https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

قررت محكمة الصلح الإسرائيلية في منطقة حيفا، رفض الدعوى التي تقدم بها والد الطفلين، أحمد وعمره عشر سنوات وبيسان وعمرها ست سنوات، ضد بلدية مدينة «كرميئيل» التي أقيمت على أراضي عربية منهوبة، لخرقها الالتزام بتغطية سفرهما إلى المدارس. واستند قاضي محكمة الصلح في قراره إلى قانون القومية، الذي جرى سنّه عام 2018، والذي يمنح اليهود الأفضلية والامتيازات في مناحي الحياة كافة، ويمكن تسميته بـ»قانون الأبرتهايد الإسرائيلي».

وجاء في قرار المحكمة: «إن إقامة وتطوير مستوطنة يهودية هو قيمة قومية علينا منصوص عليها في القانون.. كرميئيل هي مدينة يهودية هدفها ترسيخ الاستيطان اليهودي في الجليل. وإقامة مدرسة عربية أو تمويل سفريات الطلاب إلى مدارسهم في القرى المجاورة من شأنه أن يؤدّي إلى تغيير التوازن الديمغرافي ويضر بطابع المدينة… البند السابع لقانون أساس (له مكانة دستورية) «إسرائيل ـ الدولة القومية2 للشعب اليهودي» ينص على ان الدولة ترى في تطوير الاستيطان اليهودي قيمة قومية عليا، وتلتزم بتشجيعه وتوسيعه وترسيخه».

ويثير هذا القرار ثلاث قضايا في غاية الأهمية وهي، عنصرية القضاء الإسرائيلي، وقانون القومية، ومشروع تهويد الجليل. كلّها قضايا تفضح طابع الدولة العبرية كدولة ذات طابع كولونيالي عنصري، ينتمي نظامها إلى عائلة أنظمة الأبرتهايد، وليس إلى الأنظمة الديمقراطية كما تدعي أبواق دعائية صهيونيه ومتصهينة.

عنصرية القضاء الإسرائيلي: هناك وهم منتشر في أوساط النخب السياسية في الغرب بأن الجهاز القضائي الإسرائيلي هو كلب حراسة أمين للديمقراطية وحقوق الأنسان، حتى لو كانت هناك مشاكل في سياسات السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، فإن هذا القضاء يرسم خطًّا أحمر أمام أي محاولة للمس بالحقوق الأساسية. هذه كذبة متداولة حتى في المنظمات الدولية، التي ترد الكثير من الشكاوى ضد خرق النظام الإسرائيلي لحقوق الإنسان بطلب «استنفاذ الإجراءات القانونية المحلية» ما معناه منح الشرعية لنزاهة وعدالة القضاء الإسرائيلي والدعوة إلى التوجه إلى المحاكم الإسرائيلية أولًا. يمكن تلخيص قرارات المحاكم الإسرائيلية بخصوص حقوق الفلسطينيين عمومًا، في مناطق 48 ومناطق 67، بأنه في القضايا المهمّة والجوهرية، وبالأخص قضايا الأرض والمسكن والمواطنة والأمن، فإن المحاكم الإسرائيلية، تمنح شرعية جارفة لخرق حقوق الإنسان وللسياسات الكولونيالية العنصرية. وفقط في القضايا الهامشية، التي لا تمس نواة المبدأ الصهيوني، تنظر المحاكم وتبحث بجدية، وأحيانًا تنتصر لحقوق الانسان وغالبًا تقوم بالتهرب من اتخاذ قرارات ملزمة. هذه الـ»أحيانًا» هي ما تسوّقه إسرائيل داخليًا وخارجيًا، للدلالة على «العدل». ولكن اليمين المتطرف الصاعد في إسرائيل لا يكتفي بذلك ويسعى إلى تضييق الخناق على هامش «حقوق الإنسان» عبر تغيير القضاة وسن قوانين عنصرية جديدة، وسيكون هذا هو شعار نتنياهو المركزي في حملته الانتخابية المقبلة.

يوجد في كتاب القوانين الإسرائيلي حوالي 60 قانونًا عنصريًا صريحًا. ومنها ما يتعلّق بالمواطنة مثل «قانون العودة» الذي يمنح جنسية فورية لأي يهودي في العالم بمجرد ان تطأ قدماه أرض فلسطين، وقانون «منع لم الشمل» الذي لا يسمح لآلاف العائلات الفلسطينية من طرفي الخط الأخضر بالعيش داخل إسرائيل، ما يؤدّي إلى تمزيق هذه العائلات ويجعل الحب الفلسطيني خارج القانون، ويردع الشباب عن الزواج خارج الحدود التي فرضها الاحتلال. أما القوانين الخاصة بالأرض فهي مصمّمة كي تعمل باتجاه واحد، وهو مصادرة الأرض من الفلسطينيين ونقلها إلى ملكية يهودية عامة، أو خاصة. وجرى استنادًا إلى هذه القوانين الاستيلاء على أملاك اللاجئين كافة، ومصادرة أكثر من 70% من أراضي فلسطينيي الداخل، الذي يحملون رسميًا المواطنة الإسرائيلية. وإذ تستند المحاكم الإسرائيلية إلى هذه القوانين العنصرية وتفسرها وتطبّقها، فإنها تساهم مباشرة في صناعة الأبرتهايد بصيغته المحلية، مع تكرار الادعاء الوقح بأن «أهم مبادئ الديمقراطية هو فرض «سلطة القانون» حتى لو كان القانون عنصريًّا.

قانون القومية ـ دستور الابرتهايد: رغم نجاعة القوانين الإسرائيلية القائمة في حماية مشروع النهب الصهيوني من «خطر» حقوق الإنسان الفلسطيني، فإنّ الكنيست الإسرائيلي لم يكتف بذلك وقام بسن قانون القومية كإطار قضائي عام وشامل للمشروع الصهيوني، وما يستند إليه من أسس وقواعد، وما يتفرع منه من سياسات ومواقف، ولسد الثغرات التي من الممكن أن تتسلل منها «حقوق الإنسان الفلسطيني». والنتيجة أن تلخيص مبادئ الصهيونية في نص قانوني أنتج وثيقة عنصرية رسميّة.

جرى تمرير قانون «إسرائيل ـ الدولة القومية للشعب اليهودي» يوم 19.7.2018، بأغلبية 62 مقابل 55 عضو كنيست، وهو قانون أساس له مكانة دستورية، ما يعني ان القوانين تفسّر استنادًا إليه ويمنع سن أي قانون يتعارض معه، وهو بمثابة مرجعية عليا للقضاء الإسرائيلي، وحتى للدولة كلّها. وينص هذا القانون على أن «أرض إسرائيل» هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي في أرجاء المعمورة، وفيها قامت دولة إسرائيل، وحق تقرير المصير في هذه الدولة هو للشعب اليهودي وحده. كما ينص القانون على أن «القدس الموحدة» هي العاصمة، واللغة العبرية هي اللغة الرسمية (مع إلغاء مكانة اللغة العربية كلغة رسمية) والتقويم العبري هو التقويم الرسمي. ويعتمد القانون على مبدأ «لم الشتات» وتشجيع الهجرة اليهودية، وجاء في البند السابع، الذي استندت إليه المحكمة الإسرائيلية في قرار التمييز العنصري، ضد طلّاب الجليل، أن مهمة توسيع وتطوير وترسيخ الاستيطان اليهودي، هي قيمة قومية عليا.

قانون القومية هو، عمليًّا ورسميًّا، دستور الأبرتهايد الإسرائيلي. ويمكن قراءة نصّه الكامل مترجمًا وتحليل مفصّل له في مقال لكاتب هذه السطور في العدد 116 (خريف 2018) من مجلة «الدراسات الفلسطينية» وهذا القانون هو مدخل مهم لفهم المبادئ المؤسسة والموجّهة لمشروع الدولة الصهيونية، ببعده العقائدي والتاريخي، وصيرورته الآنية ومنحاه المستقبلي. وهو قانون ليس كأي قانون ووثيقة ليس كأي وثيقة، فهو «بأل» التعريف الوثيقة الأهم والمرجعية العليا للدولة العبرية في القرن الحادي والعشرين، وجاءت لتحتل مكانة الوثيقة المؤسسة للدولة العبرية وهي «إعلان الاستقلال» الذي تلاه بن غوريون يوم 15/5/1948، والذي نحييه سنويًا كيوم نكبة فلسطين. الفرق المركزي بين الوثيقتين، ان نص «إعلان الاستقلال» يتضمن التزامًا بمبدأ المساواة وعدم التمييز (ولو لفظيًّا) في حين ان قانون القومية يخلو عمدًا من أي ذكر للمساواة والديمقراطية.

مشروع تهويد الجليل: قدّم القاضي، الذي أصدر القرار برد الدعوى ضد عدم التزام بلدية «كرميئيل» بدفع تكلفة سفر أحمد وبيسان إلى مدرستهما، تبريرات تقنية «كافية» لتبرير قراره، ولكنّه تعمّد الاستناد إلى قانون القومية ليحوّل القضية التي بدأت وبدت «إدارية» الطابع إلى قضية مبدئية عقائدية، وليوجه رسالة أن المسألة ليست تكلفة سفر أحمد وبيسان إلى المدرسة، بل حق وواجب البلدية في المحافظة على المدينة كمدينة يهودية، ومواجهة «التهديد» الديمغرافي العربي. لم تر المحكمة الإسرائيلية أنّ أحمد وبيسان طفلان وطالبان لهما حقوق، بل «خطر» محدق يهدد الطابع اليهودي لمدينة كرميئيل.ما هي هذه المدينة وما أصلها وما فصلها؟ لقد أقيمت كرميئيل عام 1964 في إطار مشروع تهويد الجليل المتواصل منذ النكبة، الذي يهدف إلى تغيير التوازن الديمغرافي في الجليل، ليصبح اليهود أكثرية والعرب اقلية، ويرمي أيضًا إلى تقطيع التواصل الجغرافي بين التجمعات والبلدات العربية. أقيمت كرميئيل في منطقة الشاغور في قلب الجليل على أراضي مصادرة من قرى نحف ومجد الكروم والبعنة ودير الأسد والرامة، وفوق قرية الرمية، التي ما زال من تبقّى من أهلها يواجهون خطر الاقتلاع. وبعد التهام مساحات شاسعة من أراضي القرى العربية في الشاغور، تقلصت الرقعة على أهاليها وتفاقمت الأزمة السكنية ما دفع بأعداد متزايدة إلى الانتقال للسكن في مدينة كرميئيل، وقد وصلت نسبتهم اليوم إلى 6% من السكان، البالغ إجمالي عددهم حوالي 55 ألفًا. وإذ يبلغ عدد الطلاب العرب المسجلين رسميًا في البلدية حوالي 500 طالب (هناك المئات من غير المسجلين لأن عائلاتهم لم تنقل عنوان الإقامة) فإن من الطبيعي ان تقام مدرسة خاصة بهم، لكنّ أنظمة الأبرتهايد الإسرائيلي لا تسمح بذلك. لا يمنع القانون الإسرائيلي (حاليًّا) سكن العرب في المدينة، لكنّه يعرقل ويردع ذلك إذ لا يحمي حقّهم في التعليم والعبادة، ويمنع إقامة المدارس العربية والمساجد والكنائس، حفاظًا على طهارة طابع المدينة اليهودي.

حالة مماثلة نجدها في مدينة الناصرة العليا (غيّر اسمها مؤخّرًا إلى نوف هجليل ـ منظر الجليل) التي أقيمت على أراضي مصادرة من اهالي الناصرة والقرى المجاورة عام 1956، استنادًا إلى خطّة أمنية أعدها، رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الأمن دافيد بن غوريون، وشملت مشروع «تهويد الجليل والناصرة». وقامت حينها «لجنة الدفاع عن أراضي الناصرة» بالتوجه إلى المحكمة، وكان الرد، أن المشروع ليست فيه «نوايا للتمييز». وفي حين تهدف مشاريع إقامة «مدينة جديدة بجوار مدينة قديمة» إلى تشكيل رافعة للتطوير والتحديث، فإن مشروع الناصرة العليا هدف إلى خنق مدينة الناصرة. لقد حصل ذلك فعلًا واضطر الآلاف من أهالي الناصرة والمنطقة إلى السكن في الناصرة العليا، ورغم أنهم يشكلون اليوم حوالي 30% من السكان، إلا أن البلدية والدولة ترفضان إقامة مدرسة عربية، ناهيك من منع إقامة مساجد وكنائس. رغم كل مخططات ومشاريع التهويد، بقيت أكثرية سكان الجليل من العرب، حيث تبلغ نسبتهم اليوم 57% مقابل 43% يهود. ويقضّ «الخلل» في التوازن الديمغرافي مضاجع المؤسسة الإسرائيلية، التي تعمل على تغيير هذا الواقع وتشجيع هجرة واستيطان اليهود في الجليل، عبر الإغراء بتخفيضات ضريبية وتسهيل الحصول على مسكن، ومدّ خطوط مواصلات سريعة إلى منطقتي حيفا وتل ابيب. كما تقوم بمحاولات حثيثة للمحافظة على «نقاوة» الطابع اليهودي للمستوطنات الكبيرة والصغيرة، بما ينسجم مع المبادئ المعلنة لقانون القومية العنصري. يحظى الاستيطان الإسرائيلي في المناطق المحتلة عام 1967، باهتمام واسع، لكنّ الاستيطان الصهيوني في الجليل والنقب لا يقل فظاعةً، فهو يقوم على الاقتلاع ونهب الأرض ومحاصرة الوجود الفلسطيني. إن ربط هذا الاستيطان بقانون القومية العنصري يمنحنا فرصة لإثبات أن العنصرية الاستعمارية الصهيونية لم تولد عام 67، بل هي جوهر المشروع الصهيوني منذ بدايته. لقد حاولت إسرائيل على مدى عقود طويلة تمويه طابعها الكولونيالي العنصري، إلى ان جاء قانون القومية، الذي تفضح فيه إسرائيل نفسها وبنفسها. ولأول مرّة نحن أمام وثيقة إسرائيلية رسمية تعترف وتقر بالابرتهايد، ويمكن ويجب استغلال ذلك لصالح الحق الفلسطيني. القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة عشر + تسعة =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube