مرت السياسة التركية تجاه الكيان العبري منذ تأسيسه عام 1948 وحتى اليوم في عدة مراحل.
لا يمكن تبسيط التفصيل بالقول انه كانت هناك مرحلتان: أولى هي الحرب الباردة وما قبل حزب العدالة والتنمية، وثانية هي ما بعد حزب العدالة والتنمية.
المرحلة الثانية ليست في الحقيقة مرحلة واحدة، بل بدورها تتوزع إلى مراحل عدة.
المرحلة الأولى عندما اتبعت تركيا سياسة تعدد البعد، الذي لحظ الانفتاح على العالم العربي والإسلامي، لكنه استمر في علاقات قوية مع إسرائيل. وتجسد ذلك في أجلى تعبيراته بالقمة المشهورة التي عقدها الرئيس التركي عبد الله غول في القصر الجمهوري في أنقرة في خريف العام 2007، أي بعد انتخابه رئيسا بأسابيع قليلة، وضمت الرئيسين الإسرائيلي شمعون بيريز والفلسطيني محمود عباس. وحيث كان لبيريز أيضا «شرف» لم يحظ به أي مسؤول إسرائيلي آخر، حتى في ذروة تميز العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وهو التحدث أمام النواب الأتراك من منبر البرلمان التركي.
المرحلة الثانية في عهد حزب العدالة والتنمية بدأت مع العدوان على غزة، ووقفة رئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان في «دافوس» في نهاية كانون الثاني العام 2009، واستمرت هذه المرحلة متذبذبة حتى حادثة «أسطول الحرية» التي كانت ذروة التوتر بين الدولتين، لكنها كانت في الوقت ذاته بداية المرحلة الثالثة من العلاقات، التي استمرت حتى الخميس الماضي (الأول من أيلول) تاريخ إعلان أنقرة تدابير ضد إسرائيل.
وتميزت المرحلة الثالثة بموقف تركي «هادئ» من إسرائيل، بل متراجع، حيث لم يصدر أي موقف تركي حاد من إسرائيل، بل كانت تجري معها محادثات سرية لترميم العلاقات، وبرعاية الولايات المتحدة. وتخللها إرسال طائرات تركية لإخماد حرائق في إسرائيل لأسباب إنسانية. وتزامنت هذه المواقف المسالمة مع مواقف حادة جدا أطلقها المسؤولون الأتراك ضد سوريا ورئيسها بشار الأسد، ما يفوق أضعافا ما أطلقوه ضد إسرائيل على امتداد السنوات الثماني الماضية. كما نفد صبرهم من الأسد خلال أسابيع عديدة، في حين لم ينفد صبرهم على امتداد 15 شهرا من إسرائيل التي قتلت تسعة أتراك لا تزال دماؤهم في عرض البحر المتوسط. وهي مرحلة اتسمت، ولا تزال، بتنسيق تركي كامل مع الغرب وحلف شمال الأطلسي في قضايا عدة، آخرها ليبيا وسوريا والدرع الصاروخي.
الآن مع التدابير التي أعلنها وزير الخارجية احمد داود اوغلو الخميس الماضي، تدخل العلاقات التركية ـ الإسرائيلية مرحلة رابعة.
لا يمكن منذ الآن توصيف ما ستكون عليه العلاقات بين الدولتين في هذه المرحلة. إذ ان المواقف العربية، أو بالأحرى بعضها، وخصوصا الإعلام كما الشارع العادي، لم تعد تواجه المواقف التركية عموما وتجاه إسرائيل خصوصا بالحرارة نفسها التي كانت في السابق. إذ ان السياسة الخارجية التركية باتت لها حساباتها المتصلة بالدور التركي في المنطقة، وغير المرتبطة بثوابت العلاقة مع «أعماق استراتيجية» بل بالمصالح التي افترض»النظام» في أنقرة أنها تقتضي التعاون مثلا مع «الأطلسي» في ليبيا ومع واشنطن ضد سوريا ومع الغرب لنصب الدرع الصاروخي ضد ايران وسوريا وروسيا.
تقرير لجنة «بالمر» حول «اسطول الحرية» يقتضي النظر اليه من زاوية عقلانية، وليس من باب ان تركيا خفضت علاقاتها مع اسرائيل الى رتبة سكرتير ثان.
تقرير لجنة «بالمر» كان برأينا إخفاقا كبيرا للدبلوماسية التركية التي يقودها داود أوغلو، ويحرك نيرانها رجب طيب اردوغان:
1- ان التدابير التركية التي أعلنها داود اوغلو جاءت متأخرة 15 شهرا بالتمام والكمال. وهي مدة تزول فيها دول وتصعد أخرى.
2- منذ اللحظة الأولى لحادثة «أسطول الحرية» اكتفت أنقرة بسحب السفير التركي من تل أبيب. ولم تقم بأية خطوة مهمة مؤثرة للضغط على تل أبيب لتلبية مطلب الاعتذار والتعويض على الضحايا. بل بالعكس، بادرت تركيا إلى عدد كبير من المبادرات التي عكست أو على الأقل أعطت إسرائيل انطباعا بأن أنقرة في موقف ضعيف. فتكررت اللقاءات بين المسؤولين الأتراك، ومنهم داود اوغلو نفسه، والمسؤولين الإسرائيليين، وامتنعت عن إطلاق خطاب متشدد ضد الدولة العبرية. ولم تفتح تحقيقات قضائية في تركيا دفاعا عن الضحايا، بل وصلت التنازلات إلى درجة منع اردوغان سفينة «مرمرة» من المشاركة في «أسطول الحرية 2» كرمى لرجاء من الرئيس الأميركي باراك أوباما. وكل هذا لم يغير شيئا في المواقف الإسرائيلية ولا الأميركية. وهذا كله يعكس عدم فهم القيادة التركية للنفسية الصهيونية المتعجرفة التي لا تعرف سوى لغة القوة، وتعويل هذه القيادة (التركية) على دعم (وهمي) لها من واشنطن ضد الطفل المدلل للغرب.
3- لقد أخطأت تركيا في الأساس القبول بلجنة تحقيق «بالمر». إذ منذ لحظتها كان واضحا للأتراك أنفسهم أن رئيس اللجنة النيوزلندي ونائب الرئيس الكولومبي هما من عتاة المناصرين للصهيونية. وتأخير تشكيل اللجنة والطريقة التي تشكلت بها من جانب الأمين العام للأمم المتحدة المعروف بولائه المطلق للغرب وإسرائيل كان يجب أن يثير حفيظة أنقرة.
إن موافقة أنقرة على تشكيل اللجنة كما هي كان من اكبر الأخطاء، ولأن «الثلم الأعوج من الثور الكبير» فقد كانت النتائج معروفة سلفا. لذلك تتحمل تركيا سلفا النتائج التي وصلت إليها اللجنة، وأخطرها اعتبار الحصار على غزة مشروعا من الناحية القانونية، وهي وثيقة دولية لم تحصل عليها إسرائيل حتى في أفضل حالاتها، وأساءت إلى القضية الفلسطينية وخدمت إسرائيل من حيث تدري أو لا تدري.
4- أما الذهاب إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي فليس سوى مضيعة للوقت وذر الرماد في العيون، إذ يذهبون إلى منبر لا قيمة له. ومجرد أخذ رأي استشاري غير ملزم هو تذكير برأي المحكمة المشهور حول لا شرعية الجدار العازل الذي باع الفلسطينيين وقضيتهم من كيسهم مرة أخرى.
5- إن رفض إسرائيل الاعتذار كان السبب أيضا في إعلان تركيا أنها لن تترك مياه البحر المتوسط لهيمنة البحرية الإسرائيلية. ولو افترضنا أن الدولة العبرية اعتذرت بطريقة أو بأخرى، ألم يكن ذلك سببا أيضا لعدم تحرك تركيا البحري وإبقاء يد إسرائيل طليقة في شرق المتوسط؟
6- ولعل أخطر ما تسرب من تفاصيل المحادثات السرية بين تركيا واسرائيل ان حكومة حزب العدالة والتنمية كانت مستعدة مقابل اعتذار اسرائيل لتوقيع اتفاقية لها طابع دولي معها تلحظ تعزيز العلاقات التركية – الإسرائيلية على الصعيدين العسكري والاقتصادي. أي أن انقرة كانت مستعدة، بخلاف كل ما يظهر من شائعات، لاستمرار تحالفها وتعاونها مع إسرائيل. ولو تحقق ذلك فماذا كانت وسائل الإعلام والإنسان العربي ليقولا: هل سيشيدان بتركيا لأنها أرغمت إسرائيل على الاعتذار أم أنهما سيسائلان تركيا عن سبب تعزيز علاقاتها مع اسرائيل؟ إن مجرد استعداد تركيا لإبرام الصفقة مع اسرائيل في حال اعتذار الأخيرة يلقي الضوء على جوهر السياسة الخارجية التركية منذ سنة ونيف، وهو ان الدور التركي في المنطقة لم يعد قائما على أساس علاقات حسن الجوار والمسافة الواحدة من الجميع بل على أساس سياسات جديدة قائمة على التنسيق الكامل مع السياسات الغربية التي تستهدف قوى معينة في المنطقة، ومن أبرز علامات ذلك نصب الدرع الصاروخي على الأراضي التركية، الموجّه أساسا ضد ايران والموقف الحاد غير المسبوق من النظام في سوريا والمشاركة العملية في عمليات «الأطلسي» ضد ليبيا.
لا يمكن لتركيا أن تكون جزءاً من بنية السياسات الغربية في المنطقة وان تكون في الوقت ذاته ضد اسرائيل. لذلك فإن التوتر الحالي بين أنقرة وتل أبيب لا يعكس حقيقة التموضع التركي الجديد، الذي حسم خياره في ان تكون تركيا جزءا من السياسات الغربية والأميركية تحديدا في المنطقة. وهنا، ونتيجة للتجارب مع السياسات التركية في المنطقة في مراحل حقبة حزب العدالة والتنمية، لا تزال انقرة تبحث عن مصالحها من النافذة الغربية. وهي سمة طبعت للمفارقة جميع الحقبات التي حكمت فيها حكومات تركية ذات طابع إسلامي، من عدنان مندريس الى طورغوت اوزال الى رجب طيب اردوغان، وهو ما يلقي ظلالا سميكة على كل هذا الضجيج الذي يرافق التدابير التركية ضد إسرائيل.
وحده فك تركيا ارتباطها البنيوي بالمشروع الغربي في المنطقة، على كل المستويات (لا يعني ذلك معاداة الغرب ولا القطيعة معه)، وهذا لا يبدو في الأفق المنظور، يمكنه أن يقنع الإنسان العربي العادي، لا الأنظمة بالطبع، بأن تدابير أنقرة الأخيرة من إسرائيل جزء من مسار جدي لعودة تركيا إلى عمقها الاستراتيجي الحقيقي الذي فرّطت فيه مقابل ثلاثين من الفضة.
السفير