المؤلفان: برتران بادي ودومينيك فيدال، تبدو الشعبوية لمَن يتتبّع دلالتها في الدراسات العائدة للاختصاصيين من حقولٍ وميادين علمية مُختلفة، والذين جمعهم كِتاب «أوضاع العالم 2019»، كطائرِ الفينيق الأسطوري الشهير الذي كان يعاود الانبعاث مرّة بعد مرّة. فيستهلّ برتران بادي بالحديث عن «عودها الأبدي» مرّة، و«عَودها اللجوج» مرّة أخرى. لكنّ الأبد الذي يشير إليه بادي هو أبدٌ له بداية. وهو يبدأ عند أستاذ عِلم السياسة غي هيرميه في أواخر القرن التاسع عشر، الحقبة التي شهدت ولادة الشعبويات الأولى: النارودنيكي الروس، والبولانجيين الفرنسيين، وحزب الشعب الأميركي، والإيروغينية الأرجنتينية. وإذا كانت مَوجة الشعبويات الأولى ستنتهي لأسبابٍ مُختلفة (الثورة البلشفيّة في روسيا، الجمهورية الرابعة في فرنسا، الانقلاب العسكري في الأرجنتين)، إلّا أنّ مَوجة ثانية ستولد فيما بين الحربَيْن العالميّتَين؛ ففي دراسته «الفاشية، أسطورية الحقد وسياسته»، يجعل زئيف شتيرنيل من الفاشية الإيطالية محور هذه الشعبوية وأساسها، في حين ستخلف البوجادية البولانجية في فرنسا. ولا يتردّد دومينيك باري في دراسته «ماو وخلفاؤه وخطّ الجماهير»، في إدراج ماو تسي تونغ «وشعبويّته الريفية» بين أقطابها. ويجعل الباحث في عِلم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي رافاييل ليوجيه في دراسته «الشعبوية المائِعَة في الديمقراطيات الغربية» من فيديل كاسترو، زعيماً شعبوياً لداعي افتراض تجسيد الزعيم للشعب بكلّيته. – موجات الشعبوية وأشكالها هذه المَوجة الثانية، كانت تقترن وفقاً لفيليب مارليير، «بالنّظم القيصرية الأميركية اللاتينية، التي يحكم فيها ديكتاتور يستند إلى الشعب». ورينيه مونزا يضيف إلى هؤلاء شعبويات الاستقلالات التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً الناصرية والدعوة إلى الوحدة العربية في مصر، وما يسمّيها شعبويات حركات التحرّر الوطني والاستقلالات. فقد كان العالم الثالث الذي نشأ حينها قد باشر نهوضه ولكنْ على أُسسٍ شعبوية. ويشير مارك فيرّو إلى بروز شكلٍ جديد من الشعبوية، هي تلك التي وجدها في العالم الثالث، والتي تستند إلى الطائفة أو العِرق أو القبيلة، كما في أفريقيا وبعض آسيا، وكذلك فعل فرنسوا بورغا الذي ربط بينها وبين «الإسلاموية». ثم هناك الشعبويات التي اندلعت بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الوسطى والشرقية بخاصّة، وكان لها منظّروها من الرئيس التشيكي فاكلاف هافيل إلى الروسي سولجينيستين إلى البولوني ميشنيك. وقد شهدت أوروبا كوكبة واسعة من الأحزاب والحركات الشعبوية، إذ وصل بعضها إلى سدّة الحُكم كما في هنغاريا وبولونيا وإيطاليا، أو دخَل في حكومات، أو حقّق تقدّماً لم يعُد يُمكن تجاهله كما هو الحال في النمسا وإسبانيا وبلدان إسكندنافيا. هناك أخيراً الشعبويات التي يربطها رافاييل ليوجيه بأزمة عام 2008 العالمية المُعولَمة. وهو لا ينكر صلتها بشعبويات سنوات ما بين الحَربيْن، لكنّها هذه المرّة، برأيه، شعبوية وليست آيديولوجية. فهي لا تتغذّى من عقيدة ماركسية أو فاشية كما كان الحال في ثلاثينات القرن الماضي، بل تُعاني من فقدان آيديولوجيات القرن العشرين للمصداقية. إنّها شعبوية موسومة بسِمات الضيق والقلق من العَولَمة وآثارها. والضيق يتّخذ هنا صورة «الهجرة الزاحفة» أو التوجّس من «رأسمالية لا تعترف بأي حدود» أو يتبنّى صورة «أسلَمة العالم»؛ وهذا يجعلها تتميّز عن شعبويات ما بين الحَربيْن التي كانت تُعاني من الإحساس بالتطويق: دول – أُمم تطوّق دُولاً – أُمماً. أمّا شعبويات اليوم، فتعاني من قلقٍ يتّخذ صورة المُسلِم المكروه، والغجري المطرود، والمُهاجِر المرفوض. وشعبوية اليوم هي شعبوية رأي. إنّها من هذه الزاوية تقبل التوصيف «بالشعبوية المائعة» أو «السائلة» وفقاً لتوصيف رافاييل ليوجيه: «تظهر متأرجِحة متقلّبة في العمق». وتبدو كلّها كأنّها تغيّر موضوع عدائها، فهو المُسلِم وهو الغجري (Rom) وربّما يكون اليهودي، والمُهاجر. بل إنّه طرأ جديد. فدولة العناية أو الرعاية التي لطالما كانت البلدان الإسكندنافية مثالها وتجسيدها، باتت مُصابة بعارض الشعبوية. لكن إلى ماذا يتطلّع شعبويّوها هي؟ الأجوبة تقول إنّهم لا يتطلّعون، بل يتوجّسون خطر العَولمة والهجرة والأزمة، ولا سيما الأخيرة منها (أزمة 2008). ويرى فيليب ريوتور أنّ ثمّة سِمات مُشترَكة بين الشعبويات، تتمثّل في أنّها حركات تبحث عن الإجماع بأي ثمن، وأنّها على الرغم من الخلافات العميقة بينها، تخوض حرباً آيديولوجية ضدّ المعارضين والمُنتقدين. وهي عند جان كلود مونو تبدو كأنّها تتحدّى مقولات العلوم السياسية. وتبدو الشعبوية عند جان – إيف كامو، أسلوباً سياسياً، أو أسلوباً في الحُكم. ويستند فرنسوا بورغا إلى المؤرّخ فيليب روجر الذي تشير الشعبوية لديه «إلى مُركّب معقّد من الأفكار والتجارب والممارسات، لا يسع أي تصنيفية، بالغاً ما بلغ تمحيصها وتنقيبها، أن تستغرقها كلّها أو تستنفدها جميعها