https://chinaasia-rc.org/wp-content/uploads/2020/07/CAC.png

في مختلف أنحاء العالم اليوم يسود شعور بنهاية عصر، وهو نذير عميق بتفككمجتمعات كانت مستقرة في سابق عهدها. في أبيات خالدة من قصيدته العظيمة “المجيء الثاني”، يقول الشاعر ويليامبتلر ييتس: الأشياء تتداعى، ويعجز المركز عن الصمودويُطلَق العنان للفوضى تجتاح العالم.. فلا يجد الصالح سبيلا للإقناع، بينما الطالحتملؤه قوة متوقدة.. وأي وحش فظ هذا الذي يفيق أخيراويمشي محدودبا صوب بيت لحم كي يولد؟كتب ييتس هذه الأبيات في يناير/كانون الثاني 1919، بعد مرور شهرين منذ وضعتالحرب العالمية الأولى أوزارها، وقد استشعر على نحو غريزي أن السلام سوفيتقهقر مُفسحا المجال لأهوال أعظم. وبعد ما يقرب من الخمسين عاما، وبالتحديد في عام 1967، اختارت الكاتبةالأميركية جوان ديديون “يمشي محدودبا صوب بيت لحم” كعنوان لمجموعة منالمقالات عن الانهيارات الاجتماعية في أواخر ستينيات القرن العشرين. وفي الأشهر الاثني عشر التي تلت نشر الكتاب، اغتيل مارتن لوثر كنغالابن، وروبرت كينيدي، واندلعت أعمال الشغب في المدن الداخلية في مختلفأنحاء الولايات المتحدة، وبدأ الطلاب الفرنسيون المحتجون التمرد الذي أطاحبالرئيس شارل ديغول بعد عام. وبحلول منتصف السبعينيات، خسرت أميركا الحرب في فيتنام، وكانت منظمات مثلمنظمة اللواء الأحمر في إيطاليا، ومنظمة الصمود تحت الأرض اليسارية فيالولايات المتحدة، والجيش الجمهوري الأيرلندي، ومنظمة الإرهابيين الفاشيينالجدد في إيطاليا، تشن الهجمات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا،وبفضل دعوى عزل الرئيس ريتشارد نيكسون تحولت الديمقراطية الغربية إلى مادةللسخرية. واليوم مرت خمسون سنة أخرى، وبات العالم مرة أخرى نهبا للمخاوف حول فشلالديمقراطية. تُرى هل يمكننا استخلاص بعض الدروس من تلك الفترات السابقةالتي اتسمت بالشك الوجودي في الذات؟في العشرينيات والثلاثينيات، وأيضا في الستينيات والسبعينيات، ومرة أخرىاليوم، كان اليأس من السياسة مرتبطا بخيبة الرجاء في نظام اقتصادي فاشل. فيفترة ما بين الحربين، بدا الأمر وكأن الرأسمالية محكوم عليها بالزوال بفعلالتفاوت المفرط بين الناس والانكماش والبطالة الجماعية. وفي الستينيات والسبعينيات، بدا الأمر وكأن الرأسمالية تنهار للأسبابالمعاكسة تماما: التضخم، وردود الفعل العكسية من قِبَل دافعي الضرائبوالمصالح التجارية ضد سياسات إعادة التوزيع التي تتبناها “الحكومة الضخمة”. ولا يعني ذكر هذا النمط من الأزمات المتكررة أن قانونا ما من قوانينالطبيعية يملي شبه انهيار للرأسمالية العالمية كل خمسين إلى ستين عاما،ولكنه يعني إدراك حقيقة مفادها أن الرأسمالية الديمقراطية نظام متطوريستجيب للأزمات بتحويل العلاقات الاقتصادية والمؤسسات السياسية بشكل جذري. ولهذا، ينبغي لنا أن نرى في اضطرابات اليوم استجابة متوقعة لانهيار نموذجبعينه من نماذج الرأسمالية العالمية في عام 2008، وإذا حكمنا من خلال تجاربالماضي، فربما تكون إحدى النتائج المحتملة عشر سنوات أو أكثر من البحث عنالذات والاستقرار، والتي قد تنتهي إلى تسوية جديدة لكل من السياسةوالاقتصاد. وهذا هو ما حدث عندما أتى انتخاب مارغريت تاتشر ورونالد ريغان في أعقابالتضخم الكبير في أوائل سبعينيات القرن العشرين، وعندما تمخضت أزمة الكسادالعظيم في الثلاثينيات عن الصفقة الجديدة و”الوحش الفظ” الذي تمثل في إعادةتسليح أوروبا، وقد اتسمت كل من هاتين التسويتين بعد الأزمة بتحولات فيالفكر الاقتصادي فضلا عن السياسة. فقد أدى الكساد العظيم إلى اندلاع الثورة الكينزية في الاقتصاد، جنبا إلىجنب مع الصفقة الجديدة في السياسة، واستفزت الأزمات التضخمية في الستينياتوالسبعينيات ثورة ميلتون فريدمان النقدية المضادة التي ألهمت تاتشر وريغان. وبالتالي فقد بدا من المعقول أن نتوقع أن يتسبب انهيار الرأسمالية الماليةالمتحررة من الضوابط والقيود التنظيمية في إحداث تغير هائل رابع (أوالرأسمالية 4.0 كما أسميتها في عام 2010) في كل من السياسة والفكرالاقتصادي. ولكن إذا كانت الرأسمالية العالمية تدخل مرحلة ثورية جديدة حقا،فما هي سماتها المحتملة؟كانت السمة المميزة لكل مرحلة متعاقبة من مراحل الرأسمالية العالمية التحولفي الحدود بين الاقتصاد والسياسة. ففي رأسمالية القرن التاسع عشرالتقليدية، كانت السياسة والاقتصاد يتجسدان من الناحية المثالية في مجالينمتميزين، وكانت التفاعلات بين الحكومة والقطاع الخاص تقتصر على تحصيلالضرائب “الضرورية” لتغطية نفقات المغامرات العسكرية والحماية “الضارة” للمصالح الخاصة القوية. وفي المرحلة الكينزية الثانية من الرأسمالية، كان يُنظر إلى الأسواق بعينالريبة، في حين اعتُبر التدخل الحكومي صحيحا. وفي المرحلة الثالثة -التيهيمنت عليها مارغريت تاتشر ورونالد ريغان- انقلبت هذه الافتراضات، فكانتالحكومة خاطئة عادة والسوق على صواب دائما. وربما يمكن تعريف المرحلةالرابعة بالاعتراف بإمكانية ارتكاب أخطاء مأساوية من طرف الحكومات والأسواقعلى حد سواء. وربما يبدو الاعتراف بهذه “اللاعصمة” التامة مُحبِطا، ويبدو من المؤكد أنالمزاج السياسي الحالي يعكس هذه الحال، ولكن الاعتراف بعدم العصمة من الخطأقد يكون في واقع الأمر أداة تمكين، لأنه يعني ضمنا إمكانية التحسن في كلمن الاقتصاد والسياسية. ولكن إذا كان العالَم معقدا وغير متوقع إلى الحد الذي يمنع الأسواق أوالحكومات من تحقيق أهداف اجتماعية، فإن هذا يستلزم تصميم أنظمة جديدة منالضوابط والتوازنات حتى يصبح بوسع عملية اتخاذ القرار السياسي أن تقيدالحوافز الاقتصادية والعكس بالعكس. وإذا كان العالم يتسم بالغموض واستحالةالتنبؤ بتقلباته، فلابد من إعادة النظر في النظريات الاقتصادية التي سادتفي فترة ما قبل الأزمة (التوقعات العقلانية، وكفاءة الأسواق، وحياديةالمال). وعلاوة على ذلك، ينبغي للساسة أن يعيدوا النظر في الكثير من البناءالإيديولوجي الخارق الذي أقيم على افتراضات أصولية السوق، ولا يشمل هذاإلغاء القيود التنظيمية المالية فحسب، بل وأيضا استقلال البنوك المركزية،والفصل بين السياستين النقدية والمالية، والافتراض بأن الأسواق المتنافسةلا تحتاج إلى تدخل الحكومة لإنتاج عملية توزيع دخل مقبولة، ودفع الإبداع،وتوفير البنية الأساسية الضرورية، وتسليم المنافع العامة. من الواضح أن التكنولوجيات الجديدة وعمليات إدماج المليارات من العمالالإضافيين في الأسواق العالمية خلقت الفرص التي ينبغي لها أن تعني المزيدمن الازدهار في العقود المقبلة مقارنة بمستويات ما قبل الأزمة، ومع هذايحذر الساسة “المسؤولون” في كل مكان مواطنيهم من “معتاد جديد” يتسم بالنموالراكد. ليس من المستغرب إذن أن تثور ثائرة الناخبين. يستشعر الناس أن قادتهم يملكون الأدوات الاقتصادية القوية الكفيلة بتعزيزمستويات المعيشة، حيث من الممكن طباعة النقود وتوزيعها بشكل مباشر علىالمواطنين، ومن الممكن رفع الحد الأدنى للأجور للحد من التفاوت بين الناس. وبوسع الحكومات أن تزيد من استثماراتها في البنية الأساسية والإبداعبتكاليف لا تتجاوز الصفر. ومن الممكن أن يعمل التنظيم المصرفي على تشجيعالإقراض بدلا من تقييده. ولكن نشر مثل هذه السياسات الراديكالية يعني رفض النظريات التي هيمنت علىالاقتصاد منذ ثمانينيات القرن العشرين، جنبا إلى جنب مع الترتيبات المؤسسيةالتي تقوم عليها، مثل معاهدة ماستريخت في أوروبا، والواقع أن قلة منالأشخاص “المسؤولين” ما زالوا على استعداد لتحدي العقيدة الاقتصادية التيسادت قبل الأزمة. تتلخص الرسالة التي تبثها الثورات الشعبوية اليوم في أن الساسة لابد أنيمزقوا دليل اللوائح التنظيمية الذي تعودوا على العمل وفقا له قبل الأزمة،وأن يعملوا على تشجيع ثورة في الفكر الاقتصادي، وإذا رفض الساسة المسؤولونذلك، “فمن المؤكد أن وحشا فظا سوف يفيق أخيرا” لكي يقوم بهذه المهمةبالنيابة عنهم.

بروجيكت سينديكيت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

9 − ستة =

Share via
Copy link
Powered by Social Snap
Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookVisit Us On Youtube