ربع قرن، أيام الشاه رضا بهلوي؛وأنّ البرنامج كان، ثانياً، بعض تجليات الحرب الباردة لأنّ الولاياتالمتحدة هي التي رعته وأشرفت على تنفيذه. كذلك كانت أمريكا هي التي زوّدتإيران بمفاعل نووي طاقته 5 ميغاواط، مع الوقود اللازم، أي اليورانيومالمخصّب (نعم: ذاته الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها اليوم)، كما قبلت إقامةمنشآت لتخصيب اليورانيوم في إيران. وفي عام 1975 وقّع وزير الخارجية آنذاك،هنري كيسنجر، ما يُعرف باسم «مذكرة القرار الأمني 292»، التي أرست دعائمالتعاون النووي الأمريكي ـ الإيراني، بقيمة استثمارية صافية تبلغ ستةمليارات دولار. وبعد سنة فقط، وقّع الرئيس الأمريكي جيرالد فورد أمراًإدارياً بتمكين إيران من شراء وتشغيل منشأة تتيح فصل البلوتونيوم (أيالمرحلة الأعلى على صعيد تصنيع القنبلة النووية!)، بذريعة أنّ هذهالتكنولوجيا سوف «تحرّر ما تبقى من احتياطيّ نفطي، وتضعه في التصدير». وبصرف النظر عن حقّ الشعوب في امتلاك التكنولوجيا النووية لأغراض مدنية، أوحتى حقها في وضع خيار التكنولوجيا النووية العسكرية نصب أعينها؛ فإنّالانتساب إلى هذا المحفل النخبوي الفائق، نادي السلاح النووي، يتخذ أحياناًصفة الضرورة بالمعنى الاستراتيجي، ومن حيث احتواء نزاعات لا يفلح فيتطويقها إلا «خيار درجة الصفر». وليس لأحد أن يتكئ على اعتبارات أخلاقية أوسياسية أو اقتصادية، «عقلانية» تارة أو «بيئية» طوراً، صادقة مرّة أوزائفة معظم المرّات، لتوجيه اللوم إلى شعوب بعينها (خارج نطاق الناديالنخبوي، حصرياً!) بذريعة أنها أحوج إلى التنمية الإنسانية من التنميةالنووية. وحتى يأتي اليوم الذي يُجمع فيه النظام الدولي على تنظيم «ديمقراطي» متكافئ لشروط الانتساب إلى النادي النووي، فإنّ من حقّ الجميعالتطلع إلى التكنولوجيا ذاتها، دون الحصول على أذن مسبق من الكبار. لكنّ توازن الرعب هذا ليس له دين أو هوية ثقافية، كما يحلو للبعض أن يفلسفبين حين وآخر، اتكاءً على تعبير «القنبلة الإسلامية» الذي نحته كيسنجر، دونسواه، في وصف البرنامج النووي الباكستاني؛ واهتداءً، كذلك، برأيه الذييمكن أن ينتهي إلى تقسيم نوويات العالم على أديان العالم: هذه قنبلة مسيحيةفي الولايات المتحدة وأوروبا، وتلك بوذية في الصين، وثالثة يهودية فياسرائيل، ورابعة سيخية في الهند، وخامسة مسلمة في الباكستان، وسادسة فيالاتحاد السوفييتي… ملحدة! وفي الغضون، على امتداد وقائع التاريخ النوويبين أعضاء النادي والطامحين إليه، ثمة على الدوام ذلك الاختلال الكونيالمزمن الذي يتعدى الذرّة إلى جزيئات انشطار لا تعدّ ولا تُحصى.
القدس العربي