صفحات من كتاب محمد خير الوادي بعوان: العلاقات الصينية الاسرائيلية .. الحسابات الباردة
-2-
العلاقات التاريخية
قصة العلاقات “التاريخية”
تتسم قصة العلاقات بين الصين وإسرائيل بالغرابة فعلا. فهي من الجانب الدبلوماسي، مرت في فترة إعداد سرٌي استمرت نحو عقدين من الزمن ، وهي أطول فترة شهدتها علاقات بين جانبين ، وخلال تلك المرحلة التي امتدت من سبعينات القرن الماضي إلى بداية التسعينات، فضلت الصين إضفاء السرية المطلقة على صلاتها مع إسرائيل التي أبدت – بدورها ارتياحها للأمر . و من الجانب السياسي أخضعت بكين هذه العلاقات لحسابات باردة من الربح والخسارة انطلاقا من تأثيرها على العلاقات الصينية مع الدول العربية .
ترافقت الرغبة الإسرائيلية الجامحة في التسلل عبر سور الصيني والفوز بالجبنة الصينية ، بحملة شاملة نظمتها الأوساط اليهودية لإقناع الصينيين بان العلاقات بين الصين واليهود ليست وليدة اليوم ،وهي لا تقوم على المصلحة فحسب ، وإنما تستند –كذا- إلى جذور تاريخية طويلة ! وقد استخدمت الأوساط الصهيونية كثيرا من الأحداث التاريخية غير المؤكدة في القرنين التاسع والعاشر وأضفت عليها هالة من التضخيم والتزوير ، كما حرفت بعض الوقائع التي جرت في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي من اجل القول، أن الصلات بين الصينيين واليهود لها جذور عميقة في بطن الزمن . وقد سخٌرت الأوساط الصهيونية خبرتها العريقة كلها في إعادة تأويل الاحداث وتزويرها وتحريف كثير من التفصيلات ، واستخدمت إمكاناتها الكبيرة لانجاز هذه المهمة .
وفي هذا المجال ، يستحضر اليهود واقعة تاريخية حول ما يسمى بيهود كايفينغ . ولإضفاء بعض المصداقية على ادعاءاتهم هذه ، استأجرت الأوساط اليهودية بعض الكتاب الصينيين ، وشجعتهم على إعداد دراسات مشبوهة باللغة الصينية، نشرها مركز الدراسات اليهودية في جامعة نانجينغ الصينية ، حيث وفر اليهود المعلومات والاموال لهذا المركز من اجل إصدار ما يسمى بالموسوعة اليهودية المليئة بالأكاذيب والتزوير حول تاريخ اليهود . وحسب هذه الموسوعة التي تم ترويجها على نطاق واسع في الصين ، فان عددا من يهود ايران والهند هاجر الى مدينة كايفنغ عاصمة مقاطعة هونان الصينية الواقعة على ضفاف النهر الأصفر في القرنين التاسع والعاشر عبر طريق الحرير ، وكان هؤلاء وكلهم تجار ،برفقة عدد كبير من الايرانيين والعرب واقوام اخرى. وقد مارس اليهود – كعادتهم الأعمال التجارية واستطاعوا جمع اموال كثيرة ، وهو امر مكنهم من البدء بإقراض المال لقاء الفائدة. ويبدو أن هذه الجماعة اليهودية رشت حاشية الإمبراطورالصيني من اجل التقرب اليه، ولذلك -وحسب الرواية اليهودية-عين أباطرة أسرة تانج أحد أعضاء طبقة الماندرين (وهي الأرستقراطية الثقافية من الموظفين ) مسئولاً عنهم، فكان يزور معبدهم باسم الإمبراطور مرة كل عام، ويحرق البخور أمام المذبح. وكان المهاجرون اليهود فى بداية الأمر يتحدثون الفارسية، وكانوا متخصصين في المنسوجات القطنية وصباغتها وطباعة الألوان عليها، وهى صباغة كانت متقدمة في الهند. وكان سكان الصين يتزايدون في تلك المرحلة، الأمر الذي أدى إلى نقص حاد في المنسوجات الحريرية ونشوء حاجة إلى المنسوجات القطنية. ومن الناحية الاجتماعية والطبقية، كان اليهود ينتمون إلى طبقة التجار والصناع التي تقع بين الفلاحين من جهة وطبقة الموظفين/العلماء من جهة أخرى. ومن ثم كان طموحها الاجتماعي، مثلها مثل الطبقات التي تقع في الوسط، هو الاتصال بالطبقة العليا والابتعاد عن طبقة الفلاحين .
والشيء المثير ما يقوله بعض الباحثين اليهود، من ان يهود كايفنغ اضطروا للهجرة إلى الصين “هربا من الإرهاب الإسلامي” انذاك. لكن رحالة روسيا واسمه ف. اليكسيف وفق كتاب” اللغز الروسي” ص 26 (باللغة الروسية) والذي نشر في موسكو عام 1998، اكد انه جال على مناطق الصين في القرن الحادي عشر، وانه مر بمدينة كايفنغ ولم يجد اثر لليهود فيها، وكتب في يومياته، “قد تكون اليهودية قد مرت في تلك المناطق الصينية، ولكنها لم تترك أية آثار”. والشيء اللافت، أن بعض أبناء مدينة كايفنغ من الصينيين يروجون الآن- لأسباب مادية بحتة ومن اجل الحصول على بعض الفوائد من اسرائيل-اقوال مفادها أن “الدماء التي تسري في عروقهم يهودية”، حتى ولو كانت أشكالهم صينية. ووصل الحد إلى أنهم كتبوا إلى حكومة إسرائيل يطلبون الهجرة إليها كونهم يهودا، ولكن طلبهم هذا قوبل بالرفض من قبل بعض الاوساط في إسرائيل، التي لم تقتنع أن “دماء هؤلاء يهودية” ، حتى ان دبلوماسيا اسرائيليا صرح ان “الوثيقة” الوحيدة التي يحملها الراغبون بالهجرة من كايفينغ الى اسرائيل هي ادعاؤهم انه لا يأكلون لحم الخنزير!. لكن القصة لم تنتهي هنا ، فقد تلقفت بعض المراكز اليهودية هذه الرواية للوصول الى نتيجة خيالية تقول ، ان اليهود الذين كانوا جزءا من بطانة الحاكم الصيني تزاوجو مع الصينيين وبقيوا هناك ، ولذلك هناك الان قرابة دم بين الامتين اليهودية والصينية!ولم تقف الامور عند هذا الحد، بل بدات المنظمات الصهيونية تحاول اقناع الحكومة الاسرائيلية باهمية يهود كايفينغ كخزان بشري هائل يمكن ان يردف دولة اسرائيل. وقد باشرت هذه المنظمات بخطوات عملية لاعداد الراغبين من سكان كايفينغ للهجرة والاقامة في اسرائيل.و وارسلت منظمة شاواي اسرائيل المختصة بالبحث عن اليهود في العالم في عام 2005، وفدا الى كايفينغ من اجل الاتصال بالسكان هناك واختيار اولئك الذين “تجري في عروقهم دماء يهودية”. وقد استقدمت المنظمة عام 2008اول فوج من يهود كايفينغ ، وارسلتهم فورا الى كيبوتس سدي الياهو الواقع شمالي اسرائيل . وقد بدا المهاجرون بدراسة اللغة العبرية والديانة اليهودية وعملوا في الكيبوتس المذكور . وبعد شهر من الوصول ، نظمت لهم رحلة الى مدينة القدس المحتلة التي قدمت لهم على انها عاصمة اسرائيل التى تم توحيدها وتحريرها عام 1967. واعلن ميخائيل فرويند رئيس المنظمة ،ان المهاجرين اسرعوا الى حائط المبكى وهناك تذكروا اصولهم اليهودية! وعلقت صحيفة يديعوت احرونوت على ذلك بقولها في حزيران عام 2009، بان اليهود الصينيين القادمين الى اسرائيل قد تمكنوا بسرعة من التاقلم مع الحياة الجديدة، وانهم يقبلون بشراهة على دراسة التعاليم اليهودية وتاريخ اليهود وتاريخ دولة اسرائيل ، وانهم متحمسون جدا للمشاركة في بناء الدولة والدفاع عنها.ونشرت الصحيفة قول المهاجر سوي في الذي اعلن والدموع تنساب من عينيه: واخيرا عدنا الى ارضنا المقدسة!
انها البدايات فقط في عملية تهيئة اكبر تجمع بشري للهجرة الى اسرائيل. وليس مهما ان تجري في عروق افراد هذه التجمع دماء يهودية او صينية، المهم “اعادة تأهيله واشباعه بالأفكار اليهودية حتى يكون إفراده جاهزين لخدمة اسرائيل والمخططات الصهيونية.وليس من قبيل الصدفة ان تصر الحكومات الاسرائيلية على الاستمرار في بناء المستوطنات في الاراضي العربية المحتلة. فهذه الكتل الضخمة من البناء فارغة الان ، ولكنها لن تكون كذلك في المستقبل.وما يجري الان حول ما يسمى بيهود كايفينغ يشبه تماما ماجرى مع يهود الاتحاد السوفياتي ، حين تمكنت الصهيونية من جلب اكثر من مليون مهاجر في تسعينات القرن الماضي .ولم يدقق حاخامات اسرائيل انذاك في هوية القادمين. وبالمناسبة ، لقد اسكن هؤلاء المهاجرون القادمون من المناطق السوفياتية في الجولان والضفة الغربية الغربية، وباتوا راس الحربة في التطرف الاسرائيلي. ومن يدري ، فقد يحدث الشيء ذاته مع سكان كايفينغ، لكن هذه المرة سيكون الامر اكثر خطورة، لان الصهيونية ستضع يدها على خزان بشري ضخم لا ينضب . ولا بد من الاضافة ،ان اسرائيل تستغل الحريات التي توفرها الان الحكومة الصينية لسكانها فيما يتعلق بحق السفر والعبادة من اجل تنفيذ المخططات اليهودية . فقد سمحت السلطات الصينية لمواطنيها بالسفر الى الخارج متى يشاءون، وهذا يسهل كثيرا مهمة المنظمات الصهيونية، وهي لن تكون مضطرة للدخول في معركة مع الحكومة الصينية- كما حدث مع الاتحاد السوفياتي- وممارسة الضغوط من اجل السماح بالهجرة. كما ان ممارسة الأنشطة المتعلقة باعادة تربية السكان بالروح الدينية اليهودية امر متاح نسبيا في الصين. ان التنبه الى هذه المسألة الآن امر في غاية الاهمية. فلا بد من العمل مع الحكومة الصينية وتنبيهها الى ما تدبره الأوساط الصهيونية من خطط لنقل أعداد كبيرة من الصينيين الى اسرائيل. ولابد من افهام السلطات الصينية ان هجرة هؤلاء ليست كهجرة ملايين الصينييين الى دول اخرى من اجل العمل والاقامة ، فالقادمون الى اسرائيل سيقيمون على أراضي محتلة، وهم سيكونون طعاما للخطط العدوانية الاسرائيلية ضد العرب، وهم – مع مرور الزمن سيتحولون الى راس رمح اسرائيلي ضد العرب. والحكومة الصينية الحريصة على الصداقة مع العرب ، لايمكن ان تقبل بان تساهم بشكل غير مباشر في دعم السياسة التوسعية الاسرائيلية على حساب العرب.
وهناك رواية أخرى لوصول اليهود الى الصين ، ولكن هذه المرة إلى الجنوب، فقد ذكر دافيد سلبورن، وهو عالم إنجليزي عمل بتدريس الفلسفة السياسية في جامعة أوكسفورد ، انه ترجم مخطوطة يعود تاريخها للعام 1271م كتبها شخص يهودي وصل مدينة zaitun “زيتون” الصينية التي كانت أكثر موانئ العالم ازدهارا في تلك الحقبة ، واسم المدينة مشتق من الكلمة الإنجليزية satin (حرير الستان) وهي تشنتشو حاليا، ويروي مؤلف المخطوطة مشاهدات له في المدينة ويصف الجالية الأجنبية الكبيرة بها قائلا إنه كان بها ما يربو على 2000 يهودي والكثير من المسلمين والأفارقة والأوربيين. ولكن لا يوجد أي دليل على ما قاله سلبورن الذي رفض أن يُظهر النص الأصلي للمخطوطة التي تحدث عنها، ولم يقل من هو صاحبها. ثم انه في تلك الفترة تقريبا ، قام الرحالة العربي الشهير ابن بطوطة بزيارة إلى تلك المدينة التي اطلق عليها اسم مدينة الزيتون, وكتب مشاهداته عن الحياة المزدهرة هناك وعن الأعمال المتطورة ونظام الادارة المتقدم.لكن ابن بطوطة -وهو الرحالة الدقيق في ملاحظاته – لم يعثر على أي اثر لليهود هناك ولم يدون أي شيء عنهم . وهذا دليل آخر على عدم صحة وجود يهود في تلك المدينة الصينية التي تزخر الآن بالآثار والمقابر الإسلامية ومن بينها قبور لبعض صحابة الرسول محمد ص.
وقدمت مجلة مجلة الصين اليوم بالعربية في العدد الأول – كانون ثاني عام 2004، رواية أكثر اخرى واقعية للوجود اليهودي في الصين، حيث تعتقد، أن “التدفق اليهودي على الصين بدأ اواسط القرن التاسع عشر وتحديدا بعد عام 1842 –أي بعد حرب الأفيون ، وقد تسرب بينهم عدد كبير من التجار اليهود الذين استوطنوا أساسا في مدينة شانغهاي. وكعادتهم، هيمن اليهود على الأنشطة المالية في تلك المدينة الصينية.
وقصة مجيء اليهود الى شنغهاي تكشف حقيقة الاهتمام اليهودي بالصين في الماضي والحاضر. ويسلط الكتاب الذي صدر في بكين عن دار النشر الدولية عام 2001 بعنوان “اليهود في الصين” باشراف البروفيسور بان غوان ، بعض الاضواء على يهود شنغهاي.فقد جاء هؤلاء وهم من اليهود الشرقيين – السفرديم- مع القوات البريطانية التي دخلت المدينة عقب اجبار الحكومة الصينية على التوقيع على اتفاق نانكين لفتح خمس من الموانيء الصينية الأساسية أمام التجار البريطانيين. وللتذكير ، فقد جاء الاتفاق المذكور عقب هزيمة القوات الصينية في ما سمي انذاك بحروب الافيون. المهم ان التجار اليهود الذين يحملون الجنسية البريطانية دخلوا شنغهاي بحماية القوات البريطانية أواسط القرن التاسع عشر. وكان على رأس هؤلاء عائلات ساسون وقادوري التي جاءت من بغداد، وعائلات اخرى كغاردوني حضرت من بومبي وسنغافورة .وتشير مصادر روسية وفي طليعتها “كتاب اللغز الروسي” الانف الذكر ، الى ان اليهود القادمين الى الصين، قد استغلوا وجود القوات البريطانية من اجل القيام بصفقات تجارية اهمها تهريب الافيون الى الصين ، لا بل ان الضباط البريطنيين كانو شركاء مباشرين في هذه العمليات ، فكانت السفن الحربية البريطانية تحمي قوافل المهربين القادمين من الهند ، وكان الجنود يرافقون موزعي الافيون داخل الصين الذين يهربون ويوزعون هذه المادة .
وفي الوقت نفسه ، تحولت مدينة هونغ كونغ، حيث عاش التجار اليهود هناك، الى مركز كبير لتهريب مادة الافيون الى داخل الصين. وتفيد بعض المراجع، ومنها ما كتبه رحالة روس وبريطانيون ونشر في كتاب تاريخ الصين الحديث الذي صدر في موسكو عام 1977، ان القوات البريطانية لجأت إلى خدمات التجار اليهود من عائلات بلفور وروتشيلد وساسون وقادوري، ، وغيرها من العائلات اليهودية من اجل المساعدة في نقل الافيون وتهريبه إلى المدن الصينية. وكان البريطانيون يهدفون من وراء ذلك إلى خلق مشكلة اجتماعية داخل الصين وإضعاف التماسك الوطني هناك ونهب ثروات الشعب الصيني من الفضة. وقد حقق اليهود من وراء تجارة الافيون هذه ثروات كبيرة .كما قدموا خدمات ثمينة للبريطانيين الذين حاولوا بكل السبل إضعاف الامبراطورية الصينية وفتحها أمام الغزاة البريطانيين. وازداد تدفق اليهود الى الصين لا سيما عقب هزيمة الحكومة الصينية في حرب الأفيون واضطرارها الى التوقيع على اتفاقيات مذلة، أجبرت بموجبها على فتح عدد من موانئها، البحرية وفي مقدمتها شانغهاي امام البضائع الاجنبية . وكان اليهود في طليعة الأجانب الذين استفادوا من هذه الاتفاقيات لتكديس الثروات. وقد دخل اليهود آنذاك شنغهاي بحماية القوات البريطانية والفرنسية ولعبوا دورا في تمويل أنشطة هذه القوات الغازية وإدارة مناطق الامتيازات الأجنبية في شنغهاي. وللتذكير فقط، فقد كان ممنوعا على الصينيين دخول تلك المناطق، وكان يكتب على مداخلها عبارة: يحظر دخول الصينيين والكلاب. واللافت للانتباه، أن المراجع اليهودية والصينية تفضل عدم الحديث عن دور اليهود في حروب الأفيون في القرن التاسع عشر.
وقد طاب للتجار اليهود المقام في شنغهاي ، وبدأوا يدعون اعدادا جديدة من اليهود للحضور والاقامة في المدينة . وبقدر توسع نشاط التجار زاد عدد اليهود هناك من 500 في القرن التاسع عشر الى عدة الالاف. وباتت الجالية اليهودية في شنغهاي من اكبر واغنى الجاليات اليهودية في اسيا.وبحكم ثرائها ، صار قادة الجالية يقدمون مساعدات مالية ليهود روسيا و شرقي اوربا ، وقد وصلت اعانات هؤلاء الى اليهود في اوروبا وحتى في امريكا. ولخلق حياة مستقرة لليهود في شنغهاي ، اشترت عائلة ساسون قطعة ارض كبيرة وحولتها الى مقبر يهودية عام 1862 ، كما استاجرت عام 1870مبنى واعادت اصلاحه وجعلته مقرا دينيا، وتحول المبنى عام 1887 الى كنيس يهودي باسم “بيت ايل” . ومن اجل تنظيم المساعدات والعمل لدى السكان اليهود ، تاسس في شنغهاي عام 1898 فرع للمنظمة البريطانية اليهودية، وفي عام 1900 اقيم فرع للجمعية اليهودية الخيرية، وتم بناء كنيس ثاني عام 1920 باسم اخيل راخيل، وتاسست عام 1902 المدرسة اليهودية ، وعام 1903 اقيم النادي اليهودي . وقد لفت النشاط الكبير الذي قام به يهود شنغهاي اهتمام المنظمة الصهيونية العالمية التي افتتحت فرعا لها في المدينة عام 1903، وتبع ذلك افتتاح فرع للصندوق اليهودي العالمي . وفي عام 1904 ، اسس ن. عزرا صحيفة اسرائيل ماسينجر وقد بقي هذا الشخص رئيسا لتحرير الصحيفة المذكورة حتى عام 1936 ، ومنذ عام 1940 باتت الصحيفة الناطق الرسمي باسم المنظمات الصهيونية في كل جنوب شرقي اسيا. لكن الاوضاع في المدينة تغيرت مع الاحتلال الياباني لها عام 1937.فقد بدأت القوات اليابانية بفرض نفوذها وقوانينها هناك، وضيقت على الجميع بمن فيهم اليهود.وحاول التجار اليهود التفاهم مع اليابانيين واشراكهم في الاعمال التجارية – كما جرى مع الجنود البريطانيين – لكن طوكيو لم تستجب بشكل كامل ، واقتنع اليهود ان اعمالهم باتت في خطر ، لذلك قرروا العودة الى هونغ كونغ- المحمية البريطانية وتحويل ثرواتهم الى هناك. واستغل التجار اليهود الوضع الخاص للمدينة ، وقربها من الصين من اجل الاستمرار في عمليات تهريب الافيون وكل الممنوعات الى داخل المدن الصينية . لابل انهم نجحوا في توريط عدد من المسؤولين اليابانيين معهم. ونتيجة لذلك ازدادت ثروات التجار اليهود، واصبحت عائلة قادوري من اكبر اثرياء هونغ كونغ ، ولم تتغير الامور بعد عودة هونغ كونغ الى السيطرة الصينية في تسعينات القرن الماضي ، لا بل ان العائلات اليهودية في هونغ كونغ باتت احدى الجسور التي مرت عليها العلاقات الاسرائيلية الصينية.ويذكر كتاب ” اليهود في الصين: والذي صدر في لندن بثلاثة اجزاء عام 1942 لمؤلفه وليم تشارلز وايت ، ان يهود شنغهاي تمكنوا في الوقت المناسب من الهجرة الى هونغ كونغ بمساعدة القوات البريطانية، التي لم تنس الخدمات التي قدمها هؤلاء لهم للدخول الى الصين .وبعد ان دخلت اليابان الحرب الى جانب المانيا وقصفت بيرل هاربر عام 1941، فرضت السلطات اليابانية انظمة جديدة على شنغهاي طالت اليهود الذين بقيوا في المدينة.
وبالمناسبة ، لقد شعرت طوكيو انها ارتكبت بعض الاخطاء التي ادت الى هروب اثرياء اليهود من شنغهاي ، لذلك اقرت السلطات اليابانية سياسة جديدة لاستقطاب اليهود ،وطبقت هذه السياسة في منشوريا. وقد تحولت شنغهاي الى مركز لللاجئين اليهود الذين هربوا من المانيا ودول اوروبية اخرى. وفي الفترة ما بين 1936-1941 وصل عدد اليهود الذين هاجروا الى شنغهاي الى نحو 25000.وفي حزيران 1941 ، تراس العقيد الالماني يوسف ميزينغير وفدا من مكتب الغستابو في اليابان الى شنغهاي . وقد اطلع وفد الغستابو على اوضاع اليهود هناك ، ووجد ان عددا كبيرا منهم يمارس انشطة معادية لالمانيا. واقترح ميزينغير على اليابانيين اتخاذ اجراءات صارمة بحق هؤلاء ، لكن طوكيو التي كان لها حساباتها الخاصة في الصين لم تستجب للطلب الالماني ، و عوضا عن ذلك ، فقد احتضنت اليهود وبنت لهم معسكرات خاصة لتجميع المهاجرين ومنحتهم وثائق جديدة . هذه المعاملة اليابانية اتت كما سنرى اثر اتفاق بين طوكيو و اليهود يقضي بمساعدة اليابان في الاحتفاظ باحتلالها لمنشوريا الصينية.
والموجة الفعلية الثانية لوصول اليهود الى الصين ، كانت اوائل القرن العشرين. وكانت هذه الموجة مرتبطة بامرين: أولهما هي اشتداد الحروب بين روسيا واليابان،حيث أثرت هذه الحروب سلبا على الانشطة التجارية لليهود في روسيا . وقد عثر هؤلاء على مناطق أكثر استقرارا واستغلوا وجود خط حديدي يربط روسيا بشمال الصين ، من اجل الوصول الى مدن شمالي الصين مثل هاربين. والامر الثاني يعود الى افعال اليهود المشينة داخل روسيا ، والتي أدت الى تفاقم النقمة الرسمية والشعبية عليهم ،وهذا دفعهم الى الهجرة الى شمالي الصين.وتذكر المصادر الروسية ومن بينها كتاب ” مئتا عام سوية” للكاتب الروسي سولجينيتسن المعروف بتعاطفه الشديد مع اليهود( زوجته يهودية)، ان القيصر الروسي لم يترك وسيلة الا ولجأ إليها من اجل إرضاء اليهود. فهو قد منحهم الحق في التجول في كل انحاء الامبراطورية الروسية في الوقت الذي كان هذا الأمر محظورا على الروس، وهو- أي القيصر- أعطاهم حق التملك لأراضي القرم الزراعية الغنية، لكنهم بدل ان يعملوا في الأرض آثروا تأجيرها واستغلال الفلاحين الروس الذين كانوا يعانون من الرق والفقر. ثم إن القيصر منح اليهود امتياز إنتاج وتوزيع المشروبات الكحولية في الامبراطورية الروسية، وقد استغل اليهود ذلك من اجل التحالف مع الإقطاعيين لاسكار الشعب الروسي وتدويخه وصرفه عن الصراع ضد مستغليه. ورغم كل هذه المزايا التي قدمتها الحكومة الروسية لليهود، إلا أن – والكلام للكاتب الروسي- كراهيتهم لروسيا لم تتغير بل استمرت.
وفي المجال نفسه ، كتب عملاق الادب الروسي دستويفسكي عام 1877 مقالة بعنوان – المسألة اليهودية- في كتابه “يوميات كاتب” الصادر عام 1895 جاء فيها: “كم من مرة تلاقت أصوات المثقفين الروس دفاعاً عن اليهود، ولكن هل يأخذ اليهود في اعتبارهم معاناة الشعب الروسي؟ رغم شكواهم من الروس واتهامهم لهم لقرون عديدة عانى فيها الشعب الروسي نفسه، هل من الممكن إثبات أن هذا الشعب قد عانى في تاريخه كله ظلماً وشراً أقل مما عاناه اليهود أينما كانوا؟ وهل يمكن التصديق أن اليهودي ليس هو الذي كثيراً ما اتحد مع ظالمي هذا الشعب(الروسي)،و كثيراً ما تعهد اليهود لهؤلاء الظالمين بضبط الشعب الروسي، ومن ثم تحولوا هم انفسهم إلى ظالم له، لقد حدث كل ذلك بالفعل، وهذا تاريخ وحقيقة تاريخية، ومع ذلك فلم نسمع قط أن الشعب اليهودي قد ندم على ذلك، وفي ذات الوقت لا يزال يتهم الشعب الروسي بكراهية اليهود، إن تاريخ أنحاء روسيا شاهد على ان معاناة الشعب الروسي خلال عشرات ومئات السنين ازدادت حيثما حل اليهو”. ويضيف دستويفسكي:
“وماذا بعد؟ هل بوسعكم أن تتذكروا أية قبيلة أخرى من القبائل الغريبة في روسيا يمكن أن تتساوى بهذا المفهوم في نفوذها مع النفوذ الفظيع لليهود؟ لن تجدوها، فاليهود يتفردون بشذوذهم وأصالتهم في هذا المجال أمام جميع القوميات الروسية ،والسبب يعود بالطبع إلى (الجيتو) وإلى روحه التي تبث فيهم عدم الرحمة تجاه كل ما هو غير يهودي ،وعدم احترام أي شعب أو قومية أو أي جوهر إنساني آخر ما لم يكن يهودياً”.
وبالفعل ، فقد أثمرت هذه الكراهية اليهودية للروس عن مشاركة عدد من اليهود في المؤامرة لاغتيال القيصرالاصلاحي الكسندرالثاني ، ثم ان بعض اثرياء اليهود قد تواطؤا مع اليابانيين في حرب عام 1905 ومولوا أنشطة الجيش الياباني في شرقي روسيا .وكانت النتيجة ان خسرت روسيا هذه الحرب. ونتيجة لذلك شعر اليهود ان وضعهم بات غير مستقر في روسيا ، ولذلك هاجر أثرياؤهم إلى غربي الصين ، وتواطؤا هناك مع الاحتلال الياباني لمنشوريا الصينية.فضلا عن ذلك فقد خاف أثرياء اليهود من عواقب ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 التي انهت الحكم القيصري في روسيا ، وقرروا مغادرة روسيا مع اموالهم واستقر الأمر ببعضهم في شمالي الصين.
وقد اختار اليهود القادمون من روسيا مدينة هاربين الصينية مركزا لهم وذلك للأسباب التالية :1-قرب المدينة من الحدود الروسية الأمر الذي يسٌر لهم الاتصال مع بقية اليهود الذين بقوا في روسيا.2- كانت هاربين المحطة الأساسية التي أنشأتها الحكومة الروسية لخدمة سكة الحديد الشرقية التي مدتها الى مناطق شمالي الصين. وباعتبار ان سكان هذه المدينة كانوا من العمال والفنيين الروس ، فقد غلب هناك الطابع الروسي للحياة من الطعام واللباس والعادات، وهي أمور لم تكن غريبة على اليهود الذين هاجروا من روسيا.-3- كانت هاربين مركزا كبيرا للتجارة بين روسيا والصين ، فكانت تعقد فيها الصفقات التجارية الضخمة ، ثم ان البنية المصرفية كانت متقدمة فيها ، وهذا وفر لليهود بيئة جيدة لاستثمار اموالهم في مجالات مربحة.-4- كان الطقس في هاربين قريبا من طقس روسيا، فالحرارة في الشتاء تهبط الى نحو العشرين درجة تحت الصفر، اضافة الى كثرة الثلوج والامطار والغابات. لهذه الاسباب تحولت مدينة هاربين الى أكبر المراكز السياسية والاقتصادية والثقافية لليهود في عموم منطقة شرق آسيا إبان النصف الأول من القرن الماضى ..ومنذ تدشين خط سكة حديد “تشونغ – تونغ” – سكة الحديد الشرقية-عام 1898 وحتى ثلاثينات القرن الماضي بدأ اليهود يتدفقون الى مدينة هاربين – وغالبيتهم من يهود روسيا ويهود الشرق الأوسط (السفرديم ) ويهود أوروبا (الأشكناز) – حتى وصل عددهم الى أكثر من 25 ألف شخص وراحوا يعملون على إنشاء مجتمع يهودي متكامل الوظائف يضم المدارس و المستشفيات والبنوك والنوادى والمقابر حتى دور العجزة والمسنين